مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 10/06/1994

لهذه الأسباب كانت الهجرة تبعث على الاعتزاز والفخار

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

ها نحن قد ودعنا عاماً انصرم، واستقبلنا عاماً جديداً اقتطع من عمر كل منا عاماً كاملاً، وقرَّبَنا إلى الموت عاماً كاملاً، وإذا قلنا: إننا قد ودّعنا عاماً واستقبلنا عاماً فلست بحاجةٍ إلى أن أقيده بعامٍ هجري، ذلك لأن العام إذا أُطلق في المجتمع الإسلامي وفي مصطلح الإنسان المسلم الذي وعى إسلامه، ما ينبغي أن يفهم من هذا العام إلا أنه العام الهجري؛ ذلك لأنه الميقات الذي يُبرز وجود هذه الأمة ويحدد معالمها، وهو التاريخ الذي تعتز به هذه الأمة، والذي أناط الله سبحانه وتعالى وجودها الاعتباري به، فما أظن أن المسلم بحاجة إلى أن يحار أي المعنيين نعني بكلمة العام. لو أن الإنسان كان واقفاً بين الإسلام والكفر أو بين الثقافة الإسلامية والثقافات الأخرى، لكان له أن يحار ويتساءل، ولكن المسلم المعتز بإسلامه يعلم أن عامه هو هذا، وأن تاريخه هو هذا.

وأظن أنكم جميعاً تعلمون أن المسلمين اجتمعوا ليتسائلوا عن ميقاتٍ زمني أو مقياس زمني يحددون به تاريخهم والأحداث التي تمر بهم، فاجتمعت كلمتهم - وذلك في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه - على أن يكون التاريخ الهجري الذي يبدأ بهذا الشهر المبارك؛ الذي يبدأ بهجرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المَعْلمة التي ترتبط بها الأحداث، والتي تتبين بها مواقيت التاريخ، وما أظن أن هنالك مسألةً تم الإجماع عليها في حياة الصحابة كإجماعهم على أن يكون تاريخ هذه الأمة منوطاً بهجرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكةَ إلى المدينة.

فكل من أراد أن يتلاعب بهذا التاريخ أو أن ينقض ما أبرمه عمر مع المسلمين عامةً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مفتأتٌ على هذا الدين، وهو عميلٌ يتقنع بقناع وطنيةٍ أو عروبةٍ أو إسلام. ولا شك أن الإجماع الذي تم وانقضى وترسّخ لا يملك أحدٌ أن ينقضه إلى يوم القيامة. ولكن ما هو السر الذي جعل المسلمين يعتزون بعامهم الهجري هذا؟ ما هو السر الذي جعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعرضون مشاهد السيرة النبوية منذ ولادة المصطفى عليه الصلاة والسلام إلى يوم وفاته فلم يجدوا بين هذه المشاهد مشهداً يعتز به المسلم، ومن ثم يجدر أن ترتبط أحداث التاريخ كلها به سوى هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة؟ ما السر في اجتماعهم على هذا وفي اعتزازهم بهذا المشهد دون غيره من مشاهد السيرة النبوية؟

السر أيها الأخوة يتمثل في سلسلة كثيرة مكونة من حلقات متعددة كلٌ منهل يبعث المسلم على الاعتزاز بهذا المشهد من مشاهد السيرة النبوية، وكلٌ منها يبعث على أن يربط نفسه بهذا المشهد أيما ارتباط مهما كانت الدنيا التي يتقلب فيها، ومهما كانت الأوضاع التي تطورت به:

أولاً: هجرة النبي عليه الصلاة والسلام جسدت أبرز معنىً من معاني العصمة التي تعهد الله عز وجل بها لرسوله سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، ولعل هذه العصمة قد خُلِّدت في قول الله سبحانه وتعالى: "وإذ يمكر بك الذين كفروا لِيُثْبِتوكَ أو يُخرجوك أو يقتلوك ويمكرون ويمكر الله واللهُ خير الماكرين". ولقد قوّض الله سبحانه وتعالى مكرهم، وإنكم لتعلمون كيف مكروا به، وأنفذ الله رسوله صلى الله عليه وسلم من بين خططهم الماكرة، وأخرجه من ظلمات كفرهم وضلالهم إلى صعيد الإيمان إلى صعيد الدين إلى أول دارٍ أكرم الله سبحانه وتعالى الأمة بها. فهذه أول مكرمة بل هذا أول سرٍ من أسرار ارتباط المسلمين بتاريخ هجرتهم.

