مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 12/01/1996

ما هي التحديات التي تواجه المسلمين اليوم

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

يتعامل المسلمون اليوم في مابينهم بمصطلحاتٍ وكلماتٍ لا أعلم أنّ المسلمين السابقين من السلف الصالح كانوا يعرفونها أو يتعاملون معها أو يشعرون بشيءٍ من معانيها، من أبرز هذه الكلمات ما يرددونه من كلمة (التحديات التي يواجهها المسلمون في هذا العصر)، فما تجلس مجلساً مع مفكرين مسلمين إلا ويتأففون في حديثٍ ضَجر من ما يسمونه التحديات التي تواجه المسلمين وتَشُلُ فعاليتهم. ويذهبون إلى استعراض أنواع هذه التحديات، فمن تحديات اقتصادية، ومن تحديات اجتماعية، ومن تحديات علمية، ومن تحديات سياسيةٍ ونحوها ...

ويصور أحدهم المسلمين وكأنهم يعيشون في معترك حربٍ ضروس وهم عُزّل من كل سلاح، والأسلحة تتناوشهم من قبل الأعداء من كل صوب. وأتأمل في واقع المسلمين من قبل في صدر الإسلام أو في العصر الذي يليه أو الذي يليه، ولقد كانوا يعانون من ضنكٍ أشد من الذي يعانيه المسلمون اليوم في فجر البعثة الإسلامية وأبحث عن كلمة التحديات هذه فلا أقع لها على أي مثال، ولا أجد أن أي مسلمٍ تكلم عن ما يسمى اليوم بالتحديات فضلاً عن أن يتأفف منها فضلاً عن أن يُظهر ضعفه أمام هذه الأسلحة التي تُسمى اليوم بالتحديات، التحديات التي يواجهها المسلمون من إقتصادية واجتماعيةٍ وتشريعيةٍ وفكريةٍ و سياسيةٍ ونحوهها.

ألم يواجه المسلمون في صدر الإسلام أيام بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم شراً من هذه التحديات؟ ألم يكن المسلمون الذين كانوا مادة الإسلام الأولى وسرّ انتشاره الأول والجند الأول والرعيل الأول الذي أوجد الله عز وجل بهم الدولة الإسلامية التي ترامت أطرافها من شرقٍ إلى غربٍ وشمالٍ إلى جنوب، ألم يكونوا مثال الضعف؟ كانوا أناساً أُميين، كانوا أبعد ما يكونون عن الحضارة والمدنية، كانوا أبعد ما يكونون عن القوة والوحدة، وكانت التحديات تتفجر من داخلهم ضد الشرعة التي أنزلها الله عليهم، وكانت التحديات تحيط بهم من أطرافهم أيضاً، فالعادات التي واجه الإسلام العرب بها كانت عادات سيئة وكان السلوك أسوأ. فهذه هي التحديات الداخلية. وكانت المجتمعات التي تحيط بالجزيرة العربية التي بُعث فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم تذخر بالمدنية وبالحضارة وبالقوة وبالغنى، وكان العرب مثالاً يُضرب للتشرذم والضعف والهوان، وكانوا يعيشون على هامش التاريخ كما هو معروف.

هكذا كان الرعيل الأول الذي بُعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهل تأففوا في يومٍ من الأيام وضجروا من أنّ هنالك تحديات تشل فعاليتهم؟ من أن هنالك تحدياتٍ تواجههم بها الحضارة الرومانية أو اليونانية أو الفارسية؟ أو هل تبرموا بتحدياتٍ نابعةٍ من داخلهم تتمثل في عاداتٍ سيئة وأمورٍ وسلوكات آسنة تختلف كل الاختلاف مع النهج الإسلامي الذي شرعه الله عز وجل لهم؟ أبداً لم نسمع همسةً تُترجم تأففاً من ما يسمى اليوم بالتحديات.

في حين أن المسلمين اليوم وهم ليسوا أميون ولله الحمد، في حين أن المسلمين اليوم وقد ورثوا إسلامهم من التاريخ الذي يدخل العزة والكبرياء الإيماني في صفوف المسلمين وصدورهم، في حين أن المسلمين اليوم وقد أورثهم إسلامهم القناعة بأن الإسلام هو مصدر كل عز مصدر كل غنى، مصدر كل وحدة، في حين أن المسلمين اليوم على الرغم مما متعهم الله عز وجل به من قوىً ومن منطلقات للقوة يتأففون ويضجرون صباح مساء مما يسمونه التحديات التي تواجههم؛ وكأن هذه التحديات غدت حبل مشنقة قُضي على المسلمين اليوم أن يُشنقوا بها، وأنهم لا يستطيعون أن يبدو حراكاً أمام هذا الحبل الذي يُمثل قدرهم الذي لا محيص عنه.

وأنا عندما أقارن بين المسلمين اليوم وقد ورثوا عزة الإسلام من القرون التي خلت، وبينهم كتاب الله والأمثلة التي خلت تجعلهم أمام طريقٍ مفروشٍ بالرياحين، وأجد أولئك المسلمين الذين كانوا الرعيل الأول والمادة الأولى للإسلام كيف انطلقوا من نقطة الصفر إلى كل ما يسمى اليوم بالتحديات فحطموها وارتقوا بإسلامهم إلى أعلى القمم وذابت بين أيديهم المدنيات والعادات والحضارات الآسنة، عندما أُقارن بين المسلمين اليوم الذين يتدللون على الله بهذا الشكل وأولئك المسلمين أشعر أيها الإخوة بالخزي، أشعر بالخجل من الله عز وجل.

لا يجوز للإنسان أن يتدلل على الله إلى هذه الدرجة، ويحكم إنكم ورثتم كنوزاً من العزة والقوة والغنى ولا تحتاجون إلا إلى فتح مغاليقها واستعمالها، في حين أن المسلمين الذين بُعث فيهم رسول الله لم يكن معهم أي كنز لكنهم أوجدوا الكنز بجهادهم وجهودهم ويقينهم بالله سبحانه وتعالى. فما السر أيها الأخوة؟ ما السر في أنّ أولئك المسلمين عندما دخل الإسلام أفئدتهم لم يشعروا بأن هنالك سدوداً تتحداهم؛ اقتحموها غير واجفين، وأنّ هؤلاء المسلمين اليوم الذين ورثوا أسلحةً من القوة وورثوا كنوزاً من جيلٍ إثر جيلٍ إثر جيل، وورثوا عبرة الدهر ودروسه وقرآن الله بين جوانحهم يتخاذلون إلى هذه الدرجة ويعتذرون أن التحديات تحيط بهم، ومن ثمّ لا يستطيعون أن يسيروا كما أمر الله عز وجل في تطبيق الإسلام.

السر أيها الإخوة باختصارٍ ما يلي:

أولئك المسلمون فاضت قلوبهم بعد إيمانهم العقلي بالله عز وجل تبتلاً وعبودية لله، فاضت قلوبهم بعد إيمانهم العقلاني حباً لله، فاضت قلوبهم تعظيماً لله سبحانه وتعالى، امتلأت قلوبهم بهذه المشاعر كلها فسقطت مشاعر الدنيا بسبب ذلك من قلوبهم وأفئدتهم أمام عظمة الله هانت عظمة الأغيار، أمام محبتهم لله سقطت محبة الدنيا، أمام تعظيمهم لحرمات الله عز وجل هانت عليهم الدنيا بكل متعها وألوانها، في حين أن المسلمين اليوم أو أن جُلّ المسلمين اليوم إسلامهم بقي فكراً يتحرك، بقي منطقاً يتحرك في أدمغتهم، أما القلوب فلو أنك نبشتها لوجدتها خاوية من تعظيم الله، لوجدتها خالية من محبة الله، لوجدتها خالية من المخافة من الله، وإذا خلا الفؤاد من حب الله وتعظيمه وخوفه فلن يبقى وعاءً فارغاً لا بد أن تفيض فيه محبة أخرى، لابد أن تفيض هذه القلوب عندئذ بمحبة الدنيا بتعظيم الشهوات والأهواء بتعظيم الآخرين والخوف منهم. هذا هو الفرق.

بسبب هذا الذي امتاز به ذلك الرعيل الأول عنا اقتحموا السدود، لم يشعروا بها شعروا بعظمة الله عز وجل فكانوا مظهراً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استعن بالله ولا تعجز"، ونصرهم الله فتحطمت سدود التحديات أمامهم. أمّا نحن فبأي سلاحٍ نقتحم هذه التحديات؟ خوفنا من الناس، تعظيمنا للدنيا، حبنا للشهوات والأهواء، وإن كانت ألسنتنا تتكلم عن فلسفة الإسلام وأهمية الإسلام والتخطيط لضرورة إعادة قوة الإسلام وعزه، لكن ما قيمة أن تُفكر إذا كان قلبك يفيض بحب الشهوات والأهواء ويفيض بخوف بخوفٍ عارمٍ من الأغيار؟.

انظروا أيها الإخوة إلى كتاب الله عز وجل المُربي والمُعلم، كتاب الله معلم أولاً و مربٍ ثانياً، ولو أنك أخذت من كتاب الله آيات العلم لوقفت في مكانك ولراوحت في محلك لا تستفيد شيئاً كما هو حال المسلمين في أحسن أحوالهم اليوم. لكن انظر إلى القسم الثاني آيات التربية كيف تُعلم هذه الآيات الإنسان أن يجعل قلبه وعاءً لتعظيم الله للتبتل بين يدي الله، هل وقفنا أمام هذه الآيات واصطبغنا بها؟ لماذا يُكرر بيان الله هذا كله بأفانين شتى وبأساليب مختلفة؟ "واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلاً" "كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ" "تتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ" لماذا لماذا يفيض القرآن بهذا كله؟ لأهميةٍ كبرى؛ لأنها التربية التي تأتي تتويجاً للعلم.

وانظروا كم نمر على هذه الآيات ونحن معرضون؟ أين هم المتبتلون؟ لا أقول من الفسقة والفاجرين بل أين هم المتبتلون ممن يتكلمون بالإسلام ويكتبون عن الإسلام ويتحدثون في همٍ منقطعٍ عن الإسلام؟ أين هم الذاكرون الله كثيراً والذاكرات؟ أين هم الذين اصطبغوا بقول الله عز وجل: "وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ". قل لي أين هم هؤلاء المسلمون الذين إذا التقيت بهم حدثك الساعة والساعتين عن الإسلام أين الواحد منهم ينطبق عليه قول الله تعالى: "وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً " أين هم الذين ينطبق عليهم قول الله تعالى " تتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً " لو أنك اقتحمت بيوت جُلّ هذه المسلمين بسحرٍ من الأسحار لن ترى عشرة في المئة قد قاموا ليقفوا بين يدي الله عز وجل خُشعاً باكين متضرعين يمدون أيدي الضراعة والتبتل إلى الله سبحانه وتعالى، لن تجد لأن الواحد منهم سهر سهرة طويلة وهو يتكلم في الإسلام، ولم يمضي على رقاده إلا ساعة ربما فأنّا له أن يستيقظ ويقوم؟ ولكن رب العالمين علّم ثم ربّى، علمنا كيف نغرس حقائق الإسلام في عقولنا ثم ربانا كيف نحب هذا الإله كيف نُعظم هذا الإله كيف نخاف من هذا الإله "ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ".

لمّا فرغت قلوبنا من هذا الأثر التربوي، ولمّا اتجهت وتسربت إليها محبة الدنيا والشهوات والأهواء ونحن نتكلم بالإسلام ونتحدث بفكرٍ رائعٍ عن الإسلام كانت النتيجة ما قد قلت لكم. نراوح في مكاننا فإذا التفتنا يميناً وشمالاً إلى الأنظمة التي تُحيط بنا إلى التحديات التي تطوف من حولنا والتي تتهددنا، رفعنا أيدي الاستسلام وقلنا إنه عصر التحديات ولا نستطيع أن نحطم هذه التحديات، ويحك ألا يُذيبك هذا الكلام خجلاً من الله، ألا تُقارن بين نفسك وبين أولئك الناس البدو الأميين الذين متّعهم الله بالإيمان وجعلهم خلال سنوات أداة وأي أداة لتحطيم وتذويب هذه التحديات. هل تحدثوا عنها يوماً ما؟ هل تكلموا عنها في يومٍ من الأيام؟ هل قالوا لرسول الله كيف نستطيع أن نقتحم تحديات الحضارات التي تحيط بنا؟ لا ربطوا قلوبهم بالله عز وجل عاشوا معنى قول الله عز وجل "لا حول ولا قوة إلا بالله". كلمة ربّانية ليت أن المسلمين الذين يكتبون كثيراً في الإسلام والذين يتحدثون كثيراً في الإسلام ليت أن الواحد منهم جعل من هذه الكلمة القدسية ورداً له يرددها بقلبٍ نابض في اليوم ألف مرة. (لا حول ولا قوة إلا بالله)، أين هو حول الشرق والغرب أمام قوة الله إذا اعتصمت بالله وإذا بايعت الله وإذا فاض قلبي حباً لله وتعظيماً لله وتركت الدنيا كلها وراء ظهري، فإن الله عز وجل سيفجر بين جوانحي قوةً من قوته، عزةً من عزته، ولسوف تذوب القوى كلها أمامي، إذ لا حول ولا قوة إلا بالله.

نعم هذا هو السر أيها الإخوة وهذا هو داؤنا وليت أننا نتأمل لنتذكر فقط هذا الداء ليت أننا نشخص فقط هذا الداء بل المصيبة الكبرى أننا في غفلةٍ عن أننا نعاني هذا الداء .

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي