مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 26/01/1996

سبق المفردون; المستهترون بذكر الله

لحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أما بعدُ فيا عبادَ الله:

كما أن الإنسان مهما جَمُلَ شكله ومهما تناسقت أعضاؤه لا يحيى بدون روح، فكذلكم الإسلام في كيان الإنسان المسلم مهما اتسم بالطاعات والعبادات فلا قيمة لهذا الإسلام ولا تحيا حقيقته إلا بروحٍ من ذكر الله سبحانه وتعالى.

وما شرع الله عز وجل ما شرع من العبادات والطاعات على كثرتها وتنوعها إلا من أجل أن يحيا قلب هذا الإنسان المتعبد بذكر الله سبحانه وتعالى، ولولا الذكر الذي تحيا به القلوب ما صلح حال مجتمع من المجتمعات ولا شاعت في جنباته قيم الدين ومبادئ الأخلاق، فذكر الله عز وجل هو معين الإسلام ومن ثم هو منبع القيم والمبادئ التي جاء بها هذا الدين الحنيف.

وما رأيت آيةً تُنذر الإنسان البعيد عن ذكر الله سبحانه وتعالى وتنبهه إلى أن إيمانه غير حقيقيٍ إن لم يُتوج بهذا الذكر مثل قول الله سبحانه وتعالى: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ" هذا الكلام يوضح بشكل جلي أن المؤمن حقاً هو ذاك الإنسان الذي فاض قلبه قبل أن يتحرك لسانه بذكر الله سبحانه وتعالى، فإذا رأى دلائل هذا الذكر من حوله، وجِلَ فؤاده واضطربت نفسه، ومن ثم خضع لسلطان الله سبحانه وتعالى وأوامره، هؤلاء هم المؤمنون حقاً.

وإنكم سمعتم أو تسمعون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيح الذي يقول فيه عن شهر رمضان المبارك، وهو حديث قدسي ينقله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" ترى ما الذي جعل للصوم هذه المزية التي يعبر عنها هذا الحديث القدسي الشريف؟

السبب أيها الإخوة أن الصوم ينفرد بخصيصة لا توجد في العبادات المختلفة. يمكن جداً أن يصلي الإنسان وهو غافلٌ عن صلاته، يمكن أن يحج ويؤدي مناسك الحج وهو مشغول الفكر بدنياه، وكذلكم الطاعات المختلفة يمكن أن يتلو القرآن وخياله متجه إلى دنياه وشهواته، أما الصائم الذي شعر بمعنى الصوم في نهاره جوعاً أو ظمأً فإن مشاعر صومه هذه تنقله إلى واحة من ذكر الله سبحانه وتعالى، كلما شعر بالجوع شعر أنه صائم، ومعنى أنه صائم أنه قد امتنع عن طعامه وامتنع عن شرابه تقرباً إلى الله سبحانه وتعالى، وأن الله يراقبه فهو إن أكل رآه الله عز وجل وحول أجره عقاباً، وإن شرب رآه الله سبحانه وتعالى ..

وهكذا فظمأ الصائم منبع لذكره لله عز وجل، وجوع الصائم منبعٌ أيضاً لذكره لله سبحانه وتعالى، ولذلك فإن الأعمال كلها يمكن أن يفعلها صاحبها رياءً إلا الصوم فإنه لا يمكن أن يكون رياءً، صوم حقيقيٌ وفيه رياء لا يمكن أن يكون هذا في المنطق والعقل، لأن الصائم الكاذب ليس صائماً هو يملك أن يخلو في داره ويأكل فهو ليس صائم أم إن كان صائماً صوماً حقيقياً فلن يصبره على صومه هذا، ولن يبعده عن تناول طعامه وهو جائع وعن تناول شرابه وهو ظمآن إلا صدقه مع الله عز وجل في هذا الصوم ولذلك لا يمكن أن يتسرب الرياء إلى الصوم.

كل هذا معناه أن قيمة العبادة التي يقبلها الله عز وجل إنما تتمثل في ذكر الله عز وجل.

الإنسان الذي يتحرك جزعه بمظهر طاعات، وقلبه خالٍ عن ذكر الله عز وجل؛ مراقبةً لله، تعظيماً لله حباً له خوفاً منه، لن تفيده طاعاته شروى نقير أبداً أيها الإخوة.

وذكر الله ما هو؟ كم قلنا وأعدنا القول ليس المراد بالذكر حركة اللسان، حركة اللسان سبيلٌ إلى الذكر الحقيقي، وإنما المراد بالذكر يقظة القلب إلى صفات الله سبحانه وتعالى وربوبيته وعظمته.

