مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 13/01/1995

نفحات شهر شعبان في ظل ما نتقلب به من محن وأزمات

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

إنّ الله سبحانه وتعالى يحب من عبادِه أن يُكثروا من الالتجاء إليه، والتضرع بين يديه، والتذلل في رحابه؛ ذلك لأن الإنسان مهما وصف نفسه بالعبودية لله عز وجل لن يبرهن على صدق دعواه هذه إلا إذا كان كثير الالتجاء إلى الله، كثير التضرع بين يديه، كثير التبتل، كثير التذلل في رحابه.

ومن أجل هذا فقد اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى أن يبتلي الله عز وجل عبادَه بين الحين والآخر بألوان من المحن والشدائد، حتى تكون هذه الشدائد مُذكِّرة لهم بما يحب لهم أن يفعلوه، ذلك لأن الإنسان إذا وجد نفسه حياته كلها مملوءً بالنعم والأُعطيات، ووجد ساعات حياته فيّاضة بالأمن والطمأنينة، ونظر فوجد أن الأخطار كلها بعيدة عنه، في مثل هذه الحال لن يجد ما يبعثه إلى التجاء أو تضرع بين يدي الله عز وجل، وصدق الله القائل في مُحكم كتابه: "إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى".

والإنسان من شأنه أن يأخذ به الفرح والمرح إذا وجد أن نعم الله لا تنقطع عنه، وأن أخطار الدنيا بعيدة عنه. فكان من مظاهر حكمة الله، بل من أبرز مظاهر رحمة الله بعباده أن يبعث بين الحين والآخر إلى الإنسان ما يحمله على اليقظة، لكي يلتجئ إلى الله ويتضرع بين يديه.

صحيحٌ أن الإنسان فقير إلى الله في كل أحواله، في حال صحته ورغده وغناه، ولكن الإنسان ينسى حقيقته إذا وجد أن النعمة دائماً لا تفارقه، فمن أجل هذا لا بد له من مُذَكِّرات، والمُذَكِّرات التي تعيد الإنسان إلى هويته وتعرّفه بحقيقته عبداً ضعيفاً مهيناً لله عز وجل، إنما هي المصائب والمحن. ونسأل الله العفو والعافية.

هذه المصائب هي التي توقظ الإنسان، وهي التي تذكره بحقيقته سواء كانت مصائب كُليّة أو مصائب من نوع المحن والابتلاءات الخاصة أو الجزئية، ونقطة الضعف في حياة المسلمين اليوم أنهم قلما يلتجؤون إلى الله، وقلما يتضرعون بين يدي الله سبحانه وتعالى على الرغم من أن كثيراً من الأزمات تمر بهم، وأن كثيراً من الرزايا تحيق بهم، ولكنهم مع ذلك وفي أكثر الأحيان بعيدون ساهون عن هذا المعنى الذي ينبهنا إليه الله عز وجل من خلال قوله: "وتبتل إليه تبتيلاً". والتبتل هو شدة الضراعة بين يدي الله عز وجل، وإذا ابتلي الإنسان بقسوة القلب هذه حتى لم تعد الرزايا والمحن توقفه وتجعله يتذلل مستغفراً آيباً إلى الله، فقد تودّع من هذا الإنسان الذي غدا شأنه بهذا الشكل.

وقد جعل الله سبحانه وتعالى وهذه من مظاهر رحمته الكبرى، جعل الله سبحانه وتعالى في عمر الإنسان وعلى مدى مراحل حياته معالم بوسعه أن يقف عندها ليتذكر الله سبحانه وتعالى، وليرى هنالك شدة مغفرة الله سبحانه وتعالى ورحمته به، فكأن الإنسان عندما يقطع عمره هذا سيراً من الدنيا إلى الآخرة، كأنه يسير في طريقٍ بين مدينتين يجد بين كل مرحلة وأخرى استراحة يقف عندها ليستعيد قوته وليستعيد نشاطه وليعود إلى بعض ما قد يحتاج إليه فيصلح من شأن نفسه، تماماً العمر كذلك...

جعل الله سبحانه وتعالى وأنت تجتاز حياتك هذه من الدنيا إلى الآخرة، جعل لك في طريقك إلى الله معالم زمانية ومعالم مكانية؛ لتقف عندها وقد ذكرتك هذه المعالم بالله، وذكرتك بعظيم رحمة الله إن كنت قد شردت عنه، وذكرتك بعظيم مغفرته إن كنت قد ارتكبت شيئاً من الأوزار والمعاصي في جنبه سبحانه وتعالى. تقف أمام هذه الاستراحة أو عندها فتضرع وتلتجئ وتستغيث وتسأل الله سبحانه وتعالى أن يغفر لك ذنبك وأن يُصلح لك حالك، وإذا بك قد غدوت كيوم ولدتك أمك تعاود السير في طريقك إلى الله وأنت نشيط، وقد زايلتك المعاصي التي أثقلت كواهلك، حتى إذا وصلت إلى معلمة أخرى وقد تعلقت بك أشوابٌ من المعاصي الأخرى تقف عند تلك المعلمة الثانية مستغفراً متضرعاً متبتلاً آيباً إلى الله سبحانه وتعالى.

هذه المعالم قلّ من ينتبه إليها، وهذه المعالم قلّ من يقف عندها ليجدد عهده مع الله وليجدد اصطلاحه مع الله سبحانه وتعالى.

ونحن أيها الأخوة في مَعلمة اليوم من هذه المعالم على طريقنا ونحن غادون وآيبون وذاهبون إلى الله سبحانه وتعالى، هذه المعلمة تتمثل في هذا الشهر العظيم، شهر شعبان المبارك، هذه المعلمة الكبرى مثابة التجاء إلى الله لمن أراد أن يعود فيلقي عن كاهله عبء الأوزار التي تحملها، ولقد صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة بفضل هذا الشهر، وصحت عنه أحاديث كثيرة في فضل لباب هذا الشهر ألا وهو ليلة النصف من شعبان ويوم النصف من شعبان أيضاً. روى النسائي من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قلت يارسول الله ما رأيتك تصوم من شهرٍ كشهر شعبان. فقال عليه الصلاة والسلام: "ذلك شهرٌ يغفل عنه الناس وفيه ترتفع الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى فأحب أن يرتفع عملي إلى الله وأنا صائم".

هذا الحديث ومثله كثير .. يبين لنا فضيلة هذا الشهر كله من أوله إلى آخره، وهو معلمة في طريقنا في رحلة عمرنا إلى الله سبحانه وتعالى، وأحاديث أُخرى وردت في فضيلة ليلة النصف من شعبان. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه الطبراني في معجمه وابن حبان في صحيحه من حديث معاذ بن جبل: "إذا كان ليلة النصف من شعبان فصوموا يومها وقوموا ليلها، فإن الله سبحانه وتعالى يطِّلع إلى عباده في تلك الليلة فيغفر للجميع إلا لمشركٍ أو حاقد"

وقد روى البيهقي عن العلاء بن الحارث عن عائشة رضي الله عنها قالت: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةً يصلي فسجد فأطال السجود، فخشيت أنه قد قُبض، فقمت فحركت إصبعه فتحرك فعدت، فلما قام من سجوده وانتهى من صلاته. قال لي يا عائشة: "أظننتي أني أخيس بكِ" أي أنني غدرت بكِ وذهبت في ليلتك إلى مكان آخر، قلتُ: لا والله يا رسول الله، ولكني خشيت أنك قد قبضت، أي من كثرة تأخرك وتلبثك في سجودك. فقال: "أتدرين أي ليلة هذه؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: إنها ليلة النصف من شعبان ينزل الله سبحانه وتعالى فيها إلى السماء الدنيا فيقول: هل من مستغفر فأغفر له، هل من مسترحم فأرحمه؟ ويؤخر أهل الحقد كما هم"، أي يؤخر أصحاب القلوب التي غشتها الأحقاد والضغائن ولم تجد من التزكية ما يعيدها إلى صفائها ونقائها يتركهم الله سبحانه وتعالى كما هم.

أعود فأقول هذه معلمة إذاً من المعالم التي تنادينا، ونحن نسير إلى الله في طريق هذا العمر الذي قيضه الله عز وجل لنا، وما أحوجنا إلى أن نتحول إلى هذه المعالم أو الاستراحات، فآثامنا كثيرة ومصائبنا شتى، وقلوبنا قاسية، وأزماتنا متسلسلة لا تتناهى، ولا سبيل للخروج من هذه المعضلات وللتحرر من هذه المعاصي وللتخلص من هذه الأزمات إلا أن نتحول إلى هذه المعالم فنجأر إلى الله بالشكوى ونصدق بالالتجاء إليه سبحانه وتعالى بقلوبٍ فيّاضة بمشاعر العبودية لله عز وجل، وقد فرغت من حب الأغيار والخوف من الأغيار، وتعظيم الأغيار، وتهيأت لمحبة الله الواحد القهار، الذي لا إله سواه.

