مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 20/05/1994

بتحقق هذا الشرط يثمر يوم عرفة أثره المنشود

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

لعل الإنسان المسلم عندما يعيش في يومٍ كهذا اليوم المفضل المبجل عند الله سبحانه وتعالى، والذي لم نجد في أيام السنة كلها يوماً أفضل منه، ألا وهو يوم عرفة، لعل شعور الإنسان المسلم في هذا اليوم يتوازعه أمران اثنان:

أحدهما: الاستئناس بكرم الله سبحانه وتعالى ورحمته وتجلياته الكريمة على عباده في هذا اليوم، كما ورد في أحاديث صحيحة كثيرة.

والأمر الثاني الذي يجتذب شعوره هو: الألم الذي لابد أن ينبعث في قلبه في هذا اليوم المبارك من أن هذه الأمة غدت وكأنها ليست على مستوى هذه الرحمة، وليست على مستوى هذا الكرم الذي يتجلى به الله سبحانه وتعالى على عباده في هذا اليوم.

لا بد أن يشعر الإنسان المسلم بهذين الشعورين المتناقضين، مرةً ينظر فيتفاءل، ولكنه ما يلبث أن يعود فيتشاءم؛ يتفائل من الكرم الهابط من الله عز وجل على عباده في هذا اليوم، ويتشائم من السوء الصاعد من العباد في هذا اليوم وغير هذا اليوم إلى رقابة الله سبحانه وتعالى إلى السماوات العلى.

يوم عرفة يومٌ فريدٌ من الدهر كله وكما قد قلت بالأمس إن هذا اليوم يشبه واسطة العقد من عقد يتألق في جِيد الكون كله، هذا هو يوم عرفة وعندما يجتمع مع فضل يوم عرفة فضل مكان عرفة، وعندما يتلاقى المسلمون مع أفضل زمانٍ هو هذا اليوم مع أفضل مكانٍ هو عرفة، التي اعتبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم محور الحج كله، فلا بد أن نشعر وأن نلاحظ أن الله سبحانه وتعالى أكرم هذه الأمة من هذا الزمن وذلك المكان بينبوع للاتحاد ينبوعٍ للتضامن ينبوعٍ لسد الثغرات التي يمكن أن تتفتح بواسطة مساعي شياطين الإنس أو شياطين الجن، وهذه من أجل النعم التي أسداها الله سبحانه وتعالى إلى عباده.

فلكأن الله عز وجل يقول لعباده مهما اختلفتم أثناء العام، ومهما تشاجرتم، ومهما نسيتم الجاذب الذي ينبغي أن يجمعكم إلى محور الأمة الواحدة، فها أنا ذا أقدم لكم في كل عام دواءً يزيل خلافاتكم ويقضي على صراعاتكم ويجمعكم مرة أخرى تحت مظلة هذا الدين القويم، فلا شك أن من مقتضى هذا الزمن المبارك وذلك المكان المبارك أن يتلاقى الزمان والمكان على إذابة أسباب الخلافات مهما كانت عظيمة ومهما كانت خطيرة، هذا هو إكرام الله.

وعندما ننظر إلى شعائر الحج وإلى المعاني التي تتجمع من هذه الشعائر في يوم عرفة لدى اجتماع المسلمين وتلاقيهم في ذلك المكان المقدس المبارك، ندرك كيف أن الله سبحانه وتعالى يقبل على عباده ليصالحهم مباشرة ليزيل بقايا الضغائن والأحقاد مما بينهم دون وسيط، ولكنك تنظر إلى هذه الأمة وتتأمل في هذا الدواء الذي أكرمها الله سبحانه وتعالى به، وإذا بها تعود إلى واقعها كما كانت، وإذا بها تجتر خصوماتها وتجتر عداواتها فيما بينها كما كانت، لا الدواء أفاد، ولا مكان عرفة جمع، ولا زمان عرفة أصلح، هذا هو مبعث الألم، وهو مبعث التشاؤم من واقع المسلمين.

الدواء موجود بل إن تجلي الله عز وجل على عباده هو أشبه ما يكون - ولله المثل الأعلى - بقائدٍ أقبل هو مباشرةً ليصلح ما بين جنوده وليعود فيألف بين قلوبهم وأفئدتهم، ولكن الجنود غير منصاعين، مدبرون عن نصائح القائد مدبرون عن المحبة التي يوزعها فيما بينهم لتجذبهم إلى محور هذا الحب، هذا هو واقعنا اليوم. فإلى أي الجانبين ننحاز؟ وأي الشعورين نفضل؟ أنفضل الأمل برحمة الله سبحانه وتعالى أم نركن إلى نقيض ذلك بناءً على الواقع المشاهد الذي تراه أعيننا.

أما الدعاء في يوم عرفة فهو دعاءٌ مستجاب، ولقد قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الترمذي بسندٍ صحيح: "خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو على كل شيء قدير". ولقد ذَكرتُ بالأمس بحديث هو جزء من خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس يوم عرفة فقال: "أيها الناس إن الله تطول عليكم في هذا اليوم - أي تكرم عليكم - فغفر لكم، إلا التبعات التي فيما بينكم، وإن الله عز وجل قد وهب مسيئكم لمحسنكم وأعطى لمحسنكم كل ما سأل".

لا شك أن الأبواب مفتحة وأن الإنسان إذا طهر قلبه بهذا الشرط، طهر قلبه من الأدران وصدق في التوبة إلى الله، ثم مد كف الضراعة إلى الله ودعاه، فإن الله يستجيب. لا سيما إذا دعى لنفسه ولخاصته كما ورد في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانظروا وتأملوا لو أن المسلمين جميعاً في هذا اليوم صفّوا قلوبهم من الشوائب، وصدقوا الله عز وجل في التوبة والاستغفار، ثم مدّ كل منهم كف الضراعة إلى الله عز وجل داعياً أن يصلح الله شأنه، إذاً فحصيلة هذه الدعاوات كلها أن يصلح الله شأن هذه الأمة أجمع.

ولكن لا يصلح شأن هذه الأمة!؟ ليس هنالك ظلمٌ من الله حاشى أن يظلم الله عباده، بل إن الله عز وجل لا يعاملهم بحدود العدالة فقط بل يتجاوزها إلى الرحمة أيضاً وإلى المغفرة، ولكن السبب في أن المآسي التي يعاني منها المسلمون لا تزال موجودة قبل يوم عرفة وبعد يوم عرفة، قبل الوقوف بعرفة وبعد الوقوف بها؛ السبب أن القلوب ليست صافية، وأن الأفئدة لم تتطهر من الشوائب، ومن ثم فلم يتحقق صدق الإنابة إلى الله عز وجل، فأنّا يستجاب دعاءٌ أقبل فيه الإنسان إلى الله على زغل.

هذا هو السبب فضلاً عن أناسٍ يمر بهم هذا اليوم، ولا يعبأون به، يمر بهم هذا اليوم ويتذكرون الحجيج ويتذكرون وقفة عرفة ولا يقيمون لذلك كله وزناً وهم مسلمون وهم مؤمنون، إذاً كيف يمكن لهذا الدواء الذي وصفه الله لنا ووضعه أمامنا. كيف يمكن أن يطهرنا من هذا الدنس؟ وكيف يمكن أن يجمعنا من شتات؟

أيها الإخوة إن الإنسان عندما يتذكر الحج إلى بيت الله الحرام، يعيش في معانٍ هي أشبه بالسخرية منها بالجد، عندما يجد الجموع المحتشدة حول الكعبة وكأنها تتلاصق وكأنها جاءت لتعبر أمام الله عز وجل عن تضامنها الحقيقي، ثم نتأمل في الواقع الذي يفور ويثور وراء ذلك، وإذا بالدماء تنساب بين الإخوة، وإذا بآلاف القتلى يتطوحون هنا وهناك. ماذا يعني هذا كله أمام هذا التلاقي حول بيت الله الحرام؟ أما ينبغي أن يخجل هؤلاء الناس عندما يتحدثون عن الحج؟!