هذا الذكر قد يكون بمظهر تسبيحٍ وتهليلٍ وتحميدٍ وتوحيدٍ لله عز وجل، وقد يكون بمظهر تلاوة لكتاب الله عز وجل، ويكون القلب شريكاً للسان في الوعي والتلاوة، وقد يكون بمظهر دعاءٍ واجف يتقرب الإنسان به إلى الله عز وجل؛ يسأله كلما يريد أن يسأل، ويستعيذه من كل ما قد يخاف منه، وقد يكون بتأملٍ فكريٍ بمكونات الله سبحانه وتعالى وصفاته .. كل ذلك مظاهر متنوعة لذكر الله عز وجل، وقد يكون ذكر الإنسان لله عز وجل في خلوة من خلواته منفرداً، وقد يكون في جلوة من جلواته مع إخوة له يتساعدون على التحول من الغفلة إلى اليقظة ومن النسيان إلى تذكر الله سبحانه وتعالى، كل ذلك يكون ...

وكان كل هذا من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ودأبه، فكان يذكر الله خالياً، وكان يذكر الله في ملأ، وكان يذكر الله بين أصحابه، وكان يذكر الله تالياً لكتاب الله أو مصغياً لكتاب الله أو متأملاً في صفات الله عز وجل أو مبتهلاً ومتضرعاً داعياً الله سبحانه وتعالى.

وكان هذا شأن أصحابه البررة الكرام أيضاً، فكان الواحد منهم يذكر الله وهو سائرٌ في طريقه، أو يشتغل في حقله، أو يبيع ويشتري يمارس دنياه في الظاهر وقلبه مع الله في الباطن، وكان إذا رأى الواحد منهم أصحاباً له تداعوا إلى هذا المجلس من ذكر الله عز وجل فقال قائلهم تعالوا بنا نؤمن ساعة، هم مؤمنون. ما معنى نؤمن ساعة؟ تعالوا بنا نغذي إيماننا بمزيدٍ من ذكر الله حتى يزداد نمواً وحتى يزداد نشاطاً ويزداد قوةً بين جوانحنا وفي قلوبنا. هكذا كان ذكر أصحاب رسول الله لله، وهكذا كان ذكر رسول الله لربه.

لا يشترط للذكر بأن يكون الإنسان خالياً منفرداً، يكون الذكر ذكراً جماعياً في مسجدٍ أو في دارٍ أو في طريق في أي مكان، وقد يكون الذكر في انفرادٍ وخلوة، وكل ذلك سبيلٌ موصلٌ إلى الله عز وجل. ألم تسمعوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم القدسي الصحيح: "أنا معه إذ ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأٍ خير من ملأه" إذاً كل ذلك قرباً إلى الله عز وجل إذا ذكر الإنسان ربه في حلقة ذكرٍ مع إخوانٍ له فكم هو عمل مبرور كما ينص عليه هذا الحديث القدسي الذي يرويه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه.

أيها الإخوة .. ليس هنالك من مطمعٍ في أن يصبح الإنسان معصوماً، فكل بني آدم خطاء، وكل منا معرضون للآثام والمعاصي حاشى الرسل والأنبياء، لكن الأمل الكبير قائمٌ في أن نكون من المكثرين لذكر الله عز وجل، في الغدو والرواح، في الخلوات والجلوات، وعندئذٍ يخفف هذا الذكر أثقالنا من المعاصي.

هذا هو الأمل بالله سبحانه وتعالى .. الذكر هو الذي يخفف أعباء معاصيك، ألم تسمعوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه الترمذي في سننه، والحاكم في مستدركه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والطبراني من حديث أبي الدرداء بسندٍ صحيح، بل بأكثر من طريق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سبق المفردون المستهترون بذكر الله، وضع الذكر عنهم أثقالهم يأتون يوم القيامة خفافاً"

سبق المفردون وشرح صلى الله عليه وسلم معنى المفردون فقال: المستهترون بذكر الله، أي المكثرون جداً جداً من ذكر الله عز وجل حتى إذا نظرت إلى أحدهم ظننت أنه مأخوذ بهذا الذكر لله سبحانه وتعالى. ماذا صنع الذكر لهم؟ وضع الذكر عنهم أثقالهم. ذلك لأن الإنسان لن يكون معصوماً. أتريد أن توضع أثقال معاصيك عنك؟ أكثر من ذكر الله سبحانه وتعالى. هكذا يقول المصطفى عليه الصلاة والسلام. وضع الذكر عنهم أثقالهم يأتون يوم القيامة خفافاً، لا لأنهم لم يرتكبوا معصية في الدنيا لكن لأنهم أكثروا من ذكر الله عز وجل.

