مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 21/04/1995

الفرق بين السلف الصالح وخلف اليوم

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

إنّ المسلمين من الرعيل الأول الذين أكرمهم الله سبحانه وتعالى بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسلف الصالح الذين جاؤوا من بعدهم، خضعوا لهذا الدين الذي شرفنا الله سبحانه وتعالى به، فكان أن ساقهم الدين إلى حيث شاء الله سبحانه وتعالى لهم من العزة والمنعة والسؤدد والوحدة، ثم خلف من بعدهم خلفٌ انتسبوا هم الآخرون أيضاً إلى هذا الدين، ولكنهم أبَوْ إلّا أن يكونوا هم الذين يسوقون الدين إلى حيث يشاؤون، فكان أن اتخذوا من الدين مطيِّة لأهوائهم وسبيلاً لمبتغياتهم فانحطت بهم أهوائهم إلى الدرك الأسفل من الذل والمهانة ومن التفرق والشتات. وأنا أريد أن تلاحظوا فرق ما بين ذلك السّلف وهذا الخلف، أولئك استسلموا للدين الذي سار إلى حيث يشاء الله عز وجل، ونحن أخضعنا الدين إلى حيث ينبغي أن نسوقه بناءً على رغباتنا وشهواتنا وعصبياتنا وأهوائنا، والكل من سلفٍ وخلف في الظاهر منتسبون إلى هذا الدين ومتمسكون به، ولكن فرقٌ بين من يتمسك بالشيء منقاداً إليه وبين من يتمسك بالشيء ليجره إلى رغباته وأهوائه.

هذا هو فرق ما بين المسلمين اليوم والمسلمين بالأمس باختصار. ولكن لماذا كان هذا الفرق؟ لماذا كان إسلام أصحاب رسول الله رضوان الله عليهم والسلف الصالح الذين جاؤوا من بعدهم مظهراً واضحاً لقول الله تعالى: "وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ" كان واقعهم مظهراً لهذا الاستسلام؟ ولماذا آل أمرنا إلى حيث أصبحنا نحمل الإسلام على أن يستسلم لنا، نحمل الإسلام على أن يصبح مطية ذلولاً لنا ولأهوائنا؟. ما هو الفرق الذي دعا أولئك الناس أن يستسلموا لدين الله والذي دعانا نحن إلى أن نحمل إسلامنا أن يستسلم هو لمبتغياتنا وأهوائنا؟

الفرق شيء واحد أيها الأخوة هو أنّ ذلك الرعيل الأول أخلصوا لله عز وجل في الإسلام الذي اتجهوا بقلوبهم ووجوههم إليه، فكانوا منصاعين ومنقادين لقول الله سبحانه وتعالى: "قل إنّما أنا بشرٌ مثلكم يُوحى إليّ أنّما إلهكم إلهٌ واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً " أي لا يدع شيئاً ما يتسرب إلى مشاعره وقلبه ليكون شريكاً مع الله سبحانه وتعالى في السير على صراط الله عز وجل.

كانوا مظهراً للإنقياد لقول الله عز وجل: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين". والصدق تعبيرٌ آخر عن الإخلاص لدين الله عز وجل. لن يكون المؤمنُ صادقاً إلا إذا كان مخلصاً دينه لله، ولن يكون الإنسان مخلصاً إلا إذا كان صادقاً مع الله عز وجل في لسانه وبمشاعره.

كانوا مظهراً للإنقياد لقول الله سبحانه وتعالى: "وما أُمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين" أخلصوا لله عز وجل واجتثوا حظوظ الناس واجتثوا الأهواء وانفصلوا عن العصبيات والأغراض كلها، حتى آلت قلوبهم إلى أن أصبحت أوعيةً نظيفةً طاهرةً من سائر الشوائب لتتجه إلى الله سبحانه وتعالى باليقين وبالحب والطواعية، ولذلك استسلموا لله سبحانه وتعالى استسلموا لدين الله سبحانه وتعالى، تركوا أنفسهم وأهوائهم وشهواتهم تنقاد لما يُرضي الله سبحانه وتعالى، فكانوا منقادين لدين الله سبحانه وتعالى ولم يكونوا مُسَيّرين لهذا الدين، ولذلك كانوا أُمناء على شرعه، كانوا أُمناء على عقائده لم يُغيروا لم يُبدلوا لم يُطوِّروا شيئاً من عقائدِ هذا الدين، لم يُبدلوا ولم يُطوروا شيئاً من الشرائع الثابتة المُستقرة في هذا الدين العظيم، وهذا معنى استسلامهم وإسلامهم كما قال الله عز وجل وجوههم أي كياناتهم لدين الله سبحانه وتعالى.

أمّا نحن فنحن في الظاهر مثلهم تماماً، ونحن في الشعارات نملك شعارات أكثر بريقاً منهم وأكثر ألقاً وأكثر ضخامةً، ونحن في الدعاوي ربما كنّا أسبق منهم، ولكن الذي نختلف به عنهم أنّ قلوبنا ليست صافيةً كصفاء قلوب أولئك الناس.

أهواؤنا هي المتغلبة على دوافع سلوكنا، عصبياتنا حظوظنا محبة الدنيا التي رانت على قلوبنا ... كل ذلك هو المهيمن على كياناتنا الداخلية الخفيّة، ولذلك فقد غدا صوت الإسلام خافتاً بين جوانحنا وبين هذه الأصوات المرتفعة الأخرى؛ لم نُخلص لله سبحانه وتعالى، تسرّبَ الرياء، تسربت الحظوظ، تسربت دواعي الشهوات والأهواء، تسربت العصبيات، فكنا جانحين وبعيدين عن الانضباط بقول الله سبحانه وتعالى: "فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً". ومن ثمّ كنا جانحين بعيدين عن الانضباط بقول الله عز وجل: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين" أي الصادقين مع الله فيما يدّعون، كونوا مع الصادقين مع الله فيما يعاهدون فيما يبايعون، لا تكوننّ حظوظكم بألسنتكم ثم تكون قلوبكم ملكاً لأهوائكم وملكاً لشهواتكم، فماذا كانت النتيجة؟

كانت النتيجة أننا تحايلنا على هذا الدين، حتى جعلناه ينساقُ هو وراء رغباتنا وشهواتنا وأهوائنا، تحايلنا عليه حتى اتخذنا منه مطية ذلولاً لأمانيّنا ورغباتنا. وهكذا فقد كان سبب هذا الفرق الكبير أنهم أخلصوا دينهم لله عز وجل فاستسلموا لسلطان الله وحكمه وكانوا أمناء فلم يُغيروا. أمّا نحن فقد استسلمنا لشهواتنا وأهوائنا ورغائبنا وحظوظنا، ودفعنا ذلك إلى أن نقود الإسلام بدلاً من أن ننقاد له، وكانت نتيجة هذه النتيجة أننا غيرنا ولم نبالي، وأمعنا في التغيير ولا نزال ولا نبالي، ونسينا أو تناسينا وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل أوامر رب العالمين سبحانه وتعالى، وقول رسول الله في الحديث الصحيح المعروف يوم وقف قبيل وفاته بين القبور قائلاً: "السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين ونحن بكم إن شاء الله لاحقون" ثم قال: "وددت لو أني رأيت إخواننا". فقال قائلٌ: ألسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: "بل أنتم أصحابي وإخواني أولئك الذين لم يلحقوا بعد وسأكون فرطاً لهم على الحوض" أي سأستقبلهم على الحوض. ثم قال: "ألا ليزادنّ رجالٌ عن حوضي" أي ليطردن رجالٌ عن حوضي " كما يُزاد البعير الضآل، فأقول: ألا هلم هلم. فيُقال: إنك لا تدري كم بدلوا من بعدك فأقول فسحقاً فسحقاً فسحقا".

أحسب أنّ هذا الذي يقوله المصطفى عليه الصلاة والسلام إنما ينحطُّ علينا وعلى أمثالنا. فها أنتم ترون كم بدلنا وكم غيرنا وكم نمعن في التبديل والتغيير، وما أكثر ما يُجلجل كثير من الناس بكلمة معروفة قالها أحد العلماء: حيثما وجدت المصلحة فثمّ شرع الله.

