مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 11/11/1994

منهجية نبوية في مواجهة الفتن

سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

حيثما التفت المسلم في هذا العصر يجد من حوله فتناً تتفجر في داخل المجتمعات الإسلامية، وحيثما ألقى بنظره إلى البعيد البعيد وجد أمامه خططاً ترسم لمزيدٍ من العدوان، يبيتُ ضد المسلمين حيثما كانوا، وعندما يلتفت المسلم فيرى هذه الفتن المتفجرة المتلاحقة في داخل المجتمعات الإسلامية، لا بد أن يتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام: "يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمٌ يتبع به شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن".

لا يتأتى للمسلم أن ينظر إلى ما يجري من حوله داخل مجتمعات إسلامية وبين فئاتٍ من المسلمين من هذه الفتن التي تتدجى، لا يتأتى للمسلم وهو يرى هذا إلا أن يتذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا، ولأن دلّ كلام رسول الله على شيء فإنما يدل بصريح القول وبواضح العبارة إلى الدواء المنجي من هذه الفتن، وإلى الماء الذي يطفئ نيرانها، وما أظن أن هنالك دواءً آخر أشفى وأبعد للإنسان المسلم من الفتن يضن بذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان ثمة دواءٌ غير هذا الدواء.

ولكن المصيبة الكبرى لا تتمثل في أن المسلمين تائهون عن وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل المصيبة الكبرى تتمثل في أن في الناس المسلمين من يضيقون ذرعاً بهذا الكلام النبوي؛ فيهم من يحرك لسانه بالانتقاد على هذا الكلام النبوي الثابت في الصحيح من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كم قيل وقيل إنها سلبية ينبغي أن لا ننحط فيها. وهل تأملنا في معنى كلام رسول الله هذا؟ وهل تدبرنا دلائله والبعد التربوي الذي في هذا الكلام؟ لو تدبرنا أيها الأخوة لوجدنا في هذا الحديث النبوي الجامع الدواء الشافي لكثيرٍ من مصائبنا ومشكلاتنا.

إن المصطفى عليه الصلاة والسلام عندما قال هذا الكلام لم يهمس به في أذن ثلاثة أو أربعةٍ من المسلمين، أو في آذان فئة قليلة من المسلمين دون غيرهم طلب منهم العزلة والخروج من مجتمعاتهم، لا. وإنما وجهها نصيحةً إلى المسلمين جميعاً بمن فيهم الذين وقعوا في براثن تلك الفتن، فتصوروا كيف يضع رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام المسلمين جميعاً هذا الدواء، ويهيب بالمسلمين جميعاً أن يجنحوا إلى هذه الوسيلة، وأن يلجأوا إلى هذه الطريقة. ترى لو أنهم جميعاً انصاعوا إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الذي كان يجري؟

عندما ينصاع المسلمون جميعاً فلن يقع هؤلاء المسلمون من جراء انصياعهم الكلي لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في عزلة، الذي يقع في عزلة واحد أو اثنان أو ثلاثة، ولكن عندما يصغي المسلمون كلهم في سائر المواقع التي انحطوا فيها، ومن خلال سائر الوظائف التي يؤدونها، ثم ينصاعون لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه، فإنهم لن يقعوا من جرّاء ذلك في عزلة قط؛ ذلك أنها استجابة ٌ جماعية تربوية مثلى لأمر المصطفى عليه الصلاة والسلام.

وإذا تاه الإنسان أمام هذا المعنى الدقيق الذي يدل عليه هذا الحديث النبوي الشريف، فليقف أمام الحديث الآخر الذي يشرحه ويزيده بياناً وجلاء. عندما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي والنسائي وأبو داوود وابن ماجه: "بل تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر" بعد كلامٍ وحوار "حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوىً متبعاً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العامة ".

إلى من يتجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا النصح أفيتجه به إليَّ دون غيري!؟ أم يتجه به إليك دون أخيك! إنه يخاطب بهذه النصيحة المسلمين جميعاً يقول لكل فردٍ فردٍ منهم "إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوىً متبعاً ودنيا مؤثرةً وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه فعليك بخاصة نفسك" أي عليك بأسرتك، بمن يلوذ بك، بمن تستطيع أن تهيمن عليهم إذا أمرت، وتستطيع أن تمضي نصائحك فيهم إذا نصحت. هذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: "فعليك بخاصة نفسك".

نصيحةٌ همس بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أذن كل مسلم، فما تتوقعون وما تتصورون لو أن المسلمين عندما رأوا هذه الحالات - وقد وقعنا فيها، فلا والله لا يستطيع مسلمٌ أن ينكر أننا رأينا الشح المطاع والهوى المتبع والدنيا المؤثرة وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه، رأينا ذلك حيثما نظرنا وحيثما قلّبنا وجوهنا. أرأيتم لو أننا جميعاً طبقنا أمر رسول الله هذا؟ لو عاد كل واحدٍ منا إلى أسرته يرعى شأنه ويحرس دينه ويضحي بكل شيء في سبيل أن تبقى هذه الأسرة في حصنٍ حصين من التمسك بأوامر الله والانصياع لشرع الله. مالذي كان يتم في المجتمع؟ إذاً لذابت التضاريسُ كلها، ولذابت العوائق أجمع، ولفلت الأسلحة الماضية كلها التي تشهر من قبل أعداء الله سبحانه وتعالى ضد دين الله.

ولكن المسلمين لا يَعون نصائح المصطفى عليه الصلاة والسلام، وإن تعجب لشيءٍ فاعجب لمسلمٍ يقول إنه داعٍ إلى الله يوصي بأن لا نذكر هذا الحديث وأمثاله في هذا العصر لأنه يعلم المسلمين معنىً من معاني السلبية. تعلم معنى كلام رسول الله ثم قله. هذا الكلام خطابٌ تربوي أخاذ يخاطب به المسلمين جميعاً,

وأذكر أنني قلت مرةً مثالاً مصغراً لهذا المعنى التربوي الجليل لو أنك نظرت إلى قاعة الدرس، فوجدت الطلاب في همس وفي حالة من الفوضى، وعرفاء هذا الفصل يزيدون الفوضى فوضى إلى جانبهم، ويزيدون الضجيج ضجيجاً من حيث يريدون أن يُسكتوا هؤلاء الطلاب في تلك القاعة. ما السبيل الأمثل للقضاء على هذا الضجيج ولإنهاء هذه الفوضى؟ السبيل أن يقول قائلٌ منهم: ليسكت كل واحد منكم نفسه، إذا أسكت كل واحد منهم نفسه - أي إذا عاد إلى خاصة شأنه وترك من حوله زملائه وإخوانه - فإن القاعة في اللحظة التي تليها تتحول إلى نظام وتتحول إلى هدوء.

هذا ما يقوله سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أكثر الأمثلة التي تجسد معنى هذه النصيحة التي يوصينا بها المصطفى عليه الصلاة والسلام، ولكني أضعكم من هذه الأمثلة كلها أمام مثالٍ عمليٍ واقعي واحد:

أرأيتم لو أننا اليوم وقفنا أمام قوله عليه الصلاة والسلام "فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العامة" فقال كل منا بلسان حاله إن لم يكن بلسان مقاله لبيك يا رسول الله ها أنا ذا أعود إلى أسرتي وخاصة بيتي لأرعى شأنها ولأحرس دين أولادي وبناتي، فأنا أستطيع أن أفعل ما أشاء في بيتي وداخل أسرتي، وها أنا ذا أضحي بكل شيء في سبيل أن أُنشئ أولادي وبناتي سائرين على صراط الله ملتزمين أوامر الله، مصطبغين بالفضيلة بكل مظاهرها ومعانيها وأنفذ هذا وتنفذ أنت الأمر ذاته وينفذ كل مسلمٍ في داره هذه الوصية النبوية الغالية، فيشرف على خاصة دينه في بيته في أسرته.

إلام كانت ستأول أحوال تلك الموجات التي تعارض دين الله عز وجل والتي تحاد الفضيلة إن في الشوارع أو في بعض المدارس إلام سيأول هذه الحال؟ إذاً لرأيتم أن رجوع كل إنسانٍ إلى خاصة نفسه هو الذي يقضي على هذه االمشكلة التي يظل كل واحد منكم في كل يوم يسأل عنها. كيف أصنع ببناتي وبالحجاب؟ كيف أصنع بمسألة التوفيق بين الفضيلة وبين ما تدعو إليه الشبيبة كيف أصنع بهذا وذاك؟

رسول الله صلى الله عليه وسلم يريك الدواء من خلال أقصر طريق، ومن خلال أيسر سبيل، لكنه ليس الدواء الذي آخذ أنا نفسي به فقط، ولا الدواء الذي تأخذ أنت نفسك به، ولكنه الدواء الذي يأخذ كل المسلمين أنفسهم به. يقول لنا عليه الصلاة والسلام: العلاج هذا "عليك بخاصة نفسك" كن حارساً على دين أسرتك بناتك أولادك، تستطيع أن تفعل ما تشاء في بيتك، تستطيع أن تسير ابنتك على النهج الذي تشاء، أنت وليها وهي من خاصتك. فإذا أقبل كل مسلم يرعى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن ذلك التيار الخارجي يذوب، ثم يذوب، ثم يتلاشى.

ولكن عندما ينسى كلٌ منا هذه الخاصة التي أمرنا الله عز وجل بها، ثم يضع المناظير على عينيه لينظر بها بعيداً بعيداً قفزاً فوق واقع بيته، قفزاً فوق واجب رعاية أسرته، قفزاً فوق واجب التضحية بكل شيء في سبيل الفضيلة التي شرّف الله سبحانه وتعالى بها هذه الأمة، فإن هؤلاء المسلمين يراوحون عندئذٍ في مكانهم، ولن يستطيعوا أن يأتوا بأي نتيجة قط. هذا معنى كلام رسول الله إن في الحديث الأول أو في الحديث الثاني.

فانظروا إلى واقع المسلمين كيف يتيهون عن هذا النهج التربوي الأخّاذ الهادئ البعيد عن الفتن، والبعيد عن الضجيج، والبعيد عن أي إثارة.

وانظروا أيها الأخوة إلى هذا المعنى كيف يجتمع ثم يجتمع في كلمات قدسية يسيرة من بيان الله عز وجل: "ففروا إلى الله إني لكم منه نذيرٌ مبين" فروا إلى الله فروا إلى الله من ماذا؟ من كل شيء يتعارض مع النهج الذي يرضي الله سبحانه وتعالى، من كل شيء يتعارض مع الأوامر الرّبانية التي خاطبكم الله عز وجل بها، فروا إلى الله من الفتن، فروا إلى الله من الضوضاء، فروا إلى الله من القال والقيل الذين لا رصيد لهما، فروا إلى الله سبحانه وتعالى من أعمال وحركاتٍ لا تنقل الإنسان خطوة إلى الأمام، فروا إلى الله التزموا بأوامر الله سبحانه وتعالى، وليكن كل منكم قائماً بأمر نفسه، وليكن كلٌ منكم حارساً على دينه، وعندما يكون حارساً على نفسه فلا بد أن يكون حارساً على خاصة بيته أيضاً.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يبصرنا بمعانِ كلام سيدنا وحبيبنا محمدٍ عليه الصلاة والسلام وأسأله عز وجل أن ينبهنا إلى الأدوية التي تشفي جروحنا وتنهي آلامنا وتقضي على مصائبنا لو تنبهنا إليها ولو عدنا إليها بتأمل وتدبر.

أقول قولي هذا وأستغفر الله.

تحميل



تشغيل

صوتي