مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 02/02/1996

هل ستثمر غراس شهر رمضان في قلوبنا!؟

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أن سيدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أمّا بعدُ فيا عباد الله ..

إنه لجميلٌ حقاً أن تزدحم المساجد في مثل هذا الشهر المبارك بالمصلين بالراكعين والساجدين، وإنه لجميلٌ حقاً أن يتسابق الناس رجالاً ونساءً إلى المساجد للقيام بالقيام الذي ندبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه في هذا الشهر، وإنه لجميلٌ حقاً أن يُقبل الناس إلى تلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى وأن يُكثر الإنسان منا من قراءة كتاب الله عز وجل في البكور والآصال ... كل ذلك من أبرز مظاهر القرب إلى الله سبحانه وتعالى، ومن أبرز ما يتعلق بشعائر هذا الشهر المبارك.

ولكن هذا كله أشبه ما يكون بغراسٍ فاضت به الأرض، فاخضرّ وجه الأرض بهذا الغراس، إنه لمنظر جميل حقاً، وإن الآمال لتزدهر بمرأى هذا الغراس وهذه الخضرة التي أينعت في وجه هذه الأرض، ولكن الأمل ينتظر أن يزدهر هذا الشيء بثماره، فالغراس يبعث على الأمل لا لذاته ولكن للثمار المرجوة من وراءه.

وهكذا فإن إقبال الناس إلى المساجد في هذا الشهر، وإن ازدحام المساجد بالمصلين والراكعين والساجدين، وإن كثرة الإقبال إلى كتاب الله سبحانه وتعالى قراءةً وتدارساً .. كل ذلك أشبه ما يكون بغراسٍ أينعت في الأرض والآمال لا تتعلق بهذه الغراس وإنما تتعلق بالثمار الآتية من وراءه، فما هي ثمار الإقبال على المساجد في هذا الشهر؟ ما هي ثمار الإقبال إلى كتاب الله سبحانه وتعالى؟ ما هي ثمار الإقبال إلى المساجد لصلاة التراويح وقراءة جزءٍ من كتاب الله عز وجل في كل ليلة؟

ثمار ذلك أيها الإخوة أن تتطهر قلوبنا من حب الدنيا، وأن تقبل إلى الله سبحانه وتعالى خليةً طاهرةً نقية، إن أمرنا الله عز وجل بعبادة فمن أجل تطهير أفئدتنا يأمرنا الله بها، وإن أمرنا الله عز وجل بكثرة الركوع والسجود، فلهذه الحكمة يأمر، وإن أمرنا الله عز وجل بكثرة التبتل والذكر بين يديه فمن أجل تطهير قلوبنا من محبة الدنيا يأمرنا الله سبحانه وتعالى بذلك كله.

وقد قال لنا الباري سبحانه وتعالى فيما خاطبنا به بمحكم تبيانه: "وأُحضرت الأنفس الشح" هكذا قضى الله عز وجل، قضى الله سبحانه وتعالى أن يحبب إلينا الدنيا، ثم قضى الله عز وجل أن يبتلينا بالشح، فيجعلنا نتكالب على المال بعد أن جعلنا الله سبحانه وتعالى نحبه "وإنه لحب الخير لشديد" ما الحكمة من هذا؟

الحكمة من هذا أن يوجهنا إلى الدواء الذي يحررنا من حبنا للدنيا وللمال، ثم يوجهنا إلى الدواء الذي يحررنا من الشح الذي ابتلانا الله سبحانه وتعالى به، الصلاة السجود الركوع كثرة قراءة القرآن الوقوف خلف الإمام بإصغاءٍ إلى تلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى بمقدار جزءٍ في كل ليلة .. كل ذلك أدوية كل ذلك سبل من أجل أن يطهر الإنسان قلبه بهذه السبل من محبته للدنيا، ومن أجل أن يتحرر من الشح الذي ابتلانا الله سبحانه وتعالى به، فهل أينع هذا الغراس ثماراً؟ هل حقق هذا الغراس الذي يبعث السرور فعلاً في النفوس؟ هل حقق هذه الثمار التي ينتظرها الله سبحانه وتعالى منا؟ يقول الله عز وجل في مكانٍ آخر: "ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون"؛ قال أولاً: "وأحضرت الأنفس الشح" ثم قال: "ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون".

وللإنسان أن يقول: ولكن يارب ابتليتني بالشح، فكيف السبيل إلى أن أتوقى ما قد ابتليتني به؟

السبيل هذا الذي أمرك الله عز وجل به، كثرة الركوع والسجود صلاة التراويح في هذا الشهر الإقبال إلى كتاب الله سبحانه وتعالى قراءةً أو إصغاءً. ما المراد منه؟ المراد منه أن تعالج جراحك المراد منه أن تحرر نفسك من شحك، ولقد ابتلانا الله سبحانه وتعالى بالمال، وملكنا إياه فيما نزعم، ولكن الله لم يقل ولا في آية من كتابه أننا امتلكنا مالاً، إطلاقاً، إن حدّث عن صلة الإنسان بالمال. إما أن يقول: "وآتوهم من مال الله الذي آتاكم". وإما أن يقول: "وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه". هل رأيتم في كتاب الله آيةً يعلن البيان الإلهي فيها أن الإنسان يملك مالاً؟ لن تجدوا إطلاقاً. ولكن الله عز وجل مع ذلك قضى بأن يكون الإنسان محباً للمال، كي يبحث عن العلاج فيستعمله ومن ثم كي يتخلص من هذا الداء العضال.

والله الذي لا إله إلا هو لو قرأنا كتاب الله سبحانه وتعالى وختمناه في كل يوم مرة من هذا الشهر، ثم مضى هذا الشهر وقلوبنا متعلقةٌ بالدنيا، ونحن في سجن هذا الشح الذي ابتلانا الله عز وجل به، لن يفيدنا كتاب الله عز وجل شيئاً.

اسمعوا هذه الكلمات التي قالها حارثةُ رضي الله عنه لرسول الله يوم سأله صلى الله عليه وسلم: "كيف أصبحت يا حارثة"؟ قال: أصبحت مؤمناً حقاً. قال: "ويحك إن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك" ما الدليل على إيمانك؟ لم يقل أصبحت مكثر من الصلاة، لم يقل إنني أقرأ كتاب الله من ألفه إلى يائه في كل يومٍ مرة، ما قال هذا، وإنما قال: عزفت نفسي عن الدنيا، وكأني بعرش ربي بارزاً، وكأني بأهل الجنة ينعمون في نعيمها، وكأني بأهل النار يتعاوون فيها. هذا ما قاله حارثة. فماذا أجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: "أبصرت فالزم". تلك هي الحقيقة.

هذه هي النتيجة من كثرة الصلاة من كثرة العبادة من كثرة التبتل من كثرة ذكر الله سبحانه وتعالى، وإنني لأعجب لإنسانٍ يقرأ الكثير والكثير من كتاب الله عز وجل، وإني لأكثر عجباً من إنسانٍ يتجه إلى المساجد التي يُتلى فيها كل ليلة جزء من كتاب الله عز وجل، ثم يصلي ويركع ويسجد ويدعو ويتبتل، فإذا طرق بابه طارقٌ يطلب منه شيئاً من حق الله سبحانه وتعالى في ماله، تبرم وأعرض وأظهر الضجر وربما اعتذر بأنه لا توجد سيولة. كيف يمكن أن أتصور غراساً يفيد إذا لم أجد الثمار وقد ازدهرت في أعلى الغراس. ماذا أصنع بالشجر الذي لا يُثمر؟ هل مآل هذا الشجر إلا إلى الحريق أيها الإخوة.

مصيبة المسلمين أيها الإخوة أنهم في أحسن أحوالهم يملأون المساجد، وهذا ما نحمد الله عز وجل عليه، ولكننا عندما ننظر إلى التضامن الذي هو أساس ديننا الإسلامي العظيم، إلى التكافل الذي هو دعامة هذا الدين، لا نجد أحداً من المسلمين في هذه الساحة إلا القلة النادرة، الكل يشكو، الكل يتأفف من سوء الحالة الاقتصادية، الكل يشكو من عدم وجود السيولة، وكلمة السيولة كلمة يدرك معناها وأبعادها التجار، وما أكثر ما يعتذرون بها. ولكنني أتساءل: ترى هل سيقبل الله سبحانه وتعالى المعذرة من خلال ترديد هذه الكلمات؟

أيها الإخوة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان في جوده كالريح المرسلة، وكان أجود ما يكون في هذا الشهر. فإن أردتم أن تتقربوا إلى الله سبحانه وتعالى بطاعةٍ يرضاها، وإن أردتم أن تختصروا المسافة في العبادة بينكم وبين الله عز وجل، فتحرروا من الشح، وكونوا مظهراً لقول الله عز وجل: "ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون". وما أيسر أن يتخلص الإنسان من شح نفسه بالعقيدة الإيمانية التي توج الله سبحانه وتعالى أفئدتنا وقلوبنا بها.

أنا أعجب من إنسانٍ يدعي أنه مؤمن بالله، وأنه مصطبغٌ بأركان الإيمان كما أراد الله عز وجل، ثم إنه يتكالب على المال ويشح به، هذا نقيض ذاك..

إيماني بالله يعني أن الله هو الرزاق.

إيماني بالله يعني اليقين بقول الله تعالى: "وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه".

إيماني بالله يعني اليقين بقول الله سبحانه وتعالى: "فابتغوا عند الله الرزق".

إيماني بالله يقتضي أن أعلم أن هذه الدنيا زائلة، وأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة.

فكيف يجتمع ايماني بالله عز وجل مع نقيض ذلك كله؟

أنا مؤمنٌ بالله وأتكالب على المال، أنا مؤمنٌ بالله ويمر العام ولا أفكر بحق الله سبحانه وتعالى في المال الذي عندي، يمر العام وأنا مؤمنٌ بالله سبحانه وتعالى ويدعو هذا الشهر المتبتلين والقائمين والراكعين والساجدين إلى أن يأتسوا ويقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نجد إنساناً هناك.

أيها الإخوة إن الله عز وجل قال في محكم تبيانه: "وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيراً"، ومن مظاهر هذه الفتنة أن الله ابتلى الغني بالفقير، وابتلى الفقير بالغني، ولو شاء الله عز وجل لبسط مائدته أمام الجميع فتساوى الناس في المال، ولكن الابتلاء يختفي عندئذٍ.

ابتلى الله عز وجل الغني بالفقير الذي يراه عن يمينه وشماله وفي السوق وفي الصباح والمساء. ترى هل سيقتطع من ماله الذي يشح به ليعطي هذا الإنسان الفقير ويعلو به من مستوى الفقر إلى مستوى الكفاية؟

وابتلى الله الفقير بالغني هل سيذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اليد العليا خير من اليد السفلى. هل سيصبر؟ هل سيتعفف؟ وهكذا ..

هذه حقيقة الدنيا، وهكذا يسير الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى وأنا أتحدث عن حق الله سبحانه وتعالى في أموال الأغنياء، وربما تصور الكثير منا أن هذا المسجد لا يضم بين جنباته إلا الفقراء، ليس الأمر كذلك أيها الإخوة فالفقر أمرٌ نسبي والغنى أمر نسبي، كل واحد منا غني بالنسبة لمن دونه، وفقير بالنسبة لمن فوقه، وهكذا فكل إنسانٍ مكلف بأن يعود بفضل من زاده أو ماله إلى من كان دونه، وكل منا يستطيع أن يرى من الناس من هو دونه في المستوى المعيشي.