أنا أعلم أنكم وأنتم تعلمون أننا جميعاً سنسمع في مساء هذا اليوم كلمات الدول العربية والإسلامية، كلٌ ينطق باسم دولته يتحدث عن الإسلام، يتحدث عن الحج، يتحدث عن عرفة، صوت اليمن ستسمعونه اليوم، وصوت مصر وصوت شمال إفريقيا بكل جهاته، وصوت الأفغانيين ربما وأصوات كثيرة وكثيرة ستسمعونها، فإن أصغيت أطربك ما تسمع كلٌ يتكلم عن الإسلام. وكيف أنه يجمع من نثار ويؤلف القلوب من شتات، ولكنك تلتفت إلى الواقع فتجد شيئاً مخزياً، ألا ليت أن يوم لم نشأ أن نتحول عن واقعنا المخزي، ليت أننا صمتنا وليت أننا لم نتفاخر ونتباهى بكلامٍ يكذبه واقعنا، حتى غدا كلامنا أشبه بالسخرية منه بالجد.

هذا هو الشعور الذي لا بد أن ينتاب الإنسان في يوم عرفة، ولابد أن ينتاب الحاج أيضاً وهم يدعون ويلبون ويقبلون إلى الله عز وجل وقد مثلوا من أنفسهم مظهر أمةٍ متحدة.

وقد ذكّرت بالأمس بحديث من الخطورة بمكان ومن الأهمية بمكان، وهو ما رواه مسلم والإمام أحمد وآخرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله زوى لي الأرض فأراني مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها، وإني سألت ربي أن لا يهلك أمتي بسنَةٍ عامة" أي بقحط عام يأتي عليها كلها "وسألت ربي أن لا يسلط عليها عدواً من غيرهم، فيهلكهم بعامة، وسألت ربي أن لا يجعل بأسهم بينهم. فقال لي الله: يا محمد إني إذا قضيت قضاءً فلا مرد له، لقد أعطيتك لأمتك أن لا أهلكها بسنة عامة، وأعطيتك لأمتك أن لا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، وبعضهم يقتل بعضاً، وبعضهم يسبي بعضاً ".

أليس من المخجل ومن المذيب أن نسمع كلام رسول الله هذا، وننظر فنجد أننا نحن الذين صدق علينا هذا الذي يقوله عليه الصلاة والسلام.

بالأمس قال لي قائل: أليس في هذا الحديث ما يشعر بأن هذه الأمة ليس لها خيار قد قضى الله عز وجل عليها بأن تتهارج، وبأن يُهلك بعضها بعضاً، وكأن هذا الحديث يذكرنا بمعذرة وكأنه يدفعنا إلى أن نقول هذا قضاؤك يا رب. فكيف الخروج والهروب من قضاء أنت الذي قضيته؟ قلت: لا يا هذا، هذا سوء فهمٍ منك وسوء ثقافة إسلامية ابتلينا بها. هل الله عز وجل يسلط عدواً على أمة مؤمنة بدون سبب بدون جريمة ارتكبتها هذه الأمة؟ هل أهلك الله أمة من الأمم البائدة بسنةٍ عامة أو بصيحة أو بحصباء أو بغرق إلا بعد أن ارتكبت جرائم لا جريمة واحدة. لا يهلك الله قوماً بعد أن هداهم إلا بإجرام، ولكن الله كرماً منه وتمييزاً لنا عن غيرنا أبى أن يجعل عقابنا يتجلى في تسليط أمةٍ من الأمم الضالة التائهة الملحدة على هذه الأمة؛ بحيث يُهلكها ذلك العدو أجمع.