السر الثاني: أن المسلمين عندما كانوا يعيشون مع رسولهم صلى الله عليه وسلم في مكة لم تكن لهم دارٌ تجمعهم، فلم تكن هنالك دار إسلام قط، ولكن وُجدت هذه الدارُ وولدت بهجرة المسلمين ثم بهجرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، عندئذٍ أكرم الله سبحانه وتعالى بهذه الهجرة هذه الأمة بأول دار إسلام، وشاء الله عز وجل أن تكون المدينة المنورة التي كانت تسمى بيثرب أول دار إسلام، فهذه الحلقة الثانية تمثل السر الثاني من أسرار الإعتزاز الذي لابد أن يشعر به كل مسلم صادقٍ مع الله سبحانه وتعالى في إسلامه.

السر الثالث: وهو الذي يشكل الحلقة الثالثة، أن الله عز وجل شاء أن يكرم هذه الأمة بأول دولة تحققت، وقام نسيجها متكاملاً مع هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين إلى المدينة المنورة، عندما كان المسلمون في مكة لم تكن لهم دولة، وكيف تنشئ لهم دولة وليست لهم أرض والدولة إنما تقوم على ثلاث أركان: أرضٍ يمتلكها المسلمون، ومجتمعٍ متضافر يتكون من هذه الأمة المسلمة، ونظام سلطوي يحقق معنى ارتباط هذه الأمة بتلك الأرض.

وعندما كان المسلمون في مكة المكرمة لم تكن لهم أرضٌ يرجعون إليها ويرتبطون بها، ولم تكن لهم دولة ولم تكن لهم جامعة، ثم أكرم الله سبحانه وتعالى رسوله ومعه أصحابه المهاجرون بالهجرة إلى المدينة المنورة، كان ذلك إيذاناً بنشأة أول دولةٍ إسلامية وجد المجتمع الإسلامي فوق دار الإسلام ثم وجد النظام الذي جسّد علاقة هذه الجماعة المسلمة بتلك الأرض.

وبالأمس كنا نتحدث عن تلك الوثيقة أي الدستور الذي اكتتبه - أي أملاه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه، فنظم بذلك المصطفى عليه الصلاة والسلام علاقة المسلمين بعضهم مع بعض، ونظّم بذلك علاقة المسلمين بمن جاورهم من اليهود أو غير اليهود، وهكذا فنحن أمام حلقة ثالثةٍ تشكل السر الثالث من أسرار اعتزاز المسلم بهجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة المنورة.

الحلقة الرابعة: أن هذه الهجرة كانت الفجر الذي انبثقت منه حقيقة الأمة؛ معنى الأمة. فما كان المسلمون قبل ذلك قد تهيأوا ليكونوا أمةً واحدة عندما كانوا يتقلبون في فجاج الكفر وبين أودية التيه والضلال في مكة، حتى إذا استقر بهم المقام في المدينة المنورة بزغت حقيقة الأمة من تلك الهجرة، ولذلك فلقد كان أول بندٍ من بنود تلك الوثيقة هي إعلان المصطفى صلى الله عليه وسلم عن ولادة الأمة؛ الأمة الإسلامية، وانظروا ماذا يقول عليه الصلاة والسلام في هذا البند: (المسلمون من مكة ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم أمة واحدة من دون الناس جميعاً) (المسلمون من مكة ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم أمة واحدة من دون الناس جميعاً)، وهكذا نحن أمام حلقة رابعة من حلقات هذه السلسلة التي تبعث المسلم على الاعتزاز - وأي اعتزاز - بهذه الهجرة النبوية التي تجعل المسلم الصادق مع إسلامه لا يستطيع أن يتبين بين مشاهد السيرة النبوية منذ يوم الولادة إلى الوفاة مشهداً يبعث على اعتزازٍ وعلى فخار وعلى مجدٍ وعلى نشوة تطوف بنفس هذا الإنسان المسلم كمشهد هجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام من مكة إلى المدينة المنورة.

نحن ندرس اليوم تاريخ هذه الأمة من خلال دراسة دولة، ولكن هذه الدولة ما ولدت إلا مع الهجرة، ونحن ندرس تاريخ هذه الأمة من خلال دراسة نظام؛ نظامٍ سياسي سلطويٍ متكامل، ولكن هذا النظام لم يتحقق ولم يتكامل إلا مع الهجرة، نحن ندرس سيرة هذه الأمة - تاريخ هذه الأمة - من خلال وحدة هذه الجماعة المسلمة، ولكننا لا نستبين هذه الوحدة إلا من خلال هجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنورة. ألا تلاحظون هذه المعاني البديهية أيها الأخوة؟

هي التي حفزت سلفكم الصالح، هي التي دعت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يجمعوا على أن تكون الهجرة هي المَعْلمة التي يرتبط بها تاريخ هذه الأمة. فهل لديكم من رأي في أن الإنسان الذي يريد أن ينسخ معالم هذه الهجرة من الأذهان، والذي يريد أن يمزق مظاهر فخار هذه الأمة في حلقات هذه السلسلة، والذي يريد أن يذيب معنى الهجرة من أذهان المسلمين وتاريخهم. هل من ريبٍ لديكم من أنه إنسان عميل؟ هل من ريب لديكم في أنه إنسان يتظاهر - ربما - بأنه مسلم، ولكنه خادمٍ - وأي خادم - لأولئك الذين يحاربون دين الله عز وجل قائمين قاعدين غادين رائحين ممسين مبكرين؟؟

بعد هذا .. ينبغي أن نستشعر ألمنا من أننا عندما ننظر إلى مشاعر هذه الأمة التي هي من سلالة ذلك السلف الصالح، هذه الأمة التي لا تزال تتفيء ظلال أمجاد الهجرة، عندما ننظر إلى هذه الأمة في يوم كهذا اليوم، وقد انقضى العام الفائت ودخلت هذه الأمة إلى دهليز عام جديد، ولا أقول هجري لأن البداهة تعلن ذلك، أنظر فلا أجد لدى هذه الأمة ما يدل على أنها شعرت بحدث، شعرت بشيء، شعرت بأن شيئاً قد وقع يبعث على افتخار، يبعث على وقفة تأمل وتدبر، لا ألاحظ شيئاً من هذا أبداً بشكل من الأشكال!! ويدفعني هذا الشعور إلى أن أقارن حال هذه الأمة المسلمة، إلى أن أقارن حالها عندما تودع عاماً هجري وتستقبل عاماً جديداً، مع حالها يوم ودعت بالأمس عاماً ميلادياً واستقبلت عاماً ميلادياً آخر. عندما أقارن .. أجد نفسي وكأني أمام أمة لا ترتبط بتاريخها الأغر بأي رباط!

هذا هو الواقع الذي نشاهده، ولست بصدد أمرٍ تقليدي يتكرر في كل عام، ولكني بصدد المشاعر التي ينبغي أن تعلن عن نفسها. قبل أمس الدابر استيقظت في جنح الليل على أصوات مفاجئة لم أكن أتوقعها على أصوات انفجارات ودويٍ ينطلق من هنا وهنا. قلت في نفسي: ما الذي حدث!؟ ورأيتني أتألل سروراً. قلت في نفسي: إنه وعي جديد أكرم الله به هذه الأمة، إنها شباب هذه الأمة عرفت أنها تودع عاماً هجرياً وتستقبل عاماً هجرياً جديداً، ولقد غارت على هذا العام تجاه تصرفات المسلمين في جنح الليل عندما يمر عام ميلادي ليأتي من بعده عام جديد، فذلك هو السر في انبعاث هؤلاء الشباب ليعبروا عن ارتباطهم بتاريخهم الهجري، وتهلل فكري سروراً. ولكن السرور لم يتكامل فقد علمت أن الأمر أهون من ذلك، علمت أن كل هذا وأكثر من هذا يتم في حياة هذه الأمة بسبب عوامل لعب من جراء عبث، وسبحان من جعل العبث هو الذي يتحكم اليوم في هذه الأمة، ألا ترون أن هذا الواقع يبعث على ألم يذيب الحشاشة؟ وألا ترون بعد هذا أن هذا الواقع يبرز الحيثيات الدقيقة لتخلي الله عز وجل عنا؟ وكم وكم من إنسان يتسائل لماذا تخلى الله عز وجل ونحن تلك الأمة التي كانت خير أمة أخرجت للناس، ألا ترون في هذا الواقع خير جواب عن هذا السؤال.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي