مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 01/12/1995

السبيل لاستمطار السماء والتحصّن ضد ما استشرى من الأدواء

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

إن الله سبحانه وتعالى جلّت حكمته يربي عباده دائماً بمزيجٍ من الخوف والرجاء، وما مظهرٌ من مظاهر خلقه وإبداعه إلا وفيه ما يُذكِّر بالرجاء من الله سبحانه وتعالى والخوف منه، فلن تجد مظهراً من مظاهر رحمته خالياً من خطر الإهلاك والعذاب، ولن تجد مظهراً من مظاهر إهلاكه وسطوته خالياً من مظهر الرجاء والرحمة، لكي يكون الناس دائماً مهما التفتوا ومهما رأوا من خلق الله سبحانه وتعالى وإبداعه؛ لكي يجدوا في ذلك كله ما يشدهم إلى الرجاء وما يجذبهم إلى الخوف منه سبحانه وتعالى.

جعل الله سبحانه وتعالى الماء سبب الحياة فقال عز من قائل: "وجعلنا من الماء كل شيء حي". ولكن الله سبحانه وتعالى في الوقت ذاته، جعل الماء سبباً للحياة والنبات والرزق، وجعله عندما يشاء سبباً للهلاك والدمار.

خلق الله سبحانه وتعالى الرياح الهابّة عن يمين الإنسان ويساره وأمامه ومن خلفه، وجعل له من هذه الرياح سر بقاء حياته وسر تصاعد أنفاسه وراء صدره، ولكنه عز وجل جعل هذه الرياح سبباً للإنعاش والحياة آناً، وجعله عندما يشاء سبباً للإهلاك والدمار آناً آخر.

جعل الله سبحانه وتعالى من الشمس التي تنشر أشعتها في جهات الأرض سراً من أسرار الحياة كما تعلمون، ولكنه جل جلاله جعل حرارة الشمس أمام الإنسان سلاحين اثنين، آناً هو سلاح خيرٍ ومتعةٍ للإنسان وآناً آخر هو سلاح إهلاك ودمارٍ له، ما الحكمة من هذا أيها الأخوة؟

الحكمة من هذا أن لا يتعلق الإنسان بعين المادة، لا يتعلق الإنسان بجوهر الماء ويتصور أنه سر الحياة، ما ينبغي أن يتعلق الإنسان بالرياح التي تنتشر ما بين السماء والأرض ويتصورها سبباً لحياة أو سبباً دائماً لدمار. ما ينبغي أن يعلق إنسان نفسه بالأرض وحركتها واستقرارها ويتصور أنها السبب المادي لحياة الإنسان فوقها واستقراره في جنباتها، بل ينبغي أن يتبين له من هذا الذي قلناه أن كل هذه المكونات جنودٌ بيد الله سبحانه وتعالى، فالمطر الهاطل والرياح الهابّة والأرض التي تدور والشمس التي ترسل أشعتها هي بحد ذاتها لا تعطي ولا تأخذ، لا تفيد ولا تضر، ولكنها جنودٌ بيد الله سبحانه وتعالى.

ومن الغباء أن ينظر الإنسان إلى حركة الجندي ولا يلتفت إلى قيادة من يأمر الجندي وينهاه، وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر. الإنسان المغفل المادي يحبس نظره - كما يحبس صاحب الدابة نظرها أمامها – في هذه المادة وحدها فيعطيها إما سر الإنعاش والحياة أو يعطيها سبب الإهلاك والدمار.

ومن هو هذا الذي يتصور ذلك الأمر ليس هكذا السبب الذي يجعله الله سر حياتك في اللحظة الثانية يجعلها سر هلاك إن شاء، ومن ثم فإن ما ينبغي أن يكون تعلقك بهذا الذي يدير المكونات ويجعلها آناً سبب إنعاشك وآناً سبب إهلاكك. تعلّق بالله، "ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين"

انظروا إلى قول الله عز وجل وهو يُحدث عن السبيل الذي أهلك الله به قوم نوح، ماذا قال؟ "وأنّى لمّا طغى الماء حملناكم في الجارية" الماء سر الحياة "وجعلنا من الماء كل شيءٍ حي"، ولكن الله لمّا وجه أمره إلى هذا الماء فطغى تجاوز الحد، تجاوز الحد الذي تكون به الحياة، تحول من سبب حياةٍ إلى سبب دمار، "وأنّى لمّا طغى الماء حملناكم في الجارية"، عندما يطغى الماء يتحول إلى سبب دمار، وعندما يشح الماء يتحول أيضاً إلى سبب دمار، وعندما يكون الأمر عدلاً تظهر موجبات الرحمة والحياة، فمن الذي يُمسك الموازين؟ من الذي يجعل الماء الذي يهوي من السماء إلى الأرض يسير بنسقٍ معتدل حتى لا يطغى فيهلكك وحتى لا يشح فيهلكك أيضاً؟

انظر إلى من بيده هذا الميزان ففر إليه والتجئ إليه. بالأمس طغى الماء في جهةٍ من جهات الخليج فماذا صنع الماء هناك؟ أهلك من أهلك، ودمر ما دمر. أما الماء هنا فقد شاء الله عز وجل أن يشح، وها نحن نقف من هذا الذي ابتلانا الله عز وجل على شفير هلاك، والهلاك الذي ينبثق من شح الماء ليس من نوع واحد وإنما هو من أنواعٍ شتى، والحديث عن هذه الأنواع يطول .. فعدوى الأمراض سببٌ من أسباب ذلك، وقلة الرزق سببٌ من أسباب ذلك، وآثار ذلك يطول الحديث عنها، كل ذلك سببٌ من أسباب ذلك ...

إذاً الماء جُند يجعل الله سبحانه وتعالى من طغيان الماء سلاح إهلاك لمن يشاء، ويجعل من شحه أيضاً سلاح إهلاك عندما يشاء.

أقول هذا أيها الأخوة وأنا أتلمس إيماننا بالله عز وجل أو بقايا إيماننا بالله سبحانه وتعالى بين الجوانح، ولا أتصور أنّ فينا من لا يتمتع ببقايا إيمان، لا أشك أن هذه البلدة إنما تحتضن أناساً يتمتعون بإيمانٍ كاملٍ أو ببقايا إيمان، ما أتصور أن الإيمان الضعيف يقوى ويستيقظ في مرحلةٍ كهذه المرحلة التي نجتازها الآن.

ها هي ذي بلدنا كما تلاحظون تسير السحب من غربٍ إلى شرق ومن شرقٍ إلى غرب، وتتكاثف هذه السحب حتى إن المتخصصين بالأرصاد وشؤونها كثيراً ما قالوا: إنهم يتوقعون ويتأملون أمطاراً تهطل خلال الساعات القادمة من غيومٍ تأتي من هنا ومن هناك، ولكن الغيوم تمر وموجبات الإمطار تتحقق ثم إن المطر يُحجب، وانظروا إلى الحالة التي نمر بها من جرّاء ذلك تكفي هذه الظاهرة التي تسمعونها، تكفي الظاهرة التي تتمثل في الجراثيم المتنوعة للأدواء المختلفة التي تنشط وتتنامى وتتكاثر عادةً في مثل هذه الأجواء. ترى إلى من نلجأ؟

سلو أولئك الذين يعبدون المادة ما السبيل الذي نستمطر السماء كي تمطرنا؟ ما السبيل الذي نلجئ إليه كي نحصن أنفسنا ضد الأدواء المستشرية فينا؟ والتي نحن مهددون بها من بعد أيضاً؟ ما السبيل؟ سلوهم؟

لا جواب لا جواب المادة هي هذه المادة، ولكنها تتطغى فتهلك وتشح فتهلك. من الذي يجعل المادة خاضعةً لميزان اعتدال سواء كانت ريح هابّة أو كانت مطراً تهطل أو كانت أرضاً وحركتها؟ كيف تكون حركة الأرض بشكلٍ متناسق تتفق مع استقرار الإنسان فوقها؟ وكيف تكون بحالةٍ تجعل الإنسان معرضاً للخسف والزلازل المختلفة؟ سلو عُبَّاد المادة ما الجواب؟ لا جواب أبداً .. والجواب العلمي الذي يجلجل على سمع الدهر كله هو قول الله عز وجل: "ففروا إلى الله إني لكم منه نذيرٌ مبين"

ولله سبحانه وتعالى سبلٌ في تربية عباده، من هذه السبل أنه يأخذهم بالشدائد يأخذهم بأسباب الخوف ترى هل سيعودون؟ ترى هل سيتيقظ النائمون؟ ترى هل سيتنبه الغافلون؟ ترى هل سيستقيم المنحرفون؟ ترى هل سيتوب العصاة والفاسقون؟ أم سيظلون يركبون رؤوسهم؟ فإن هم عادوا إلى الله أعاد الله سبحانه وتعالى إليهم النعمة، وإن لم يعودوا ابتلاهم ثم ظل يبتليهم. فإن أعلنوا أنهم قد قطعوا السبيل بينهم وبين الله عز وجل، فلله في هذه الحالة عادتان اثنتان: إما أن يُهلك كما أهلك كثيراً من الأمم، وإما أن يفتح عليهم النعم كلها دون حدٍ ولا حصر، ولكنه قد شطب على آخر سبيلٍ بينهم وبين رحمة الله سبحانه وتعالى به.

وليت أننا نتأمل في سنن الله في كتابه، انظروا إلى قوله عز وجل: "ولقد أرسلنا إلى أممٍ من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضرّاء لعلهم يتضرعون، فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون، فلما نسوا ما ذُكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتةً فإذا هم مبلسون". هذا كلام الله عز وجل، ونحن اليوم مُعرضون لهذا، بل نحن نسير في مرحلة من مراحل هذه السنة الربانية التي يخاطبنا الله عز وجل بها.

وددت وأنا أعيش هذه الأيام الخطيرة وأنا أسمع إلى وكالات الأنباء وهي تتحدث عن الأوبئة التي تتهدد مجتمعنا، وددت لو أن أفواهً في مجتمعاتٍ عامة نطقت وذكّرت ودعت إلى اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى والتوبة بين يدي الله والاصطلاح مع الله سبحانه وتعالى، ولكني لم أسمع. وأنظر إلى بيوت له وهي لا تزال عامرةً بروادها، وأنظر إلى اللاهين والساهين وإذا هم لا يزالون عاكفين على لهوهم وسهوهم، وأنظر إلى الذين يُنشدون أناشيد الفسوق والعصيان والفجور والبعد عن الله وإذا هم لا يزالون عاكفين على غيهم وهم يرون الهلاك، وهم يرون هذه الحال التي يمرون بها، وهم يسمعون قول الله عز وجل: "فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا" هلّا تضرعوا والتفتوا واصطلحوا مع الله عندما رأوا البأس آتياً إليهم من بعيد.

أيها الأخوة: من سنن الله سبحانه وتعالى، بل من شرائع الله سبحانه وتعالى في عباده أنه يدعوهم إلى التضرع بين يديه كلما حبست عنهم الأمطار، أن يخرجوا جماعات متآلفة متعاونة على صعيد واحد فيبتهلون إلى الله عز وجل ويصلون صلاة الإستسقاء التي نقرؤها في كتب الفقه؛ بابٌ خاص اسمه باب صلاة الاستسقاء، هذا الشيء معروفٌ لكل من درس شيئاً من دين الله عز وجل، ولكن كأن هذه الشرعة نُسِخَت من الأذهان وكأنها ألقيت دبر الأذان ووراء الظهور.

أنا ألفت النظر إلى الدواء الأمثل بل الدواء الذي لا دواء ثاني أمامه، أمام هذه المصيبة التي نعاني منها ألا وهو دواء الالتجاء إلى الله عن طريق السنة التي أنبأنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن طريق الخروج إلى صلاة الاستسقاء. ولعلكم تسألون فمن الذي يدعو؟ وكيف يمكن أن يتم التنبيه إلى هذا؟ نعم ... الذي يُكلف بالدعوة موجود، وأقولها لكم بصراحة وزارة الأوقاف هي المسؤولة عن هذا وهي المُخولة لهذا وهي التي أناطت بها الدولة هذا الأمر وأمثاله. وكن ترى ما السبب في أن وزارة الأوقاف راقدةٌ في هذه الأيام؟ لا أعرف.

أنا باسمي وباسم كل مسلم أدعوا وأُذكر هذه الوزارة التي تتحمل مسؤولية رعاية الإسلام وشؤون الإسلام، أحملها هذه المهمة ينبغي أن تُصدر بياناً تدعو فيه الناس في هذه البلدة في ميقاتٍ محدد للخروج إلى ساحة واسعة، لنصلي هناك صلاة الاستسقاء، ونتضرع إلى الله عز وجل ونعلن توبتنا بين يدي الله ونعلن اصطلاحنا مع الله ورجوعنا إلى الله ونجدد بيعتنا له وإيماننا به أنه الله الفعّال لما يريد، وأن كل ما في الكون جنود بيد الله سبحانه وتعالى.

وأنا موقنٌ أننا إن قمنا بهذا الذي علمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلسوف يكرمنا الله برحمته، ولسوف يرفع عنا مقته، وإلا إن بقينا هكذا سائرين مكابرين نعكف على لهونا وسوئنا ومعاصينا كما تعلمون، فإني أخشى أن يكون وراء هذا السوء أضعافٌ مضاعفة.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه.

تحميل



تشغيل

صوتي