مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 16/02/1996

جبر الخواطر .. أجلُّ ما يتقرب به العبد إلى الله

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أن سيدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى .

أمّا بعدُ فيا عباد الله ..

لعلكم تعلمون أن من أهم الشعائر التي فرضها الله سبحانه وتعالى عند نهاية هذا الشهر المبارك وبداءة عيد الفطر السعيد الذي أكرم الله عز وجل به هذه الأمة، لعلكم جميعاً تعلمون أن من أهم الشعائر التي افترضها الله عز وجل على الناس في هذا الميقات زكاة الفطر، وزكاة الفطر هذه جعل الله عز وجل ميقاتها بين نهاية شهر رمضان ودخول يوم العيد، فكل من أهلّ عليه هلال العيد وخُتم عنه شهر رمضان المبارك فقد فرض الله سبحانه وتعالى عليه في ماله ما يسمى بزكاة الفطر، عنه وعن كل من أمر الله سبحانه وتعالى أن ينفق عليهم من زوجٍ وأولادٍ ونحو ذلك.

ولعلكم جميعاً تعلمون أيضاً أن زكاة الفطر هذه إنما فرضها الله سبحانه وتعالى في غالب قوت البلد الذي يسكن هذا الإنسان المكلف فيه، وذلك لما رواه أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (افترض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من شعيرٍ أو تمرٍ أو برٍ أو أقط، فلا أزال أُخرجه ما حييت) واستظهر العلماء من ذلك أن هذا التنويع الذي ذكره الله أبو سعيدٍ الخدري إنما يدل على أن المطلوب هو أن يُخرج زكاة الفطر من غالب قوت البلد الذي يعيش هذا الإنسان فيه، فإن كان براً فبر أو شعيراً فشعير أو تمراً فتمر، وإن تعددت الأصناف وتساوت كانت له الحق أن يُخرج ما شاء منه.

ولقد جعل الله سبحانه وتعالى هذه الصدقة شعيرةً من شعائر يوم العيد المبارك، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإخراجها قبل خروج المسلمين إلى صلاة العيد، وذلك لما رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن تخرج صدقة الفطر قبل الخروج إلى الصلاة)، أي قبل خروج الناس إلى صلاة العيد فإذا أخرها الإنسان عن ذلك عصى وإذا أخرها عن يوم العيد لم تعد صدقة فطر، وإنما تصبح صدقةً من الصدقات، واستقرت إثماً في عنق هذا الإنسان.

أما الشرائط التي ينبغي أن تتوفر لكي يُكلف الإنسان بإخراج هذه الصدقة، فهي شرائط يسيرة ما أظن في الناس من لا تنطبق عليهم هذه الشرائط:

كل إنسانٍ أدبر عنه شهر رمضان، وأقبل عليه يوم العيد، وهو يملك من النفقة ما يحتاج إليه في يوم العيد وليلته لنفسه ولأسرته التي كلفه الله سبحانه وتعالى الإنفاق عليها، وزاد عن ذلك شيء فقد وجب عليه أن يُخرج صدقة الفطر.

كل إنسانٍ يملك سكناً أو يسكن في سكن بأجرةٍ أو بأي وسيلة من الوسائل، ووجد أنه يمتلك المال الكافي ليعود به على نفسه وعلى أسرته التي كلفه الله الإنفاق عليها يوم العيد وليلته فقط، وازدادت عن ذلك زيادة فقد وجب عليه أن يخرج صدقة الفطر.

ومن هنا ندرك أن الله عز وجل جعل هذه الشعيرة عامةً يُخاطب بها الناس جميعاً؛ ذلك لأنك لا تكاد تجد إنساناً لا يملك النفقة الكافية في هذه الساعات، ساعات العيد التي ينبغي أن يعود بها على نفسه وعلى من ينبغي أن يعيلهم.

فما هي الحكمة أيها الإخوة؟ ما هي الحكمة من أن الله عز وجل جعل هذه الشعيرة عامةً تصيب الناس جميعاً على خلاف زكاة المال؟ وما الحكمة من أن الله عز وجل جعل مقدارها مقداراً يسيراً؛ إذ زكاة الفطر عن كل إنسانٍ لا تزيد على أن تكون صاعاً من غالب قوت البلد الذي هو فيه، والصاع لا يتجاوز ألفي غرام أي كيلوين فقط من غالب قوت البلد؟ كل إنسانٍ يستطيع أن يدفع هذا المقدار عن نفسه وعن من كلفه الله سبحانه وتعالى الإنفاق عليه. ما الحكمة أيها الإخوة؟

الحكمة هي أن تنظف القلوب التي قد يكون ران عليها حقدٌ أو ران عليها ضغائن أو تسربت إليها مشاعر من الغضب، مشاعرٌ من البغضاء اتجاه المسلمين بعضهم مع بعض، في هذه الحالة وشهر رمضان قد أقبل ثم أدبر، والعيد على الأبواب، ينبغي أن يسارع المسلمون جميعاً إلى اتخاذ أقرب الوسائل لتطهير قلوبهم من الشحناء ومن البغضاء، وأن يسارعوا إلى إعادتها بيضاء نقية كما أمر الله سبحانه وتعالى فما السبيل إلى ذلك؟

السبيل إلى ذلك هو أن يتلاقى المسلمون جميعاً فقراء وأغنياء مهما كانت أحوالهم أن يتلاقى المسلمون جميعاً بأي وسيلة من الوسائل الإنسانية تساعد على تطهير القلوب من السخائم، تساعد على تطهير القلوب من الشحناء والبغضاء، والوسيلة التي شرعها الله سبحانه وتعالى لذلك بالإضافة إلى زكاة المال التي هي محصورةٌ في طبقةٍ معينة من الناس وسيلة ذلك إنما هي زكاة الفطر.

هذا هو السبب في أن الله عز وجل جعل لها شرائط خفيفة تنال الناس جميعاً، وهذا هو السبب في أن الله عز وجل جعل مقدارها مقداراً يسيراً لا يرهق أحداً من الناس إطلاقاً إعطاؤه.

فانظروا أيها الإخوة إلى النتيجة التي نريد أن نصل إليها بعد هذا الكلام البسيط مسألة فقهية شرعها الله عز وجل. لاحظوا أن الله عز وجل ما شرع ما شرع من العبادات إلا خدمةً لعلاقة الناس بعضهم مع بعض أن تسير على نهجٍ إنساني سوي، بل ما شرع الله ما شرع من أحكام المعاملات المختلفة إلا خدمة لهذه العلاقة أن ترقى إلى مستوى الصلة الإنسانية الوثقى، بل إن الله عز وجل ما ألزم عباده بعقائد الإسلام وافترض عليهم أن يدينوا بمشاعر العبودية لله عز وجل إلا في سبيل أن تتطهر قلوبهم وأن تصبح قلوباً صافية عن الشوائب، بل أن تصبح قلوباً سليمة كما وصف الله سبحانه وتعالى على لسان خليله سيدنا ابراهيم.

ومن هنا نعلم أن الإنسان الذي يتقرب إلى الله بنسك بعبادات بصدقات بحجٍ بنحو ذلك من العبادات التي شرعها الله عز وجل، ثم يعود إلى قلبه فيراه لا يزال مليئاً بالضغائن مليئاً بالشحناء أو الأحقاد، فليعلم هذا الإنسان أن طاعاته لا تكاد تقبل؛ ذلك لأنها لم تحقق الحكمة التي من أجلها شُرعت، وإنما شرع الله سبحانه وتعالى هذه الطاعات كلها من أجل أن تغدو قلوب الناس قلوباً صافية، قلوباً سليمة.

وما أعلم طاعة يتقرب بها الإنسان إلى الله عز وجل كجبر الخواطر كإدخال الفرح إلى القلوب المكلومة أو الحزينة، ما أعلم قط طاعة يتقرب بها الإنسان إلى الله أجل من هذه القرب، بشرط واحد هو أن يكون هدف هذا الإنسان استنزال رضا الله سبحانه وتعالى عنه.

قد تكون العبادات قليلة، قد تكون الطاعات غير كثيرة، قد لا يكون هذا الإنسان مما يقوم الليل أو ممن يتهجد أو يصلي صلاة التسابيح، وقد لا يكون ممن يسعى إلى ليال الإحياء هنا وهناك كما هي العادة الحديثة نعم في هذه البلدان وأمثالها، قد لا يكون متحلياً بشيء من ذلك، لكن إذا وفقه الله عز وجل إلى أن يكون جباراً للخواطر الكثيرة، إذا وفقه الله عز وجل لأن يكون خادماً لهذه الأفئدة يجلو عنها قتامى الحزن، يجلو عنها الشعور بالآلام والمصائب وكان قصده بذلك رضا الله، فليعلم أنه محبوب من قبل الله سبحانه وتعالى.

وما ورث الإنسان وصفاً من الصفات التي أكرمه الله بها أدل على محبة الله له من وصف الحنان، وقديماً وصف الله سبحانه وتعالى سيدنا يحيى بصفات فلما وصفه بالحنان نسب هذه الصفة إلى ذاته العلية ألم تسمعوا قوله عز وجل: "يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً (12 ) وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً" لماذا قال (وحناناً من لدنا) خصّ صفة الحنان بهذه الصفة باللدنية بهذه النسبة إلى ذاته ليبرز أهمية هذه الصفة، وليبرز أنها خصيصة حب من الله سبحانه وتعالى ليحيى.

أقول هذا الكلام أيها الإخوة لأننا نقف على مشارف بل ساعاتٍ نودع هذا الشهر، ونستقبل فيها يوم العيد، هذا التلاقي بين شهر مضى وبين عيد يأتي إنما ينقدح من تلاقيهما هذا الشعور الذي أقوله لكم.

كل مسلم ينبغي أن يعود إلى قلبه ويستشعر معنى الحنان في كيانه، ثم ينبغي أن يتساءل هل وضع هذا الشعور من حياته موضع التنفيذ في كيانه، ثم ينبغي أن يتساءل هل وضع هذا الشعور من حياته موضع التنفيذ اتجاه أهله، زوجه، أولاده، بناته والأقربون أولى أن ينالوا هذه الصفة ممن متعه الله سبحانه وتعالى بشيءٍ من الحنان. ثم ليتساءل: هل أكرمه الله سبحانه وتعالى بالقدرة على أن يعود بهذا الشعور إلى الآخرين إلى المنكوبين إلى الحزانى من الناس إلى الفقراء؟

إن رأى أن الله سبحانه وتعالى أقدره على أن يكون سبيلاً إلى إدخال الفرحة في قلوب أهله وأسرته والأقربين من حوله أو الأبعدين من سائر الناس، فليهنئ أنه ممن أحبه الله سبحانه وتعالى، أما إن وجد أنه ضيق الصدر بهذا الشعور، أما إن وجد أنه لا يستطيع أن يعامل الناس بالطريقة التي يدخل السرور بها إلى أفئدتهم، فليكن من صلته مع الله على حذر، ولا يخدعن بكثرة صلاته إن كان مكثراً للصلاة ولا يتصورن أن كثرة أذكاره أو كثرة حجه أو كثرة نسكه أو أن شيئاً من ذلك يقربه إلى الله سبحانه وتعالى.

أيها الإخوة يقول الله عز وجل في محكم تبيانه: "وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً" ومعنى هذا الكلام أن الله عز وجل جعل الإنسان مادة امتحان للإنسان، فجعلك مادة امتحان لي، وجعلني مادة امتحان لك؛ جعلك مادة امتحان لي ابتلاك بمصائب بفقر بضنك ثم إنه ندبني إلى أن أفعل كل ما أملك لأزيح عن قلبك هذه المشاعر، وابتلاك الله أيضاً عز وجل بي ... والكلام في هذا طويلٌ وأظنني قد شرحت جوانباً منه مراراً، والله عز وجل قادر على أن يجعل قلوب الناس كلها تمتلئ فرحاً وسروراً، ولكن الله عز وجل شاء أن يكون مفاتيح ذلك بيد عباده، أعطاني الله سبحانه وتعالى مفتاح إدخال السرور على قلبك، وأقدرني على إدارة هذا المفتاح لكي يكسبني الأجر عن طريق ذلك، وأقدرك الله عز وجل على هذا بالنسبة لي ... تلك هي سنة رب العالمين في هذه الدنيا أيها الإخوة.

فحققوا هذا المعنى في حياتكم، واجعلوا من تلاقي نهاية هذا الشهر وإقبال العيد بعد ذلك مثابةً لبدءٍ في هذا الطريق، واعلموا أن الله ما شرع زكاة الفطر إلا من أجل هذا المعنى، صاع من غالب قوت البلد أو قيمة هذا الصاع ماذا عسى ان يفعل لن يغني فقيراً أخذ ولن يفقر غنياً أعطى بشكلٍ من الأشكال، لكنها صلة القربى لكنها صلة تعلن عن نفسها لكنه معنى من معاني الابتسام معنى من معاني الحنان والسرور، وهذا ما يقرب الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى.

فيا أيها الإخوة اجعلوا رأس مالكم في القرب إلى الله عز وجل إدخال السرور على أهليكم وعلى أولادكم ثم أقاربكم ثم سائر الناس من حولكم، بالكلمة الطيبة إن لم تستطيعوا بالمال والله عز وجل عندما أمر بالصدقات لم يأمر بها من أجل أن يعود الإنسان بكمٍ ورقمٍ مالي على زيد من الناس الله غني حليم، ولكن الله عز وجل أمر بذلك من أجل أن تتلاحم النفوس وتتقارب القلوب ألم تصغوا إلى قوله عز وجل: "قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ".

إن الله عز وجل يريد أن تستخدم المال تعبيراً عن حبك تعبيراً عن حنانك تعبيراً عن رقة شعورك، اتجاه إخوانك تعبيراً عن أنك تواجههم بقلبٍ أبيض سالمٍ من كل غش وضغينة.

أسأل الله عز وجل أن يحققنا بهذه الصفة.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم .

تحميل



تشغيل

صوتي