مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 02/06/1995

علاج تعلق القلب بالدنيا

نعتذر لرداءة الصوت بسبب قدم الخطبة

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

حدثتكم في الأسبوع الماضي عن خطر تعلُق القلب بالدنيا وعن الآثار المُهلكة التي تثمرها محبة الإنسان للدنيا بكل أنواعها وأشكالها، وأوضحت كيف أن هذه المحبة من شأنها أن تُفرِّق بين الزوج وزوجه، وأن تُفرِّق بين الأخ وأخيه، وأن تُمزِّق الأسرة الواحدة وتحيلها إلى أنكاث متعادية، فسأل بعد ذلك كثيرون عن الدواء الناجع الذي يُخلّص الإنسان من هذا الحب المهين، عن الدواء والعلاج الذي يُخلِّص الإنسان من تَعلُقه بالدنيا لكي لا يقع تحت طائلة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أصبح والدنيا كل همه فليس من الله في شيء)

والعلاج أيها الأخوة بكلمة مختصرة إنما هو أن يغالب حب بحب، ذلك لأن مصيبة الإنسان الذي تعلق قلبه بالدنيا تتمثل في أنه ذهب ضحية حبٍ مهين، والحب المهين ما الذي يتغلب عليه؟ يتغلب عليه حب أقوى منه. ولذلك فإنّا لو فكرنا في أن نقهر حب الإنسان للدنيا بمعرفةٍ عقلية، فإن هذه المعرفة لن تكون علاجاً، ولو أردنا أن نقهر حب الإنسان للدنيا بوعيٍ وفكرٍ ثاقبين، فإن هذا الوعي والفكر الثاقبين لن يتغلبان على ذلك الحب المهين. العلاج ينبغي أن يكون من نفس الداء، تماماً كما أن اللقاح والمصل الواقي من كثيرٍ من الأمراض والأدواء إنما يتمثل في جراثيم مستخلصةٍ من الداء ذاته.

فحب الدنيا لا يمكن أن يُقهر إلا بحبٍ ولكن من نوعٍ آخر، ما هو النوع الثاني من الحب الذي يمكن للإنسان أن يقهر به حبه للدنيا؟ ومن ثَمّ يمكن أن يتحرر من ذلك الحب المهين؟ إنه حب الله سبحانه وتعالى، فإذا غذى الإنسان بين جوانحه محبته لله عز وجل وتعهد هذا الحب بالإنماء والرعاية والتغذية، فإن هذا الحُب - حبّ العبدِ لله عز وجل في مرحلةٍ من المراحل - يقهرُ حب الإنسان لدنياه، ومن ثمّ هو الذي يجعله يستطيع أن يتحرر من تعلُقه بالدنيا وحبه لها.

وإذا لم يتمتع الإنسان بهذا الحب إذا لم يتمتع بنسبة عالية وقدرٍ كافٍ من حبه لله عز وجل، فلن يجد إلى الهداية سبيلاً قط ولن يجد مخلصاً من شرور الدنيا وأهوائها، بل سيظل في وضعه الراهن ولن يهديه الله سبحانه وتعالى أبداً طالما كانت صلته بالله صلةً فكريةً مجردة، وصلة عقليةً لا غير. وهذا معنى قوله عز وجل: (وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) في آخر آية هي من أخطر الآيات التي خاطب الله سبحانه وتعالى بها عباده، انظروا وتأملوا في أول الآية ثم انظروا في عواقبها وخواتيمها: (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)

انظروا إلى علاقة هذه الجملة الأخيرة (وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) بالقرار الخطير السابق، أي الإنسان الذي استسلم لحب هذه القائمة الطويلة من الشهوات والأهواء الدنيوية لن يفيده العلم بعد ذلك شيئاً، ولن يفيده الفكر شروا نقير ومهما تسلح بالعقل ورشده، ومهما تسلح بالعلم ومنطقه، فلسوف يكون بعيداً عن الهداية؛ ذلك لأن السبيل الوحيد لهداية هؤلاء الناس هو أن يمزقوا الحب المهين هذا عن طريق الحب المقدس السامي ألا وهو حب الله سبحانه وتعالى.

وما أظن إلا أكثرنا تائه عن هذا التهديد الرباني الخطير قل يا محمد: (إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا) أي واحدٍ من هذه الأشياء كانت (أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ) انتظروا حتى يأتي الله بأمره. ما أظن أن في القرآن تهديداً يخاطب الله به المؤمنين الذين يتظاهرون بأنهم مؤمنين كهذا التهديد أبداً.

ونحن نغيب ونتيه عن هذا العلاج الذي يضعنا الله أمامه، بتصورِ أن العلم يُفيد - والعلم لا بد منه -بتصورِ أن الوعي كافٍ، والوعي لابد منه. لكن العلم طريقٌ إلى محبة الله، المعرفة سبيلٌ إلى محبة الله عز وجل، ورحم الله الحسن البصري إذ يقول: "من تفكر في الله عرفه، ومن عرفه أحبه. ومن تفكر في الدنيا عرفها، ومن عرفها مقتها".

إذاً المعرفة سبيل ... ولكن الإنسان الذي يعتمد على المعرفة ما ينبغي أن يقف في منتصف الطريق، بل ينبغي أن يستمر ويستمر حتى يصل إلى الهدف من العلم، وإلى الهدف من المعرفة، والهدف من العلم والمعرفة إنما هو محبة الله سبحانه وتعالى. وكأن في الناس من يقول: فكيف السبيل إلى أن نغرس محبة الله في قلوبنا حتى تطرد هذه المحبة محبة الدنيا من هذه الأفئدة؟

هذا السؤال أيها الأخوة يبدو أنه سؤال عجيب لمن آمن بالله وزعم أنه عرف الله عز وجل، ذلك لأن كل مؤمنٍ بالله عز وجل ينبغي أن يكون متفائلاً مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي بسندٍ صحيح: (أحبوا الله لما يغذوكم من نعمه، وأحبوني لحب الله إياي) أحبوا الله لما يغذوكم من نعمه. كلنا نعلم هذا الذي يذكرنا - ولا أقول يبصرنا - به رسول الله صلى الله عليه وسلم، لو فكر الإنسان في النعم التي يتمتع بها، سواءٌ الكامنة في كيانه من فرقه إلى قدمه أو الوافدة إليه أو التي تتجلى في مظهر تسخير الله سبحانه وتعالى للمكونات، أو التي تتمثل في تجديد رعاية الله للإنسان لحظةً فلحظة فلحظة، فإن الشأن إن كان فطري الكيان والبشرية والإنسانية أن يعشق الله سبحانه وتعالى لا يحبه فقط وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام (أحبوا الله لما يغذوكم من نعمه).

إذا عرف الإنسان الله عز وجل علم أن الدنيا التي يعشقها في الأمور التي عددها الله في هذه الآية، إنما أكرمه الله بها الذي أكرمه بالأبوين بالزوجة بالعشيرة بالتجارة بالدار بالأثاث بالجمال الذي يتمتع به بالقوة بالصحة بالعافية ... كل ذلك إنما كان هبةً من الله سبحانه وتعالى، فإذا استمر الإنسان يتأمل ويتفكر في هذا، فإن معرفته لهذه الحقيقة تجعله ينصرف عن النعمة إلى المنعم، تجعله يستدبر الكرامة إلى المتكرم، والإنسان فطري في نزعته وكيانه ينبغي أن يكون قائماً على هذه النزعة، وقائماً على هذا المنوال دائماً.

لكن ما المصيبة التي يصاب بها فريقٌ من الناس؟ ونسأل الله سبحانه وتعالى العفو والعافية؟

المصيبة أن فينا من يُقبل إلى النعمة التي يكرمنا الله عز وجل بها، فيتأمل أحدنا في النعمة ثم يسجن نفسه في داخلها ثم إنه يحيلها إلى ما يشبه كأساً من الخمر المعتقة المسكرة يحيلها إلى ذلك.

هذا العلاج أيها الأخوة وصفه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه بحاجةٍ إلى شيء واحد: هو أن يفكر الإنسان ويتأمل، التفكر والتأمل هو الذي يمزق وقع هذا المصاب، هو الذي يجعل الإنسان يصحو من سكره بدنياه التي يتقلب في حضيضها، التفكر والتأمل هو الذي يجعله يخرج من سجن دنياه.

التفكر في هذه الدنيا التي تعشقها من أين جاء؟ من صاحب اليد التي تقدمت بها إليك؟ كيف تعرض عن صاحب هذه اليد الذي تكرم عليك وتدير إليه ظهرك ثم تتعشق وتتعلق بالنعمة التي أسداها إليك، تفكر وتأمل واجعل من القرآن المادة الخام في تأملك وتفكرك، فإذا استمرت تلك الفكرة على هذا المنوال انعتقت منها تعاملت معها وأنت متعلق بالمنعم لا بالنعمة.

ورحم الله ابن عطاء الله السكندري إذ يقول: (ما نفع القلب شيء مثل عزلة يدخل بها ميدان فكره)، ولكن أين هم الذين يتفكرون؟ هؤلاء الذين يتعشقون دنياهم حتى فكرهم مجند لدنياهم إن جلسوا يتفكرون ففي الدنيا التي يعشقون، وإن جلسوا وقد اعتزلوا أهليهم وأصدقائهم فليضعوا مخططات جديدة لمشاريعهم التجارية المختلفة، وإن امتد على فراشه ليودع نهاره وصحوه وليستقبل رقاده بفضل من الله عز وجل أمضى بقية صحوه وهو في فراشه في مشاريعه التجارية، فأنّا وكيف يلتفت إلى الله سبحانه وتعالى؟

يلتفت إلى الله عندما يقبل عليه ملك الموت.

وأسأل الله العفو والعافية لي ولكم جميعاً فاستغفروه يغفر لكم.

تحميل



تشغيل

صوتي