ولكن ما ينبغي أن تنظر دائماً إلى من هو أعلى منك حتى يحجبك كذلك عن النظر إلى من هو دونك، إذا سرنا على هذا النهج، فكلٌ منا يتمتع بجزء من الغنى، نعم وكل منا ينبغي أن يصغي للاصطباغ والخضوع والانقياد لقول الله سبحانه وتعالى: "وآتوهم من مال الله الذي آتاكم".

كل منا نبغي أن يصغي إلى كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في خوفٍ وهلع: (إن الله عز وجل قد جعل في مال الأغنياء بالقدر الذي يسع فقراءه، وإن الفقراء لن يجهدوا إذا جاعوا أو عروا إلا بما يصنع أغنياءهم، وإن الله محاسبهم على ذلك حساباً عسيراً).

وخلاصة هذا الكلام الذي أريد أن أقوله أن المسألة أمام الله عز وجل ليست بكثرة الركوع والسجود، وليست بكثرة قراءة كتاب الله عز وجل، وليست بحمل المصحف خلف الإمام في صلاة التراويح، كل ذلك سبل ووسائل .. إنما الأمر يظهر جلياً بمقياسٍ إلى قرب الإنسان من الله أو بعده من الله؛ إنما يتبين ذلك كله بمدى تحرر الإنسان من شحه، عندما أنظر إلى الدنيا نظر حارثة رضي الله عنه كطعامٍ عفن أكلت وشبعت منه وبقي منه بقية أتركها وراء ظهري، عندما أنظر إلى الدنيا على أنها عرضٌ زائل عندما يستوي لدي أن أنفق الملايين في سبيل الله عز وجل لمن هم بحاجة إليها، أو أن أدخرها في صندوقي، عندما يستوي هذا وذاك، هذا هو القرب الموصل إلى الله سبحانه وتعالى.

فانظر يا أخي المسلم إذا وجدت نفسك قد وصلت إلى حالةٍ رأيت أن الآلاف أو الملايين التي تملكها لا فرق بين أن تحل في جيب إنسانٍ فقيرٍ أمر الله بإكرامه، وبين أن تحل في جيبك، عندما تصل إلى هذه الحالة. اعلم أن الله قد تقبل منك عملك.

نعم .. ومع ذلك فالدرجة التي هي أعلى من هذا بكثير، هي أن ترى أن المال الذي يخبئ في جيبك، ليس إلا ترة عليك، وليس إلا عبئاً تحمله على ظهرك، أما المال الذي يودع في جيب فقير أمرك الله سبحانه وتعالى بالنظر إلى حاله، فذلك هو الغنى الذي يكرمك به، وذلك هو الينبوع الذي لا يمكن أن يجف بشكل من الأشكال. ألم تسمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم دخل داره وسأل عن بقايا لحم كانت في الدار. قالوا: يا رسول الله ذهب كلها إلا الكتف، أي تصدقوا بالجميع إلا الكتف، فقال: (بقيت كلها إلا الكتف). ما أنفقتموه هو الباقي، وما بقي هو العبء الذي نتحمله.

هذا هو المطلوب منا أيها الإخوة، (وأنفقوا من مال الله الذي آتاكم)، (أنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه)، لا تتصوروا أنكم تملكون في هذه الدنيا شيئاً، والله الذي لا إله إلا هو إن الإنسان لا يملك في هذا المعبر الذي يحده من طرف يوم الولادة ويحده من الطرف الآخر يوم الممات، لا يملك إلا عمله، لا يملك إلا ذلك الكفن الذي ينزل به في حفرته، هذا ما تملكه. أما كل ما وراء ذلك فشيء ابتلاك الله عز وجل به. ترى هل ستنفذ فيه حكم الله؟ هل ستكون من الكرم مقتدياً برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل ستعطي وأنت تذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه: "أنفق بلالاً ولا تخشى من ذي العرش إقلالاً".

أقول قولي هذا وأسأل الله العظيم أن يتقبل منا أعمالنا وأن يتوج عباداتنا بالكرم وبإعطاء حق الله سبحانه وتعالى في أموالنا .

تحميل



تشغيل

صوتي