إذا ما ارتكبت هذه الأمة موجب الهلاك، إذا ما ارتكبت الجرائم التي كان يرتكبها الآخرون، فإن الله عز وجل يجعل عقابها أن يتسلط بعضها على بعض. متى كان الله يسلط بعضٌ من هذه الأمة على بعض بدون جريرة؟ كيف كيف هذا؟ أتتصورون أن أهل اليمن يتقاتلون بهذا الشكل الضاري، وأن المسلمين في أفغانستان يتقاتلون بهذا الشكل المُهلك، وأن الآخرين هنا وهناك يفعلون ذلك كله لأن الله أحب لهم أن ينتقلوا من الأمن إلى البأس؟ من الذي يقول هذا الكلام؟ لا والله، ليس من شأن الله ولا من عادته أن ينقل أمة من مهيع الطمأنينة إلى ساعة بأسٍ وشدة إلا أنها ارتكبت ثم ارتكبت ثم ارتكبت ما يغضب الله سبحانه وتعالى.

وانظروا إلى عوامل هذا التهارج تستبينون منها الجريمة نفسها، فالجريمة متفاعلة مع العقاب، هؤلاء الذين يتقاتلون، أفكانوا يتقاتلون لو أن خشية الله كانت قد هيمنت على قلوبهم!؟ أفكانوا يتقاتلون لو أن الدين الإسلامي كان هو المنهج الذي يسلكونه وبايعوا الله عليه؟! وانظروا إلى العوامل وانظروا إلى الأصابع الدخيلة تعرفون الجواب عن هذا الكلام.

وما أقوله عن هذا المثل أقوله عن أمثلة أخرى، ولا تغرنكم كلمات كانت تقال عن روائح مسكٍ وغير ذلك وغير ذلك فيما يتعلق بجهاد الأفغانيين ضد العدو المداهم. لكن انظروا إلى ما يجري اليوم. الكل مسلمون، ولكن لا يمكن لمسلمَين أن يتقابلا فيتقاتلا، ورسول الله قال هذا الكلام إلا لأن زغلاً خطيراً قد فاضت به قلوبهم من قبل، هذا الزغل فعل فعله، هذا الزغل جعل النفوس هي التي تتسامى لنيل حظوظها، هذا الزغل هو الذي دفعهم إلى الجناية التي سببت لهم هذا العقاب، ولا يمكن لمسلمين أن يقاتل بعضهم بعضاً وهم مسلمون تحت أية مظلة من المظلات، وتحت أي اسمٍ من الأسماء، إلا لأن غضباً من الله سبحانه وتعالى قد حاق بهم، وعندما ينحسر هذا الغضب ستجد دلائل ذلك.

دلائل ذلك أن يعود الأخ فيعانق أخاه، وأن يعود كلٌ منهم إلى القاسم المشترك ألا وهو شهادة أن لا إله إلا الله، ألا وهو اتجاه الجميع إلى قبلة الله سبحانه وتعالى، حسبكم بهذا حصانةً للدماء، حسبكم بهذا نسيج ودٍ وحبٍ يتلاقى سداه ولحمته بين الناس. أنا إن أردت أن ألتقط عوامل الخلاف بيني وبين إخوتي لأجعل من ذلك حجة لمقاتلتهم فما أكثر ما أجد، كثيرة هي مظاهر الخلاف إن أردت أن أحتج بها، ولكن هل أعطاني الشارع الإذن في أن ألتقط أسباب الخلاف فأجعلها حجةً لأدير بها رحى الهلاك على إخواني المسلمين. من الذي قال هذا؟

ينبغي أن أنجذب إلى القاسم المشترك ألا وهو الجزع، ولا يجوز أبداً لكي أقاتل ولكي أصدّع وحدة الأمة أن ألتقط موجبات هذا التصديع، وتلك هي الجريمة الكبرى التي يقع فيها المسلمون اليوم.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم فاستغفروه.

تحميل



تشغيل

صوتي