مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 09/12/1994

السفينة التي تنجينا من أمواج الفتن المدلهمة

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

لقد أنبأنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة شتى بلغت كما قال العلماء مبلغ التواتر المعنوي، حذرنا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفتن التي ستتكاثر من بعده وأنبأنا عنها مكرراً ومؤكداً، فمن ذلك ما ورد في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ستكون فتنٌ من بعدي كقطع الليل المظلم يمسي فيها الرجل مؤمناً ويصبح كافراً، ويصبح مؤمناً ويمسي كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل". ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه علي رضي الله تعالى عنه: "ستكون فتنٌ من بعدي" قال: فما المخلص منها يا رسول الله. قال: "كتاب الله فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم" والحديث طويل..، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لأبي مويهبة خادمه -وقد خرج لزيارة البقيع في ليلة من الليالي قبيل وفاته- وأخرج معه خادمه أبا مويهبة، فلما دخل البقيع وسلّم على أهله. قال: "أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم تتبع أخراها أولاها وأخراها شرٌ من الأولى". والأحاديث في ذلك كثيرة.

وها نحن أيها الأخوة نرى هذه الفتن بأم أعيننا، نرى مصداق كلام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونلتفت إلى الماضي فنرى أيضاً بعضاً من حلقات هذه الفتن، ولكنا نقارن بينها وبين ما نراه اليوم فنجد فيها مصداق كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآخرة شرٌ من الأولى. كلما امتد الزمن بالانسان تطورت هذه الفتن إلى شكلٍ أخطر.

وليس حديثي الآن عن هذه الفتن وطبيعتها، وإنما الحديث الذي يفيدنا هو التساؤل عن المخلص وعن السفينة التي إن تعلقنا بها أنجتنا من أمواج هذه الفتن المدلهمة، التي تأتينا من كل حدب وصوب لقد أجاب عن هذا السؤال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أكد فقال جواباً لسؤال علي رضي الله عنه ما المخلص يا رسول الله؟ قال: كتاب الله، وأكد هذا فيما ذكره في خطبته في حجة الوداع: "وقد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي كتاب الله وسنتي"، وما يذكر كتاب الله إلا ويتضمن الأمر باتباع كتابِ الله اتباعَ سنته، وما تذكر سنة رسول الله إلا ويتضمن الأمر باتباع سنته اتباع كتابه. فهما متلازمان كما تعلمون، فهيهات أن يتسنى لإنسان أن يتمسك بكتاب الله دون أن يتمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. كيف وقد قال الله عز وجل: "من يطع الرسول فقد أطاع الله" وهو القائل: "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" والآيات التي يأمرنا الله سبحانه وتعالى فيها باتباع المصطفى صلى الله عليه وسلم، وبجعل سنته بياناً وشرحاً لكلام الله عز وجل آيات كثيرة جداً. وحسبكم منها قول الله عز وجل: "وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم"

فكل من يرى أمواج الفتن من حوله وقد أحاطت به من كل الجهات، فليعلم أن السفينة التي تنجيه ماثلة أمامه، هذه السفينة متمثلة بالتمسك بكتاب الله ومن ثَم في التمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ما كنا نتصور أيها الأخوة أن نعيش في عصرٍ نسمع فيه من يتظاهر بالتقرب إلى الله بسب أصحاب رسول الله، ما كنا نتصور أننا نعيش في زمنٍ يأتي فيه من يحاول أن يفرغ أفكار المسلمين وأدمغتهم من احترام أصحاب المصطفى صلى الله عليه وسلم ليحشو هذه الأدمغة في مكان ذلك بالحقد عليه وبقالة السوء في حقه، ولكنا نرى هذه الظاهرة اليوم، ونتذكر حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم عن الفتن. بالأمس بلغني أن هنالك شباباً فتنوا في دينهم بالمال وبالوسائل المختلفة، وكانت عاقبة ذلك أو كان الهدف من هذه الفتنة التي استهدفوا من أجلها أنهم أخذوا يمقتون أصحاب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويمدون ألسنتهم كثعابين بقالة السوء في حقهم، فالتجريح ما أيسر أن تسمعه منهم في حق أبي بكر، وما أيسر أن تسمعه منهم في حق عمر، وما أيسر أن تسمعه منهم في حق عثمان. كيف هذا؟ ولكن لا داعي لأن نسأل كيف وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفتن الكثيرة وشرحها شرحاً عجيباً ودقيقاً، لكأنه يعيش معنا في هذه الأوضاع. ما المخلص من فتنة تتجه إلى شباب كانوا إلى الأمس القريب دروعاً لدين الله عز وجل، وإذا بهم اليوم تحولوا لهباً في نيران هذه الفتنة ما المخلص؟

المخلص كما يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم التمسك بكتاب الله والتمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. هل يمكن لإنسان وعى كلام الله، ومن ثم اتخذ من سنة المصطفى الصحيحة بياناً لما يقوله الله عز وجل، أن يمد لسانه بقالة سوء في حق أيٍ من أصحاب رسول الله، فضلاً عن الخلفاء الراشدين؟! هل يمكن أن يمد لسانه بقالة سوء في حق آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما يتحصّن بكتاب الله سبحانه وتعالى معرفةً ووعياً، وعندما يضيء معالم كتاب الله أمام عقله بمصابيح السنة النبوية المطهرة؟

لا يمكن لا يمكن لأحد أن يخدعه، ولا يمكن لأحدٍ أن يمزق عقله، ولا يمكن لأحدٍ أن يشتري دينه بعرض من الدنيا لا قليل ولا كثير، عندما أتبين سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وعندما أصغي إليه وهو يقول: الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضاً من بعدي، وعندما أتبين مدى محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه أياً كانوا، فضلاً عن هذه النخبة التي نتحدث عنها. وعندما أستعرض سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام هل يمكن وأنا مسلم أن أمد لساني بقالة سوء في حق أي من أصحابه رضوان الله عليهم، ثم عندما أتبين عن طريق رشدٍ إسلامي يأتيني بواسطة المعرفة والثقافة الإسلامية، عندما أتبين أن احترام الصحابة ليس رهناً بعصمتهم من الأخطاء كما قد يتوهم البعض من المخادعين والمدجلين. لا .. الاحترام الذي أملاه رسول الله علينا لأصحابه ليس دليلاً على أنهم معصمون إطلاقاً، نعم كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون ما عدا الرسل والأنبياء، ومع ذلك فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الدّرة في جبين التاريخ الإسلامي كله، ولو أن احترام الانسان لأخيه الانسان المسلم مشروط فيه أن يكون ذلك الشخص معصوماً، إذاً لرأيت أن الدين الإسلامي يأمر المسلمين بأن ينهش بعضهم بعضاً، وبأن يتألب كل واحد منهم ليكون عدوا للآخر، ذلك لأنك مخطأ وأستطيع أن ألتقط أخطاءً في حياتك، وأنا مخطىء وتستطيع أن تلتقط أخطاء في حياتي، والثالث والرابع والعاشر كذلك .. فإذا كان شأن المسلم ووظيفته الإسلامية أن يلتقط لدى أخيه من الهفوات ما يبرر له هجومه عليه وانتقاصه له وحقده عليه، فمعنى ذلك أن هذا الدين جاء ليجعل من المسلمين شرائح متخاصمة متعادية، ولم يأتي أبداً ليجعل من المسلمين إخوة متآلفين متحابين.

ثم إن الذي يعلمني الإساءة وقالة السوء في حق أصحاب رسول الله، ينبغي أن يعلمني كيف أمد لساني بقالة السوء في حقه هو قبل أي شخص آخر، لأنه هو الآخر ليس معصوماً، ولو أنني نظرت إليه بعين النقد لرأيت فيه من الهفوات ما يجعلني في شغل شاغل عن الآخرين، وما يجعلني أتقرب إلى الله بالحديث عنه وبالهجوم عليه، وبملأ قلبي حقد عليه.

عندما يعي الإنسان المسلم إسلامه ويدرس حقيقة كتاب الله وسنة رسوله يعتصم بهذه الحقائق، فلا يستطيع إنسان بواسطة عصبية رعناء، وبواسطة حقد تفوح عفونته من قلبه، لا يستطيع أن يستجرّني أو أن يستجر أي مسلم إلى ساحة المتاهات وإلى ساحة الفتن إطلاقاً بشكل من الأشكال.

أبو بكر الصديق الذي نعته كتاب الله بالصحبة، وما أجل ذلك من نعت، نعته بالصحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يمتد لسان المسلم بقالة السوء في حقه، وكيف يكون مسلماً. لن يفعل هذا إلا من باع دينه بعرض من المال، وهنالك من يفعل ذلك. أهنالك مسلم يمد لسانه بقالة سوء في حق عمر بن الخطاب وما أكثر ما نعته المصطفى صلى الله عليه وسلم بالثناء، وما أكثر ما رفع من قدره في أحاديث صحيحة ..

عمر بن الخطاب الذي بنى دولة الإسلام، والذي مد الفتوحات إلى أن وصلت إلى أقصى بلاد الفرس، أجل .. هل هذا خير فعله عمر أم شر فعله عمر، لعل أصحاب الأحقاد والضغائن يتصورون أن عمر قد قوض الحضارة الساسانية، هل يمكن لانسان مسلم أن يمد لسانه بقالة السوء في حق عمر، هذا الذي اعتصر حياته كلها آلاماً وأتعاباً ممضة في سبيل دين الله عز وجل، الذي كان كتلة تحرك وإخلاص على دين الله سبحانه وتعالى.

وعثمان هل يمكن لإنسان أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشعر بأي ضغينة على صهره مرتين سيدنا عثمان؟! هل يمكن عثمان الذي زوجه رسول الله من ابنته الأولى فتوفيت، ثم زوجه من الثانية فتوفيت، ثم قال له: والله يا عثمان لو كانت عندنا ثالثة لأعطيناكها. هل يمكن لإنسان أحب رسول الله أن يقول بعد هذا كلمة سوء في حق عثمان.! أي مجنون هذا الذي لا يدرك الجواب عن هذا السؤال؟ أنا أشهد لو أن قلبي انطوى على شيء من الضغينة لعثمان فمعنى ذلك أنني لا أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبداً إطلاقاً.

وعليٌ رضي الله تعالى عنه ابن عم رسول الله، الذي ربي في بيت رسول الله، الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا ترضى أن تكون مني كهارون من موسى، من ذا الذي يشعر بأي انتقاص له في جانبه، من ذا الذي لا يراه درة في جبين أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم، وعليٌ هذا كيف كان فؤاده اتجاه أبي بكر؟ كيف كان فؤاده اتجاه عمر؟ كيف كان قلبه اتجاه عثمان؟ أليس هو علي رضي الله عنه الذي أمسك بخطام دابة أبي بكر وقد جعل من نفسه قائداً لجيش يتجه به إلى سرغ لمقاتلة المرتدين عقب وفاة رسول الله. فقال له علي: - وانظروا إلى المراجع - أقول لك يا أمير المؤمنين بهذه الصيغة ارجع كما قال لك رسول الله يوم أحد، لم سيفك وعد إلى دارك، فو الله فإن نكب المسلمون بك لم تقوم لهم قائمة من بعدك، حبي لعلي يقتضيني أن أتأدب مع أبي بكر وأحبه. حبي لعلي يقتضيني أن أتأدب مع عمر الذي كان مستشار سيدنا علي، وكان علي رضي الله عنه مستشاره، حبي لعلي يقتضيني أن أتأدب مع عثمان وأحبه. فمن زاغ عن هذا الطريق فإن ينبوع زيغه يتمثل في شروده عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ونحن أيها الأخوة ندعو دائماً في كل مناسبة هذه الأمة إلى أن تتجاوز خلافاتها، وأن تتجاوز اجتهاداتها التي ينبغي أن تقدّر من قبل كل المسلمين، وندعو إلى أن يتقاربوا وأن يعودوا إلى الجزع الواحد والموحد، ونحن دائماً ندعو إلى أن يتقارب المسلمون لكن كيف يكون سبيل التقارب؟ سبيل التقارب هو أن ننظر إلى أن المسلمين الذين اتفقوا في جذور الإسلام، ثم اختلفوا في حواشيه الاجتهادية ندعوهم إلى أن يحترم كل مجتهدٍ اجتهاد أخيه، وأن نعلم كلام المصطفى عليه الصلاة والسلام الذي يقول فيه: "إذا اجتهد الحاكم أو المجتهد فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد"، ونكل صواب المصيب وخطأ المخطأ إلى الله سبحانه وتعالى، ونقول تعالوا نترك هذه القضايا الاجتهادية التي اختلفنا فيها وهي من حواشي الإسلام ونتمسك بالجزع الواحد، والجزع الموحِد. هذا هو سبيل التقارب ليس سبيل التقارب أن أعطيك مخدراً من هذه الكلمات، حتى إذا تطوحت من كلمات التقارب والتلاقي والتصافي أخذت في السر أحطم عقيدتك، وأخذت في السر أقتنص إيمان المؤمنين من الشباب المسلم، وأخذت في السر أحقن أفئدة المسلمين بالبغضاء لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

نحن ينبغي لكي نتجاوز ونقفز فوق هذه الفتن أن نجتمع على الجزع، ثم أن نصدق بألستنا وبقلوبنا في احترام المجتهدين، وفي ترك كل اجتهاد لصاحبه، وعند الله تجتمع الخصوم ويتبين في الغد القريب الحق من الباطل، لا أسيء إلى اجتهادك ولا أنتقص من مكانتك كمسلم، ولا تسيء إلى اجتهادي، أكون أمين معك في ظاهري وفي سري، وتكون أمين معي في ظاهرك وسرك. الذي يدعو إلى التقريب هكذا يسلك.

تحميل



تشغيل

صوتي