مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 15/03/1996

لهذا سمي الجهاد في سبيل استعادة الحق إرهاباً

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

ثبت بالبداهة وبالأدلة الواضحة النيّرة لكل ذي عقل أن المسلمين اليوم، مهما أوتوا من القوة المادية، ومهما أوتوا من البصيرة السياسية، ومهما أكرمهم الله عز وجل بكنوز المدخرات وذخر الأرض الظاهرة والباطنة، فإن كل ذلك لن يفيدهم شيئاً لا في دنياهم ولا في آخرتهم، إن لم يكرمهم الله بجمع الشمل وتوحيد الكلمة والاعتصام كما أمر الله عز وجل بحبله المتين الذي أكرمهم الله عز وجل به.

قد تكون هذه الحقيقة فيما مضى خاضعةٍ لأخذٍ ورد، ولكنها اليوم غدت ناصعةً واضحةً بديهية لا يختلف فيها عاقلان، ولعل العقلاء جميعاً من المسلمين كلما حزبهم أمر وكلما طافت بهم طائفة مصيبةٍ من هذه المصائب وجدوا أنفسهم أمام قول الله عز وجل: (وَاعْتَصِمُوْا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيْعًا وَلاَ تَفَرَّقُوْا وَاذْكُرُوْا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوْبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا)، أو يجد نفسه أمام قول الله عز وجل في هذا البيان الجامع القصير: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ).

ومن العجب أن أعداء المسلمين أدركوا هذا قبل أن يدرك ذلك المسلمون أنفُسهم، فانحطوا في كيان المسلمين تقطيعاً وتمزيقا، وحاولوا أن يستضعفوهم من النقطة الخطيرة التي حماهم الله عز وجل منها إذ أكرمهم بجمع الشمل عن طريق هذا الدين. لمّا تفرّق المسلمون شذر مذر، ولمّا فرقتهم الأهواء عن الصراط البين الذي أمر الله عز وجل باتباعه قائلاً: "وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"، لمّا حادوا عن النهج العريض وعن صراط الله البين الواسع، وتفرقوا في متاهات السبل المتعرجة والمذاهب المتنوعة المختلفة، معرضين عن دين الله عز وجل لم تعد تنفعهم سياسات السياسيين، ولم تعد تنفعهم الكنوز والأموال الكثيرة التي ادخرها الله لهم في باطن الأرض أو فجرها لهم من ظاهرها، لم يعد يفيدهم شيء من ذلك، بل تحولوا إلى فقراء رغم غناهم، وتحولوا إلى أذلاء رغم أن الله كان قد أعزهم بهذا الدين الإسلامي، ونوه بمكانتهم بين الأمم إذ قال: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ). فماذا كان من عاقبة هذا التفرق أيها الإخوة ؟

كان من عاقبة ذلك أن اتخذ الأعداء من أراضي المسلمين منطلقاً للكيد للمسلمين، جعلوا من بلاد المسلمين مكاناً لمؤتمرات ومكاناً لخطابات ينحون فيها باللائمة على المسلمين الذين يدافعون عن حقوقهم. ومتى كان من المتخيل هذا؟

قد نتصور أن أعداءً للمسلمين يكيدون، لكن خارج أرض المسلمين وبعيداً عن حدودهم. قد نتصور أن فئات من غير المسلمين قد يرفعون عقائرهم ويرتفعون بأصواتهم هجوماً على مقدسات المسلمين ولكن في بلادهم. ولم نكن نتصور أبداً أن المسلمين سيأتيهم يومٌ من الذل والهوان يجعلون من بلدانهم منابر لأعدائهم، ويصغون بآذانهم التي طالما شنفها كتاب الله وطالما أطربتها سنة رسول الله، يُصغون بآذانهم إلى أولئك الذين ينحطون في بلادنا على إسلامنا هجوماً، وعلى مقدساتنا تمزيقاً، ويُغيرون الحقائق ويُنكِّسونها، ويسمون الحقائق الإسلامية بغير أسمائها، فيطلقون على الجهاد الذي شرعه الله عز وجل وأمر به طرداً للغاصب وحمايةً للحق، يُطلقون على ذلك اسم الإرهاب أو ما شاكل، ويطلقون الأسماء المقدسة الإنسانية على عمليات الاغتصاب وعلى السعي لاقتناص الحقوق ولاغتصاب الأموال ولتقتيل البرءاء، يغطون ذلك كله بأسماء مقدسة وبأسماء إنسانية رائعة، كل ذلك كان من الممكن وحصل شيء من هذا في التاريخ لكن كل هذا كان يجري خارج بلاد المسلمين. ثم إن المسلمين يكافحون هذا الكلام بما يستطيعون.

أما أن يأتي يومٌ ويجتمع فيه هؤلاء المتربصون بالإسلام في أرضٍ إسلامية، ويتخذون من أرضٍ إسلامية منبراً لتنكيس الحقائق ولإطلاق اسم الإرهاب على الجهاد، وللتلاعب بالأمور وبما شرع الله عز وجل من أحكامٍ إنسانية فهذا شيءٌ لم يكن متوقعاً.

لكن ترى ما الذي جعله يقع بعد أن لم يكن متوقعاً؟ تفرق المسلمين. وأنا عندما أقول تفرق المسلمين أعني الكتلة التامة للمسلمين بدءً من الحكام والقادة ونهايةً بالشعوب والجماعات الإسلامية، ولا أدري إلى أي الفئتين أُحيل المسؤولية، ولا أدري هل أقول إن تفرق المسلمين والجماعات الإسلامية هو السبب في تفرق حكام المسلمين وولاة أمرهم أم إن تفرق حكام المسلمين هو السبب في تفرق الجماعات الإسلامية؟ أياً كان الأمر فإنه لداءٌ خطير يستشري هنا ويستشري هناك.

الحكام المسلمون تفرقوا بعد أن وضعت خطة ماكرة وعجيبة لعلكم سمعتم أو تصورتم أو عرفتم الكثير منها قضت على البقية الباقية لهيبة هذه الأمة المنعكسة من بقايا وحدةٍ أو تضامنٍ كانت تتمتع به، تحولت هذه الهيبة إلى نقيضٍ لذلك وتحولت بقايا التضامن إلى تفرق بل إلى تدابر، وأصبح فينا من يسعى من أجل أن يصفق لما يقوله الأعداء، يسعى لكي يُخفض نفسه وليطوي مكانته وليجعل من نفسه تابعاً لخطط أولئك الناس، ورأينا مظاهر التفرق قد هيمنت على واقع هذه الأمة لمّا تفرق هؤلاء الحكام وتدابروا، أمكن أن يتم هذا الواقع الذي لم يكن متوقعاً، وأمكن أن نجد كيف تُنكّس الحقائق وكيف نُتهم بما نحن برئاء منه، ثم لا يُتهم ذلك العدو الغاصب والوحش الذي يستمرئ دماء البرءاء من الناس، كيف أن أي أصبعٍ لا تتجه إليه بأي اتهام، ثم إننا نرى كيف أن أرضاً إسلامية تتحول إلى منبر لبيان هذه الأمور العجيبة التي لم تكن متوقعةً ثم توقعت. هذا عن التفرق الذي أصاب قادة المسلمين.

أما التفرق الذي استشرى بين المسلمين أنفسهم فلعله أخطر، ولعله أبعث للأسى في النفوس، نحن أمة إسلامية واحدة، وإسلامنا واحد، ولقد تحقق توحيد هذا الإسلام للمسلمين بالأمس عبر قرون متطاولة، ورأينا كيف أن الإسلام جمع المسلمين ولم يُفرقهم إلى دوائر وجماعات متخاصمة.

ولكن يا عجباً ها نحن نرى اليوم كيف أن المسلمين قد تحولوا إلى جماعات متناقضة متخاصمة يشيع بينها من التناكر ما يشيع بين أديانٍ متفرقةٍ متخاصمة في كثير من الأحيان، ومن لم يدرك ويتصور شناعة هذا التدابر فليستعرض أي مركز من المراكز الإسلامية في أي بقعة من بقاع أوروبا وأمريكا ليجد التناحر هناك بين من؟ بين مسلمين، يستظلون بمظلة الإسلام. لماذا لم تكن هذه المظلة تفرق الأجيال السابقة؟ لماذا لم يجعل الإسلام المسلمين بالأمس دوائر متناكرةً متحاربةً كما جعلهم الإسلام اليوم؟ هل الإسلام تحيز فانتصر للأجيال السابقة فوحدها وتحيز ضد المسلمين اليوم ففرقهم؟ هل يمكن هذا؟ لا. إذاً ما السبب؟!

السبب أننا نحن المسلمين جعلنا من الإسلام مطايا لأهوائنا، مطايا لأمزجتنا، ولما كانت الأهواء مختلفة، ولما كانت الأمزجة متعارضة. فقد كان لا بد أن يتحول الإسلام الواحد إلى إسلامات، لأنني أجعل منه مطيةً لهواي، ولأنك تجعله مطية لهواك، ولأن الثالث يجعله مطية لهواه وهكذا.

هذا هو الذي وقع، ومن ثم فلا الوحدة التي أحبها الله لنا تتلألأ في مستوى القيادة في عالمنا الإسلامي، ولا هي تتلألأ مُذكرةً آمرةً ناهيةً في مستوى المسلمين كجماعات.

ولو أن جماعات المسلمين اتحدت على جذع الإسلام وتركت الأمور الاجتهادية والخلافية لمن يجتهدون كما فعل المخلصون لدين الله بالأمس، لأمكن للمسلمين أن يتخذوا من موقفهم الواحد الموحد موقف الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ولأمكنهم أن يوجهوا النداءات إلى حكامهم وقادتهم أن يا قادة المسلمين اتفقوا، اتفقوا وكفاكم تناحراً. ولكن لما كان واقع الجماعات الإسلامية أخزى، ولما كان تفرقهم أعمق لم يكون بوسعهم ولم يكن لديهم من الوقت ولا من الشعور الإسلامي ما يدفعهم إلى شيء من هذا.

ترى عندما نجد هذا الهرج الذي يتم في بلادنا، عندما نجد أن المصطلحات الإسلامية الإنسانية تُنكس ويُتعامل معها بالنقيض فيسمى الجهاد في سبيل الحق في سبيل استعادة الحق إرهاباً، ويبارك بالإرهاب الحقيقي الذي يتكمل في اغتصاب، الذي يتمثل في نهبٍ لحقوق، الذي يتمثل في إراقة دماء بريئة، وكلكم يعلم صوراً لهذه الدماء التي سالت في مساجد سالت في أماكن مقدسة، هذه الأعمال تتجه إليها المشاعر المعادية للإسلام بالتبريك وبالتأييد. عندما نجد أن بارقة خير لاتزال تلتمع، وأن هنالك من يأبى أن يطأطئ الرأس وأن يُخضعه لهذا التلاعب بالحقائق، لماذا لا نجد جماعات المسلمين تشير إلى الحق بالتأييد؟ لماذا لا نجد جماعات المسلمين المتفرقة تلتقي لتقول أمّا هذا فكلنا نتفق على كلمة واحدة فيه لماذا؟ لماذا لا نسمع بياناً ينطلق من أفواه سائر الجماعات الإسلامية لتقول إن الله قد أمرنا قائلاً (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) ونحن مكلفون بمقتضى واجب هذا التعاون أن نقول: هذا الموقف هو الحق. فنحن نؤيده ونحن نهيب بسائر قادة المسلمين وسائر المسلمين جماعات وشعوباً وحكاماً أن ينصاعوا للحق جهد استطاعتهم، وأن لا يُخضعوا أنفسهم للباطل وللتلاعب بالحقائق. لماذا؟

ولكننا نجد هذه الجماعات تظل في طرقٍ شتى، تسلك مسالك متناقضة، ولا تزال في هرجها ومرجها، فلا المواقف الواحدة والموحدة توحدها ولا الخوف من الله عز وجل يجعلها تترك مسائلها الاجتهادية لتأوي إلى الجذع الواحد.

تفرقٌ أيها الأخوة في الساحة كلها من مستوى المسلمين وجماعاتهم صُعداً إلى مستوى قادة المسلمين، أمام هذا الواقع ما الذي يُتوقع؟ لا يتوقع خيرٌ مما نرى.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يلهمنا رشدنا وأن يجمعنا قادةً وشعوباً على صراط الله عز وجل وأن يرزقنا العبرة بهذه الدروس التي أضنتنا وكادت أن تُهلكنا . أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم .

تحميل



تشغيل

صوتي