قالوا: تتبدل الأحكام بتبدل الأزمان، شيء رقص له أصحاب الشهوات والأهواء، رقص له أصحاب الدنيا أولئك الذين يريدون أن يتحايلوا على الإسلام حتى يجروه إلى مغانيهم بدلاً من العكس، غطوا أنفسهم بهذا الكلام.

تتبدل الأحكام بتبدل الأزمان، ولم يُحمِّلوا أنفسهم مسؤولية فهم هذه الكلمة، بأي قانون تتبدل الأحكام إذا تبدلت الأزمان، وبأي دافع؟ ومن الذي يشرح هذا القانون وهذا الدافع؟ وهل هي أحكامٌ تتحولُ دائماً من الشدة إلى التخفيف!؟ تتحول دائماً من الحرمة إلى الرخصة والإباحة كما يفهمه أصحاب الرعونات والأهواء في هذا الوقت؟ أم إن هذا التبدل كما يتم بهذه الصورة يتم أيضاً بالانتقال من المباح إلى الحرام، بالانتقال من الجواز إلى المنع؟ هذا واردٌ وذاك وارد ولكل ذلك دستور ولكل ذلك قانونٌ وميزان، وإنما يُرجع في قانونه وميزانه إلى حُرّاس هذا الدين الذين أخلصوا دينهم لله سبحانه وتعالى. ذلك هو داؤنا أيها الأخوة أننا فقدنا الإخلاص لله.

وكأني بكم تسألون: فما العلاج الذي يُعيد إلينا نعمة هذا الإخلاص وكيف السبيل إلى ذلك؟ إنّ الحديث عن هذا العلاج طويل أيها الأخوة، ولكن بوسعي أن أقول لنفسي ولكم شيئاً واحداً: كلما ازداد الإنسان بخياله وشعوره قُرباً من الموت، كلما ازداد قرباً من الإخلاص لله عز وجل، وكلما ازداد شعوره بلذة الإخلاص لله سبحانه وتعالى. وكلما ابتعد الإنسان بخياله عن الموت ووضع بينه وبينه حواجز الأماني والأحلام، كلما ابتعد عن الإخلاص لله سبحانه وتعالى.

فمن شاء أن يُخلص لله فليُغمض عينيه وليتصور أن الموت يطرُقُ بابه أو كاد أن يطرُق، وليتصور أن أمانيه وأحلامه من هذه الدنيا طُويت وأنه قد حان تحوله من هذه الدنيا إلى لقاء الله عز وجل وليعد بعد ذلك إلى قلبه، لسوف يجد أن الإخلاص لدين الله قد استيقظ بين جوانحه، ولسوف يجد أن الشهوات، الحظوظ، العصبيات، الأهواء، كل ذلك قد خفت، وجلجل صوتٌ واحدٌ في سويداء قلبه ألا وهو صوت التحذير من المآل، الإخلاص لله سبحانه وتعالى.

والإنسان لا يعلم متى يحين حينه، ما ينبغي أن يخدع نفسه بأيام الشباب أو بمرحلة القوة والنشاط، فالموت لا يعلم فرقاً بين شابٍ وشيخ، بين قويٍ وضعيفٍ أبداً الموت يتصيّدُ الناس ويلتقطهم حسب قرار الله الخفي الذي لا يعرفه أحد " فإذا جاء أجلهم لا يستقدمون ساعةً ولا يستأخرون ".

إذا وضع الإنسان الموت نُصب عينيه ذابت الدنيا في قلبه، وإذا أبعد الإنسان الموت عن عينيه هيمنت الدنيا على قلبه هذا هو مختصر الدواء. وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل الموت نُصب أعيننا دائماً حتى نكون متحررين بذلك عن دنيانا وشهواتنا وأهوائنا وحتى نذوق بعد ذلك طعم الإخلاص لوجه الله سبحانه وتعالى. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي