مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 23/02/1996

وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أن سيدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أمّا بعد فيا عباد الله ..

ما مرةً وقفتُ فيها على قول الله سبحانه وتعالى: "وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ" إلا وشعرت بالكثير والكثير من المخاوف التي لا بد أن تتبدى لكل متدبرٍ من هذه الآية. وكم تساءلت بيني وبين نفسي وقلت: لو أننا وقفنا مقتصرين عنند الآية الأخرى التي يقول الله عز وجل فيها "وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ" لهان الخطب، ولرأينا الواقع يؤكد ذلك؛ فأكثر الناس على وجه الأرض هم الجانحون والجاحدون بالله عز وجل. أمّا هذه الآية فمخيفة حقاً، تلك التي يقول الله عز وجل فيها "وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ".

هذا الكلام يتجه إلى الفئة القليلة المؤمنة؛ حتى هذه الفئة القليلة المؤمنة أيضاً أكثرهم إذا نظرت وإذا سبرت الغور رأيتهم كاذبين في إيمانهم ومشركين بالله عز وجل. هذا هو الشيء الذي يخيف. ترى كم هم إذاً أولئك الصادقون في إيمانهم والمخلصون لله عز وجل في توحيدهم؟

ثم إنني عندما أقف على الآية الأخرى التي يقول الله عز وجل فيها: "وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا" أشعرُ بمزيدٍ من الخوف الاضطراب والقلق. هؤلاء الناس قاموا بحسب الظاهر بأعمال صالحة، وتقرّبوا إلى الله عز وجل في الظاهر بخطى حسنةٍ مقبولة، ولكن هاهو ذا قرار الله يُعلن قائلاً: "وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا".

هذا الشيء الذي يُثير القلق والخوف لم تتبدى معانيه مفسرةً أمامي إلا في هذه السنوات الأخيرة، عندما نظرت وتأملت في حال المسلمين أو أكثر المسلمين وغالبيتهم العظمى، فرأيت هذه الغالبية العظمى فئات، كل فئةٍ تسيرُ إلى متعتها تسير إلى رغبتها الدنيوية، قد تكون هذه الرغبة متعةً دنيويةً ولهواً مما حرمه الله عز وجل، وقد تكون هذه المتعة سياسةً جامحةً لا ترضي الله عز وجل، وقد تكون هذه المتعة عصبيةً يبحث الإنسان أو تبحثُ هذه الفئة عن غذاءٍ لتنميتها ولتربيتها.

عندما نظرت إلى فئات المسلمين ووجدتهم يسيرون في طرائق شتى، تجمع هذه الطرائق كلها صفة واحدة: أنها تلبي الرغبات الدنيوية، تلبي المصالح العاجلة، وأنظر وإذا بكل فئةٍ تغطي نفسها بها، كل فئةٍ تُجمِّل سيرها إلى متعتها إلى هواها إلى أنانيتها إلى عصبيتها إلى سياستها بهذا الدين الإسلامي.

وانظروا أيها الإخوة تجدون هذه الظاهرة التي تقشعر لها الألباب، ومن ثمّ فلن تقشعر الألباب لهذا الذي يقرره بيان الله سبحانه وتعالى. انظروا إلى الكثرة الكاثرة من حولنا تلك التي اتجهت إلى سياسة استمرأت الركون إلى العدو، والركون إلى الغاصب، والركون إلى أعدى أعداء هذا الدين، ولكن هذه الفئة أو هذه الفئات وهي تمارس عملها هذا تسير إلى هدفها وراء ستارٍ من الدين، شعاراته، مظاهره، أقواله وكثيراً ما تتخذ من أجهزة الإعلام أبواقاً للإعلان بكلام الله سبحانه وتعالى، وللترويج لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وتنظر إلى فئةً أُخرى أو فئات أخرى استمرأت من الدنيا ما يسيرها في طريق الأهواء المحرمة، وما يجعل مجتمعها أشبه بمجتمع من المجتمعات الغربية لا بل أكثر، فما من لونٍ من ألوان المتع المحرمة إلا وهو مزدحمٌ وواضحٌ وثائرٌ في مجتمعهم، ولكنها في الوقت ذاته تغطي واقعها هذا بطنينٍ إسلامي وطنين ديني، فالمآذن تظل مزدانة بالأضواء وآيات الله عز وجل تظل أصوات المقرئين لها تجاوز طبقات الجو، والمتحدثون في الإسلام ومعاني الإسلام والكلمات التي تُعدُ شعارات عظيمة وبرّاقةً للإسلام كلها يروج رواجاً كبيراً في تلك المجتمعات.

متعٌ وأهواءٌ محرمة تسابق المتع التي تسمعون عنها في المجتمعات الأوروبية، وغطاءٌ من الإسلام والدين.

وتتابع النظر والتأمل فتجد فئات تعبد عصبيتها، تعبد انتماءاتها، المذهبية تعبد أنانيتها. ولكن كيف السبيل إلى أن تغذي عصبيتها هذه؟ وإلى أن تغالب بها الآخرين السبيل إلى ذلك؟ مرةً أخرى هو الإسلام .. تتخذ من الإسلام ومبادئه وأحكامه الغذاء الأوحد المثالي، لتغذية عصبيتها، لتغذية أنانيتها، لتغذية انتماءاتها .. كل ذلك في الواقع عبادةٌ للذات، لكنه يُغطى هو الآخر بغيرة على دين الله عز وجل، بكلماتٍ مستعارة من كتاب الله أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتنظر إلى هذه الفئات فتجد أنها ترى بأم عينها كيف يُمزق الإسلام بهذا الإستغلال وهذا التسخير! وكيف يتحول الإسلامُ إلى مزق بل إلى لُقم عن طريق هذا الاستغلال وهذا التسخير! ومع ذلك فهي تتجاهل هذا، وتمضي سائرةً إلى تغذية ذاتها وأنانيتها وعصبيتها.

انظروا أيها الإخوة إلى ما أنظر، وتدبروا كما أتدبر، والتفتوا يميناً وشمالاً تجدون مصداق كلام الله عز وجل: "وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ".

فئات مختلفة ... هذه عاكفةٌ على أهوائها على رغباتها، مُصرّةٌ على أن تستقدم كل متع أوروبا وكل المستحضرات الحديثة من لهوها المختلف المتنوع، تُصر على أن يستحضر ذلك كله في مجتمعاتها، هي غنية هي تملك هذا كله بواسطة المال، ولكنها في الوقت ذاته تغطي نفسها بغطاءٍ لا نملك نحن أن نغطي أنفسنا به، فالحديث عن الإسلام صباح مساء، والشعارات الإسلامية تملأ أجهزة الإعلام .. كل ذلك جاهز.

تنظر إلى فئات أخرى .. وهي تلك التي استسلمت باسم السلام، وكلكم يعلم هذا الأمر، ونحن نسأل الله عز وجل دائماً أن يقينا رشاش هذا البلاء، وأن يُحصن أمتنا ضد هذا الانحراف، فتلتفت إلى مقاييس الدين فلا تجد أي شارة في الإسلام تبرر هذا الأمر، العدو يقتحم الدور باسم التطبيع وغير التطبيع ونحو ذلك، العدو يُدخل وسائل تربيته حتى في البيوت، العدو يحاول أن يشتري النفوس والضمائر عن طريق الوسائل اللاأخلاقية وغير ذلك، والذين فتّحوا الأبواب متجاهلون ومعرضون ويُغطّون أنفسهم باسم الدين بالآية القائلة "وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا".

يلتفت البسطاء فيسمعون القرآن يُتلى، ويسمعون الأحاديث الدينية تتكرر، ويجدون المؤتمرات والندوات باسم الإسلام تعاد بين حينٍ وآخر، والناس الذين يتاجرون بشعارات الإسلام يُرّحب بهم. البسطاء يقولون: إنهم مسلمون، إنهم ملتزمون...

تنظر إلى الفئة الأخرى وهي تلك التي لا تُبالي بأن يُمزق المسلمون شر ممزق، لا تبالي بأن يتحول المسلمون الذين قال الله عنهم: "إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا" أصلحوا "بين أخويكم" لا تبالي بأن تناقض أمر الله، فيُفسد بين إخوانه، ويجعل من الآراء الاجتهادية المختلفة أسلحةً تفتك في الأمة الواحدة، وتجعل من الإخوة الذين أمرنا الله بإصلاح ما بيننا وبينهم، يحيلون الأمر إلى وسيلة إفسادٍ فيما بيننا وبينهم.

أليس هذا هو سبيل لتغذيتي لعصبيتي، للمذهب الذي أنادي به، للرأي الذي أجنح إليه؟! أليس هذا هو السبيل لضمانة تغلبي في الساحة؟! إذاً فعلى الدنيا بل على الإسلام العفاء، وليتمزق المسلمون شذر مذر، وليُسخر الغرب هذا الواقع في سبيل ضرب المسلمين، المهم أنني تغلّبتُ في الساحة، وأن رأيي ظهر وتألق، وأنني استطعت أن أجر أكثر الناس إلى ما أرى.

وهكذا تحول الإسلام إلى سُتُر، كل صاحب رغبة، كل صاحب هوى، كل صاحب متعة، كل صاحب طريقٍ سياسيٍ أو غير سياسي يُهرَع إلى الإسلام ليجعل منه غطاءه الأمثل. هذا هو الذي يعيدنا إلى القناعة التامة بقول الله عز وجل: "وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ"، يعيدنا إلى القناعة التامة بقول الله عز وجل: "وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا".

ثم إن هذه الظاهرة تنبهنا إلى شيء آخر: تنبهنا إلى أن الإسلام - ولا شيء غير الإسلام - هو الأداة الفعّالة في حياة المجتمعات اليوم، الإسلام هو الأمل الوثّاب الذي يُمكن أن تزدهر من وراءه طموحات الشعوب وآمالها. لو لم يكُن الإسلام هكذا لما رأت هذه الفئات سبيلاً إلى أن تستر نفسها وتستر انحرافاتها عن طريق الإسلام فقط، ذلك لأنها تعلم أن الإسلام في هذا العصر هو السلعة الرائجة، الإسلام في هذا العصر هو الأمل، الإسلام في هذا العصر هو مطمح الأبصار. لكن مطمح أبصار من؟ مطمح أبصار الأفراد، مطمح أبصار الذين لا مصالح لهم، مطمح أبصار الذين فرغت قلوبهم من الأهواء الآسنة التي تنتحر أوروبا بها اليوم. هؤلاء الناس هم الذين يُخدعون اليوم بالإسلام عن طريق هذه الفئات.

ولنا أن نتأمل أملَ خيرٍ من وراء ذلك، ما دمنا نعلمُ يقيناً أن الإسلام هو مطمح أنظار العالم كله، وما دام أن الإسلام هو الألق الذي تسعد به حتى بحلمه الأفكار والفئات والنفوس الإنسانية فلسوف يأتي بإذن الله يومٌ يتغلب الواقع الطاهر على هذا الواقع الذي يُستغل به الإسلام استغلالاً، لسوف يأتي اليوم القريب بإذن الله الذي نجد أن هنالك في الساحة مسلمين لا يُغذون عن طريق الإسلام عصبياتهم ولا يُغذون أنانياتهم، بل يُضحون بعصبياتهم وبإنتماءاتهم وأنانياتهم في سبيل وحدة الإسلام، في سبيل وحدة المسلمين.

سيأتي اليوم القريب الذي تتساقط فيه الأوراق التي يستر أولئك المنحرفون أنفسهم بها، إن لإنحرافات سياسية، إن لسبلٍ من الأهواء المختلفة، أو إلى متع أو إلى أي شيء غير ذلك، ولسوف يتألق الإسلام في نفوس المخلصين لدين الله سبحانه وتعالى، ونسأل الله عز وجل أن يكون هذا الغد قريبا إن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيباً.

"قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا".

اللهم اجعلنا من هؤلاء الناس. أقول قولي هذا وأستغفر الله .

تحميل



تشغيل

صوتي