أيها الإخوة والله ما عجبي بعد هذا من إنسان فاسق، فالفاسق يوشك أن يهديه الله عز وجل في يومٍ قريب، وما عجبي من إنسان تائهٍ ضال فالضال يوشك أن ينتشله الله عز وجل من ضلاله وضياعه، ولكن عجبي من إنسانٍ ذاق طعم الإيمان، وأقبل إلى مساجد الله عز وجل وبيوته، يفر من مجالس ذكر الله، إذا رأى المسلمين يمدون أيدي الضراعة إلى الله داعين فر من هذا وكأنه أمام معصية من المعاصي، إذا سمع الأصوات ترتفع بذكر الله عز وجل والمكان يرتج بتوحيد الله أو بتهليلٍ أو بتكبير أو نحو ذلك أخذ حذاؤه وفر. ما هذا يا أخي ألم يذق قلبك لذة ذكر الله؟ ألم تشهد معنى قول الله عز وجل: "الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم لذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب" تطمئن القلوب. فهل رأيت إنساناً مؤمناً إذا ذُكر الله شعر بالضيق وفر من هذا الذكر!

هذا هو الأمر الذي أعجب منه جداً أيها الإخوة، والأعجب من هذا أن يتسائل أمشروعٌ أن يدعو الناس في المسجد ربهم بعد الصلاة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو سيد من دعا الله عز وجل دبر كل صلاة. روى مسلمٌ في صحيحه من حديث سعد بن أبي وقاص أنه كان يجمع أولاده ويلقنهم هذا الدعاء: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل" قال وكان رسول الله يدعو بهن دبر كل صلاة دبر كل صلاة.

ألم تسمع حديث رسول الله وهو يروي عن ربه "أنا معه إذ ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملأه" كيف يكون الذكر مع الملأ بأن تجد إخوة لك في الإيمان فتجلس معهم في دارٍ في طريقٍ في مسجدٍ، فتذكر الله إما بدعاءٍ ضارع وإما بتسبيح وتهليل أو بقراءة لكتاب الله عز وجل.

ولقد قلت مراراً إن زيد بن ثابت سأله إنسانٌ مسألة فقال إتِ بها أبا هريرة فقد كنت أنا وأبو هريرة وفلاناً هكذا قال وفلاناً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يدعو الواحد منا فيؤمن الآخران ثم يدعو الذي يليه فيؤمن الآخران وهكذا .. ودخل علينا رسول الله فأمسكنا، فجلس إلينا وقال عودوا إلى ما كنتم عليه، لاحظوا أيها الإخوة شيء فعله من عندهم هؤلاء الصحابة لم يسمعوا هذا من رسول الله أن يجتمع ثلاثة فيدعو واحد ويؤمن الآخران ثم تأتي النوبة على الذي يليه فيدعو ويؤمن الآخران وهكذا.. شيء خطر في بالهم ففعلوه دون تعليم من رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، كان ينبغي أن يقول لهم فيما يتصوره قساة القلوب وغلاظ الأكباد اليوم، كان ينبغي أن يقول لهم ما هذه البدعة؟ هل علمتكم هذا النوع من الدعاء! هل علمتكم مثل هذا المجلس؟! ولكنه صلى الله عليه وسلم بأبي هو أمي جلس إليهم وقال: عودوا إلى ما كنتم عليه، وكانت النوبة قد وصلت إلى أبي هريرة فدعى قائلاً: اللهم إني أسألك علماً لا ينسى إلى آخر ما دعى وأمن رسول الله مع الآخرين على دعائه.

أيها الإخوة لا قيمة لإسلام الإنسان المسلم، إن لم تسري في هذا الإسلام روحٌ من ذكر الله سبحانه وتعالى، وذكر الله سبحانه وتعالى شيءٌ يعرف الإنسان مذاقه بقلبه لا بلسانه، ولذلك فإني أعود فأقول: ما عجبي من إنسان فاسق ففسقه حجاب طبيعي ويوشك أن يرتفع من ما بينه وبين الله، كذلكم الضال، كذلكم التائه. ولكن عجبي من إنسانٍ مسلم يشترك مع إخوانٍ له في الركوع والسجود في بيوت الله عز وجل؛ ذاق طعم الإقبال على الله عز وجل، يفر من مجالس ذكر الله عز وجل!

ولعلكم تعجبون من هذا الكلام وتتصورون أن فيه مبالغة، لكن لولا أن عيني رأت لما قلت هذا الكلام أيها الإخوة.

أقول قولي هذا وأسأل الله عز وجل أن يجعل ذكره في قلوبنا أُنس حياتنا إلى أن نرحل من هذه الدنيا ونقبل إلى الله سبحانه وتعالى ليضع الذكر عنا أثقالنا.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي