مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 22/03/1996

قنبلة امتلأت بها سطوح المنازل نجني دمارها

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

إن الله عز وجل خلق هذه الحياة الدنيا ومتعنا بها، وبصّرنا بهويتها كما بصّرنا بوظيفتنا التي أقامنا الله عز وجل عليها، أوضح ذلك كله من خلال قوله عز وجل: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)، وإذا تأمل العاقل في هذا البيان الإلهي علم أنّ هذه الحياة جد، وأنها جسرٌ خطيرٌ المعبر، وأن الهلاك الذي قد يُمنى به الإنسان من خلال هذا الإبتلاء هلاكٌ وبيل، ولن يعود الإنسان كرة أخرى إلى هذه الحياة الدنيا، ولن يستجيب الله عز وجل لقول القائل إذا قام الناس غداً لرب العالمين: (رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) لن يستجيب أحدٌ لهذا النداء.

ومن ثمّ فإن الإنسان مدعوٌ إلى أن يتعامل مع حياته الدنيا هذه بجد، وأن يترفع فيها عن اللهو وأسبابه، فإن التفت إلى اللهو بين حينٍ وآخر، فما ينبغي أن يلتفت إليه إلا بمقدار ما يعينه على استعادة الجد، وإلا بشرط أن يكون هذا اللهو مما قد أباحه الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه ليوشك أن يحكم الإنسان على نفسه في حياته الدنيا هذه بالهلاك أو الانتحار.

أقول هذا مقدمة بين يدي فتنةٍ طالما شاورت وتسائلت مع نفسي. هل أعالجها في حديثٍ من هذه الأحاديث؟ وفي يومٍ كهذا اليوم أم لا؟ وتسائلت عن جدوى حديثي هذا إن تحدثت به إليكم وتنبهت إلى أن شر الإبتلاءات ما كان صادراً من طبيعة الإنسان ذاته، لم يفرضها عليه قانون، ولم تفرضها عليه شرعة ولم يلاحقه بها حاكم، شر الإبتلاءات وشر المصائب تلك التي تنجم من قاع النفس الإنسانية ذاتها.

في هذه الحالة وعلى الأرجح لا تفيد النصائح ولا تفيد المواعظ، لأن تيار النفس والهوى أشدُ من ذلك كله، ومع ذلك فالأمر عندما يتفاقم لا بد للإنسان من أن يقول كلمة، إنها فتنة هذه الأطباق التي امتلأت بها سطوح المنازل، وأي منازل منازل الفقراء المتقعين قبل منازل الأغنياء الموثرين، هذه الأطباق أيها الإخوة كلكم - فيما أعتقد - أصبح يعلم أنها قنبلة موقوتة لابد أن تتفجر في دار صاحبها بدمارٍ ذي ألوانٍ متعددةٍ شتى، ومن ثمّ فلا بد أن يعلم كلٌ منا أن الذي يستسلم لهذا اللهو إنما يستسلم لمشروع انتحار لاشك في هذا ولاريب، ولعل الأيام التي خلت كشفت عن هذا المعنى الذي أقول.

إن الإنسان قد ينساقُ إلى شيء من اللهو، وربما كان هذا اللهو مما أباحه الله عز وجل، ومع ذلك فإن الإنسان الجاد ما يلبث أن يعود من لهوه هذا إلى جده، ولكن فتنة هذه الأطباق أشبه بفتنة بحرٍ هائجٍ مائج يخوضه من لا يستطيع السباحة، فهو ما يلبث أن يحرك أطرافاً من أطرافه لبضع ثوانٍ - ولا أقول دقائق - حتى يغرق ويختنق في ذلك الخضم المائج.

الإنسان الذي جرّ على نفسه بلاء هذه الأطباق، حكم على نفسه بالشلل، وحكم على نفسه بفقد الإرادة، لن يستطيع أن يهيمن على ما قد فعل، ولن يستطيع أن يتحكم فيما قد قضى به بحق نفسه وفي حق أسرته؛ ذلك لأننا جميعاً من صنف البشر، والإنسان مليءٌ بغرائز وأهواء مختلفة متنوعة. وقد علمنا أن السبيل الأوحد للترفع فوق هذه الأهواء والغرائز أن نفطم أنفسنا بالابتعاد عنها، هذا هو السبيل الذي نستطيع، فأما إذا دنونا من أسباب هذا اللهو ومن مُهيجات هذه الغرائز، وعشنا في خضمها فمن ذا الذي يملك منا إرادةً جازمةً وحاسمة يترفع بها فوق ما قد جره على نفسه من بلاء ووباء!؟

ما أظن أن فينا من البشر أحداً يملك ذلك، ولكن الإنسان يستطيع أن يتحرر من ذلك كله إن هو ابتعد، يستطيع أن يحرر نفسه من ذلك كله إن أقام بينه وبين ذلك اللهو بل تلك القنبلة الموقوتة الحواجز. ولعل فيكم من يقول: فما الأضرار الناجمة من هذه الأطباق وما فيها من لهوٍ وما إلى ذلك؟

فيها - أيها الإخوة - ألوان شتى من عوامل الدمار، فيها ألوان شتى ..

وأبدأ بما يمكن أن يكون هو ثاني وثالث، لن أتحدث عن غضب الله عز وجل على العبد عندما يُحيل هذه الحياة إلى لهوٍ وقد أقامها جداً، لن أتحدث عن هذا.

لن أتحدث عن الهوية التي وصف وأقام الله سبحانه وتعالى حياتنا الدنيا عليها وقد أعرضنا عن هذه الهوية وأعطيناها طابعاً آخر، لن أتحدث عن ذلك .. سأتحدث عن المصائب القريبة العاجلة التي تحيط بالإنسان في دنياه هذه قبل أن يرحل إلى الله سبحانه وتعالى.

من أولى المصائب التي تحيق بالأسرة من جراء هذا البلاء الواصب أنها تفتن الزوج عن زوجه، وأنها تفتت علاقة القربى بينهما، وكم وكم وقع ويقع هذا البلاء، كم من الأزواج كانوا يعيشون حياةً هنيئة سعيدة مع زوجاتهم، فلما أسلم نفسه لهذا الوباء وعاش بخياله في عالم آخر، عاد إلى العلاقة التي كانت بينه وبين زوجه وإذا بها تقطعت. بدأ يتبرم بها بعد أن كان متعلقاً بها؛ بدأ يتأفف منها بعد أن كان يراها جنة حياته؛ ذلك لأنه أصبح يرى شيئاً آخر لم يكن يراه من قبل، وكم وصلت الخصومات التي نجمت عن هذه الظاهرة إلى طلاق، وأنا البصير بهذا. كما أن العكس أيضاً قد يقع كم من امرأة كانت راضية وكانت مطمئنة الفكر والقلب والبال فلما أطلت من هذه النافذة الجهنمية على عالمٍ آخر غير الذي تعلمه إذا بها تتبرم بحياتها، وإذا بالزوج الذي كان يملئ بصيرتها وفؤادها أصبح شيئاً تافهاً في نظرها. حياةٌ من نعيم تحولت إلى جحيم، هذه أول نهاية.

المصيبة الثانية - أيها الإخوة - أن الإنسان الذي جرّ على بيته هذا الوباء، وقد قلت لكم: إن أحدنا لا يستطيع أن يتحكم بإرادته في هذه الحالة، إذاً لا بد أن يستسلم لمقتضيات هذا الوباء وهذا البلاء، لابد أن تكون النتيجة الثانية لذلك ضموراً وهُزالاً مستمراً مستمراً في المؤسسات الإقتصادية والإجتماعية والتربوية والثقافية في هذه البلدة. لابد للناس الذين يخرجون من بيوتهم صباحاً إلى أعمالهم أن يخرجوا متأخرين، وإن خرجوا غير متأخرين لابد أن يلف النعاس برؤوسهم. أين هو النشاط الذي ينبغي أن يتهيأ وأن يتكامل في نفوسهم لينهضوا بالأعمال التي ينبغي أن يقومون بها؟

لا يمكن أن تجد شيئاً من هذا النشاط، حركة متثاقلة وفكرٌ متثائب وكسلٌ يُهيمن على هذا الإنسان، ومن ثم فإن الأعمال والوظائف المختلفة المتنوعة تجمد ثم تجمد ثم تتراجع إلى الوراء، وهذا شيء ملموس، ولسوف يتضاعف ذلك في الغد القريب إن سارت الأمور على هذا النحو تماماً أيها الإخوة.

البلاء الثالث أن الإنسان لابد أن تتراجع قواه، ولا بد أن تتراجع صحته، ولا بد أن تهيمن على نفسه الوساوس والأمراض النفسية المختلفة، وفي مقدمتها أمراض ولا أقول مرض الكآبة.

هذه الظاهرة أيها الإخوة تجرّ إلى صاحبها أمراضاً قد لا يعرف أحدٌ منا اليوم لونها أو طعمها، ونسأل الله عز وجل أن لا نتعرف على شيء من ذلك، ولكن إن بقي هذا البلاء فلسوف نخوض حمأة هذه الأمراض التي أحدثكم عنها، وليت أن الأمر يقف عندئذٍ عند حدود هذه الأمراض. لا، لسوف يعاني الإنسان آن ذاك من هذا المرض ولسوف يتطوح عندئذٍ بحثاً عن الملاجئ والملاذ، بحثاً عن الأدوية الخيالية وليست الأدوية الخيالية آنذاك إلا ما هو أشد وأفتك من المرض ذاته، وعندئذٍ يأتي دور المخدرات التي تسمعون عنها.

أيها الإخوة إنني الآن لست واعظاً، وأنا في هذا لا أتحدث عن موقف الباري عز وجل منا، ولا عن عتابه أو عقابه الذي سيحيق بنا، والذي سيكون ميقاته بعد الموت. وإنما أحدثكم عن شيءٍ يعرفه المؤمن وغير المؤمن، يعرفه المنصاع لأمر ربه والمنحرف عن أمر ربه، يعرفه كل إنسانٍ يريد لنفسه السعادة العاجلة لا الآجلة، هذا شيءٌ لا يستطيع أحدٌ أن يناقش فيه بشكل من الأشكال أبداً. فما بالكم إذا أضفنا إلى ذلك كله عتاب وعقاب رب العالمين عز وجل؟؟! ما بالكم إذا لاحظنا أننا في هذا أقمنا بيننا وبين خطاب ربنا وبين الوظيفة التي أقامنا عليها ربنا حاجزاً كبيراً جداً، وأعرضنا عن الله سبحانه وتعالى فيما أمر وفيما نهى وفيما عرّف.

أرجو وأنا أقول هذا الكلام في مكانٍ ضيق صغير، أرجو أن يكون لهذا الكلام الصدى المناسب، وأرجو أن يعيد كل منا إلى ذاكرته المصائب التي أحدثكم عنها.

ومن ثم فأرجو من كل ابتلي بهذا البلاء أن يعيد النظر وأن يأوب ويتوب إلى ربه، وأن يكون رجّاعاً إلى مصلحة نفسه، أن يكون له من الحب لذاته، وأن يكون له من الغيرة على سعادته ما يجعله يتسامى عن هذا الأمر.

الحياة قصيرةٌ أيها الإخوة وهي ورقة إما أن تكون رابحةً بيننا وبين الله وإما أن تكون خاسرة، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.

واللهِ إن السعادة ليست في البوارق التي يتخيلها بعض الناس ويلهثون ورائها لا، هذه بوارق سعادة. ولكن الإنسان عندما يلهث ويلهث ورائها يجد نفسه منها أمام سراب، ولسوف يجد هذا السراب قد أخذ بخناقه وأسلمه إلى مصائب عاجلة شتى.

السعادة هي ما يجده الإنسان في قلبه، السعادة هي المشاعر التي ترفرف في حنايا فؤاده، السعادة هي المرح الذي يفيض به قلبه، وابحثوا عن ذلك كله بين يدي الله، ابحثوا عن ذلك كله في اللجوء إلى الله عز وجل، يخلق لكم السعادة الفرح المرح. كل مايتخيله الباحثون عن السعادة في هذه البوارق الخادعة الكاذبة سيجده آنذاك في داره، سيجده آنذاك في علاقة القربى بينه وبين زوجه وأولاده.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم .

تحميل



تشغيل

صوتي