ما أحوجنا إلى أن ندعو ونلتجئ إلى الله سبحانه وتعالى ليُصلح شؤوننا، وليُصلح شؤون إخوان لنا، وليرحمنا وليغفر لنا وليعيدنا إلى صراط الوئام وصراط الحب والاتفاق، كل هذه المصائب نلتفت يمنة ويسرة نجدها وقد تحولت من حياتنا إلى ما يشبه سحب متراكمة سوداء غشّت على حياتنا، وتسلل منها الظلام إلى قلوبنا، والعجيب أننا عندما نتذكر هذه المآسي أياً كانت نعالجها بعقولنا فقط، نعالجها بأفكارنا، نعالجها بتصوراتنا بالجدل بالحوار. ولكننا لا نتذكر أبداً أن نعالجها بالاستجابة لقول الله عز وجل: "ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين" والفرار إلى الله كيف يكون؟ يكون بالتضرع كما قلت لكم بين يديه، الفرار إلى الله بأن تتجرد عن قواك الفكرية والعضلية والعقلية وأن تقول بكل شراشرك: اللهم لا حول لي ولا قوة إلا بك، وقد التجأت إليك وأنا كتلة من الضعف، وأنا استرحمك فارحمني، أسألك اللهم أن تغفر لي فاغفر لي، أسألك اللهم أن تصلح حال هذه الأمة فأصلح اللهم حالها، أسألك اللهم أن تجمع إخواني المؤمنين هنا وهناك وهناك على صراطك فاجمع اللهم شملها، اللهم إني أسألك أن ترفع أيدي أعدائك عن عبادك الصالحين وأنت المستجاب، وأنت الذي يلجئ إليك العباد وأنت الملجئ ولا ملجئ سواك، لقد تجردنا من كل حول ومن كل طاقة ومن كل ما قد يتراءى لنا أنا نملكه ... أين هم الذين يمضون ليلهم بهذا الدعاء.

تأملوا أيها الأخوة، لا أقول في حال الفاسقين، فالفاسقون قد حجبوا عن هذه الحقيقة التي نقولها، ويوشك بإذن الله أن يرتفع الحجاب يوماً ما عنهم، ولكني أتحدث عن كثير من المسلمين. غدا الإسلام في حياتنا إسلاماً فكرياً، غدا الإسلام في حياة كثيراً منا إسلام أخذٍ ورد، إسلاماً عقلانياً. ونحن لا نبخس بشأن العقل أبداً، لكننا نجعل العقل خادماً للقلب والوجدان، العقل ينبغي أن يكون سراجاً يوصلنا إلى هذه المعالم التي حدثتكم عنها، فنقبع في محاريب هذه المعالم بصدق الالتجاء إلى الله، وبصدق التضرع إلى الله. أين نحن من قول الله عز وجل: "وقال ربكم ادعوني أستجب لكم".

نحن نعلم أن هنالك أخوة لنا في أطراف هذا العالم لا تمر ساعة إلا وفيهم من يتذلل بصدق وإخلاص في الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى، نعلم أن هنالك عيوناً تذوب بكاءً بين يدي الله سبحانه وتعالى تستنزل من سمائه النصر، تستنزل من عليائه القوة، تستنزل من عليائه الغضب لأعداء الله سبحانه وتعالى وأعدائهم، هؤلاء الذين تجلت وحوش الغابات أمامهم وكأنهم خير من البشر جميعاً، فلماذا لا نؤمّن على دعائهم إن لم ندعوا مثلهم؟ لماذا يكون نصيبنا الفكر والبحث والنقاش فقط؟ وأولئك رأس مالهم صدق الالتجاء إلى الله عز وجل؟

أولئك شدوا أنفسهم إلى ماضي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم كان يجأر طوال الليل يتضرع إلى الله عز وجل أن ينصر عصابة المسلمين، وأن يحقق الوعد الذي قطعه لهم ليلة بدر، يوم كان يدعو الله سبحانه وتعالى في ظلمات الليل يوم الأحزاب، يوم كانت الريح تزمجر في معسكر المشركين استجابةً لأمر الله سبحانه وتعالى، لماذا لا يكون شأننا كشأنهم؟ لماذا لا نتلقى الدروس منهم!!؟ وما أحوجنا اليوم إلى أن نتلقى الدروس التي تخترق غفلاتنا، وتخترق سوء حالنا، وتجعلنا ننتقل من الإسلام الكلامي، الإسلام النظري إلى الإسلام الفعلي، إلى الإسلام الذي يصل القلب بالله سبحانه وتعالى.

وإنا أمام استراحة في طريقنا إلى الله سبحانه وتعالى من جملة هذه الاستراحات الكثيرة، هي استراحة شهر شعبان، هي هذه المعلمة التي حدثتكم عنها فلنملأ هذا الشهر المبارك أو الباقي من هذا الشهر بصدق التضرع إلى الله، بصدق الالتجاء إلى الله عز وجل، أن يصلح الله حالنا وأن يرأف بنا وأن يرحمنا، وأن يرفع الضراء عنا وعن إخواننا جميعاً، ثم نلجئ إلى الله سبحانه وتعالى أن يصلح حال إخواننا المسلمين جميعاً في مشارق الأرض ومغاربها، لئن لم نكن نستطيع أن نشارك أولئك الناس في قطراتٍ من الدم نريقها، فإن بوسعنا أن نشترك معهم بالدعاء؛ دعاءٍ صادق واجف ينطلق من الأعماق، ولعل صدق الدعاء يكون انجع من الاشتراك بالدماء .

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم .

تحميل



تشغيل

صوتي