مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 19/04/1996

سنن الله في عباده إذا كثر فيهم الخبث

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

إن الإنسان مهما فوجئ بالأحداث المؤسفة أو المؤلمة لن يجد فيها لغزاً غير مفسرٍ على ضوء إيمانه بالله عز وجل، بل لسوف يجد كل هذه الأحداث التي يراها من حوله خاضعةً لسنن الله سبحانه وتعالى في عباده، والإنسان المسلم إنما يكتشف هذه السنن ويتعلمها من كتاب الله عز وجل، لا من التاريخ البشري ولا من واقع المصائب أو الرزايا أو الوقائع البشرية الماضية.

لو كان التاريخ وحده بياناً لسنن الله في عباده؛ لأغنانا ذلك عن تنزل خطاب الله سبحانه وتعالى وحياً من السماء، فمهما رأى المسلم في هذا العصر أو في غير هذا العصر من الأمور التي تستجد من حوله خيراً كانت أو شراً، فإن ذلك كله داخلٌ بدقة في سنن الله وقوانينه التي يجريها على عباده، ونحن عندما نستعرض هذه السنن الكونية ونطبق الواقع عليها نجد فيها المزيد على إعجاز البيان الإلهي، وعلى أن هذا الكلام الرباني منزل ٌ من علياء الربوبية وليس نابعاً من أرض البشرية قط.

من السنن الكونية قول الله سبحانه وتعالى: "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ" هذا قانونٌ من قوانين الله عز وجل في عباده، وهو قانونٌ ماضٍ إلى يوم القيامة.

ولكن مهلاً أيها الإخوة إلى جانبه قانونٌ آخر يُقيده ويضبطه ومن ثم فهو يتممه، هو قول الله عز وجل بعد ذلك: "لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ"، قرار الله عز وجل الأول ماضٍ في عباده إلى يوم القيامة، فالكافرون الذين ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله سينفقونها، ولكنها ستكون حسرةً عليهم وسيُغلبون، ولكن مع ملاحظة القانون الثاني: "لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ" أي هذا عندما يكون في المجتمع خبيث وإلى جانبه طيب، عندما يكون فريقٌ من الناس يمثلون خبث الإنسانية وشذوذها ويكون إلى جانب ذلك أناسٌ يمثلون طيب الإنسانية واستقامتها على صراط الله سبحانه وتعالى، فإن الله عز وجل لابد أن ينتصر للطيب على الخبيث، ولا بد أن يركم الخبيث بعضه على بعض ويُهيئه وقوداً لجهنم.

ينبغي أن نعلم هذه السنة الربانية الثانية، ومعنى هذا أن الطيب إذا آل إلى أن يصبح هو الآخر خبيثاً، إذا أصاب الطيب عدوى الخبيث وانتشر الخبث بين الطائفة الطيبة وعادت الطائفة التي وصفها الله عز وجل بأنها طيبة، عادت تركن إلى الخبث وأسبابه، وتنحط إلى أرض السيئات والملهيات، وتتفنن كما يتفنن الآخرون في خبثهم، فإن السُنة الأولى لم يعد لها مناخٌ للتطبيق، ذلك لأن الكافرين لابد أن يُغلبوا يخسرون المال الذي ينفقون ويخسرون الهدف الذي يطمحون إليه، ويكون ذلك كله حسرةً كاوية على أفئدتهم لكن في سبيل ماذا؟ في سبيل الفئة الطيبة التي ثبتت على الحق وجالدت في الثبات على صراط الله سبحانه وتعالى.

فأما إذا رأينا هذه الفئة الطيبة وقد أصابتها العدوى - كما قلت لكم - وانحرفت انحراف أولئك الخبيثين، فلم يعد هؤلاء الناس الذي وصفهم الله عز وجل بالطيب، لم يعودوا يعتزون بالشرف الذي ميزهم الله به، لم يعودوا يعتزون بالدين الذي رفع الله شأوهم إليه، لم يعودوا يلتزمون بالنهج الذي اختاره الله سبحانه وتعالى لهم، لم يعودوا يدركون قيمةً لقول الله عز وجل: "وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا" لم يعودوا يقيمون وزناً لقول الله عز وجل: "لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ" إلى آخر الآية، عندما يؤول الأمر إلى هذا تغيب الفئة الطيبة، وإذا غابت الفئة الطيبة أصبح مسرح الأحداث حبيساً للخبث والخبيثات والخبيثين.

فما قيمة القانون الأول إذاً؟ لا مجال لتطبيقه في هذه الحال.

ليت أن المسلمين أيها الإخوة يُسقطون هذه السنن الربانية التي نتلوها في كتاب الله عز وجل صباح مساء على الوقائع التي نراها كل يومٍ من حولنا، إذاً لما عجبنا ولما تسائلنا ولما ارتابت عقولنا أو قلوبنا في عدالة الله سبحانه وتعالى.

كلنا نأسى أيها الإخوة لهذا البلاء الذي تدور رحاه على أناسٍ برئاء آمنين نساء أطفال لاشأن لهم بخصامٍ بين طرف وطرف قط، همجية ما مثلها ووحشية لا تتدانى إليها وحشية الحيوانات الهمجية في الأدغال، كلنا يأسى لهذا، ولكن ينبغي أن نعلم أنه لا يوجد شذوذٌ في وقائع الكون عن سنن الله سبحانه وتعالى. أفكان من مقتضى هذه السنن أن يسلط الله عز وجل إرهاب هؤلاء الغاصبين ووحشيتهم القذرة على الأمناء الآمنين على المسلمين لولا أن الفئة التي كانت إلى الأمس القريب فئةً طيبة إندلقت إلى هاوية الخبث؟! أفكان لهذا الذي نراه اليوم أن نراه لولا أن هامات وقامات كانت إلى الأمس القريب تُظهر تمثيلاً أو حقيقةً أنها صامدةٌ أمام الحق وأنها لم تمد يداً إلى العدو المشترك الغاصب للديار، الحاقد على المبادئ والقيم، الذي يستشري الظلم بين عينيه، ويضع المطامح لامتلاك هذه الأراضي الإسلامية المقدسة كلها.

كانوا يجاهرون ويقسمون أن يداً منهم لن تمتد إلى مصافحة هؤلاء الناس ولا إلى مبايعتهم وإلى مصالحتهم، وإذا بالقامات والهامات التي كانت إلى الأمس القريب تصطنع الارتفاع إذا بها اليوم بين راكعة وساجدة في سبيل ماذا؟ لا أرض استعيدت، ولا حقٌ عاد إلى أصحابه، ولا القدس المقدسة المطهرة عادت إلى المسلمين. بل العدو كان ولا يزال يُنذر ويتوعد ويُذكر أبناءه وأحفاده بالخطة بالخارطة التي ينبغي أن يمتلكها من أرض هذه الأمة وتراثها.

انحنت الرؤوس بين راكعٍ وساجدٍ كما قلت لكم، وعاد العدو المشترك صديقاً حميماً، وعاد هؤلاء الإخوة الذين كانوا عضداً للمسلمين بحسب الظاهر إلى الأمس القريب عادوا عضداً إلى هذا العدو المشترك اليوم.

عندما تحول الطيب إلى الخبيث، وعندما اختلط الحابل بالنابل كما يقول المثل العربي، هل تستطيع أن تتفقد المناخ للقرار الأول الرباني الذي يقول فيه الله عز وجل: "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ" في سبيل من يُغلبون؟ في سبيل الفئة الطيبة. أين هي الفئة الطيبة؟ أين هي الفئة الطيبة أيها الإخوة حدثوني؟

إن الإنسان ليأسى لا من هذا البلاء، فما يصيب الإنسان إلا ما قد كُتب لهم وكل أجلٍ بكتاب، إنما البلاء الأطم والمصيبة الأدهى أن في الناس من كانوا يعتزون بنسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يخجلون اليوم من أن يطووا شرف هذه النسبة، ثم يجعل الواحد منهم نفسه خادماً ذليلاً لطغيان أولئك الطغاة الأقزام، لطغيان هؤلاء الذين أخذوا الأرض والدار والحقوق ولا يزالون يهددون بأخذ المزيد. هذا هو البلاء الذي أثمر هذا البلاء الذي تسمعون عنه بالأمس الدابر وقبل الأمس. أرأيتم إلى سنة الله سبحانه وتعالى في عباده أيها الإخوة.

إن الله عز وجل علم وهو علّام الغيوب وهو الحكيم الخبير أن هذه الأسرة الإنسانية لا تصلح لها أي قيادة إلا قيادة هابطة من سماء الله عزوجل إلا قيادةٌ هابطةٌ من تعليمات الله سبحانه وتعالى، فإذا انبتت التعليمات الإلهية عن هذه الأسرة الإنسانية تحولت هذه الأسرة الإنسانية إلى وحوش ضارية بل إلى ما يشبه كلاباً استكلبت. هذا هو الواقع لذا فقد كان الشرط الأساسي لصلاح هذه الأسرة أن ينجد الله عباده بهذا النظام الذي اختاره لهم وأن يستنجد العباد بهذا الحبل الرباني الذي أنزله عليهم.

ولما انقطعت صلة ما بين الأرض والسماء، ولما أعرض حتى المسلمون عن إسلامهم وغدا الكثير من المسلمين يكتبون المؤلفات والمقالات في تحطيم الإسلام، وغدو عملاء لأعداء دين الله سبحانه وتعالى بأثمانٍ رخيصة ليُحطم الإسلام كما يشاء سادتهم كتاباتٍ وكلماتٍ وندوات ومحاضرات وهم مسلمون. كان لابد أن يُسلط على الأسرة الإنسانية وحوشٌ بشرية، لابد. هذه الوحوش البشرية طبعاً لن تُريك منها مخالب ولا أنياب، لأنهم أدهى من الوحوش الطبيعيين، هؤلاء الوحوش البشريون يُرونك من أنفسهم الدبلوماسية الرائعة والبسمات المسكرة ويلقون الكلمات الطويلة الطنانة عن الإرهاب والتحذير من الإرهاب والسلام وضرورة السير في سبل السلام وما إلى ذلك، غطاء يُغطون به أنيابهم التي تبلغ خطورتها أضعاف أنياب السباع المسالمة الذليلة الضعيفة في الأدغال، وتبلغ مخالبها التي تظل تقطر دماءً أضعاف طول تلك المخالب الأخرى، لكنها مغطاة بهذا الكلام. تجدون هذه الكلمات هناك بدءاً من أقصى أمريكا إلى أقصى الشرق المحاربٍ لدين الله سبحانه وتعالى إلى اليوم.

أجل هذا الواقع الذي ترون نتيجة لانقطاع صلة العبد الإنساني بالله سبحانه وتعالى، ولذلك فالإنسان اليوم يسمع كلمات كثيرة عن الإرهاب وما يتعلق بالإرهاب، وهؤلاء الذين يُحذرون عن الإرهاب هم شر الوحوش التي استطاع التاريخ أن يرصد وجودها في تاريخ الإنسانية منذ فجر الوجود الإنساني إلى اليوم.

أجل أيها الإخوة أن يتسلل العدو إلى الدار ويُخرج صاحبها من الدار، ثم يجلس جاثماً في الدار، ثم يركن إلى كل ما في الدار من ممتلكات وأثاث ونحو ذلك غير مبالٍ بجريمة الاغتصاب التي ارتكبها، غير مبالٍ بتشرد أصحاب الدار من دارهم، هذا عملٌ إنساني رائع وينبغي أن تركع له هيئة الأمم المتحدة وينبغي أن تتوالى إعلانات الفيتو إثر الفيتو إثر الفيتو في سبيل ذلك. وأما أن ينادي المظلوم الشارد من داره بالويل والثبور، وأما أن يطرق باب داره يُلح على الغاصب أن يخرج، وأما أن يستعمل حقه في الدفاع عن حقه وينادي العالم كله ألا أنجدوني فأنا المظلوم المحق، هذا هو الإرهاب، هذا هو الإرهاب الذي ينبغي أن تقطع أوصاله. أي إنسان وعى مثل هذا الأمر في التاريخ ثم لم يذهل عجباً.

ولقد قلت وأقول: إن هذا الواقع الذي تجسده أمريكا في بادء الأمر والتي تزعم أنها تريد أن تقود العالم ولن تستطيع ذلك ولن تجد إلى ذلك من سبيل، هذا الواقع أشبه ما يكون برجلٍ ذي عين حولاء، ينظر بعينه الحولاء إلى اليمين المظلوم فينحط إلى الشمال الظالم لأنه ينظر بعين حولاء.

أتتصورون هذا الواقع أيها الإخوة هذا الرجل الأحول مظلوم لأن مرضاً يجعله يرى الأمر يقع يميناً فينحط عليه يساراً، أما الذي يتحاول ومابه من حول أما الذي يرى اليمين شمالاً والشمال يميناً وهو قادر على أن يرى الأمور بشكلها السوي، فإنها جريمة ما بعدها جريمة. ومع ذلك فأنا لا أقول هذا الكلام لكي أتعجب من حكم الله وقراره لماذا سُلّط علينا هذا البغي الإرهابي الشنيع؟ لا. أقول هذا لأزداد يقيناً بسنة الله سبحانه وتعالى.

دفاع الله عن هذه الأمة مستمر عندما يستمر الطيب فيها، فإذا تحول الطيب إلى خبيث بشكلٍ أو بآخر وإذا عاد الطيب قلة يسيرة يسيرة ثم يسيرة فإن سنةً أخرى لابد أن تحيق بنا نعم: "وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً" ينبغي أن ندرك هذه الأمور لنزداد ثقةً بمولانا وخالقنا أيها الإخوة.

والبلاء الأطم الذي أكرره ثم أكرره يتعلق بتلك الفئات التي تزعم بأنها فئات إسلامية، كنت إلى الأمس القريب أصفها بالإسلامية أما اليوم فأصفها بأنها تزعم بأنها إسلامية، مالها تصمت صمت الموت، مالها لا تتكلم لتعلن عن الباطل الذي جر علينا هذا البلاء المستشري الذي يدور رحاه على الآمنين من جيراننا مالهم يعيشون في أحضان أولئك الذين يصافحون العدو المشترك ثم لا يقولون كلمة حق، لايستطيعون أن يقولوا ذلك لأنهم في أحضان أولئك الذين باعوا الشرف والدين. إذاً ما لهم لا يقولون كلمة حق يعلنون من خلالها أن هذه القلة في هذه البلدة لاتزال صامدةً على دين الله! ينبغي أن تُشجع، ينبغي أن تجد من يكلؤها بعين العناية حتى تزداد استمراراً على هذا الثبات، وحتى تزداد الأرض صلابةً تحت قدميها مالها وقد وعت قول الله عز وجل: "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ" مالهم لا يصدرون بيان الناطق الذي يعلن بأن الظلام الذي أطبق على بلادنا العربية كلها التي تحيط بهذا العدو المشترك لم يبقى في أرجاءه إلا بصيص نور واحد.

فيا أيها الناس تعاونوا جميعاً للإبقاء على هذا البصيص حتى لا تأتي رياحٌ تقطع دابر هذه البقية من الضياء أيضاً. مال الشيطان قد أخرس ألسن هؤلاء الناس.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي