مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 29/04/1994

الآفة الكبرى

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

إن المسلمين اليوم يعانون من آفاتٍ كثيرة تتسرب إلى كياناتهم وتتحكم في وجودهم بل في كثيرٍ من تصرفاتهم وأفكارهم، والحديث عن هذه الآفات وأنواعها طويل، ولكن بوسعنا أن نعلم أن هذه الآفات التي تستشري في كيان الأمة الإسلامية اليوم تلتقي على آفة واحدة هي منها بمثابة الجذع من الأغصان الكثيرة، هذه الآفة الكبرى هي: الجهل بدين الله سبحانه وتعالى. وبتعبيرٍ آخر هي: القفز إلى التعامل مع الإسلام قبل التفهم لحقيقة الإسلام وقبل التفقه الراشد بعلومه وحقائقه، ولو أن المسلمين لا سيما العاملون منهم في حقول الإسلام والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى عكفوا بادئ ذي بدء على دراسة الإسلام من ينابيعه، وعلى التدقيق في مفاهيمه، والفقه بأحكامه والوقوف على الفوارق الظاهرة بين المتشابه الذي يلتبس على كثيرٍ من الناس اليوم؛ أنواعه وأشكاله، إذاً لحصّنوا أنفسهم ضد كل هذه الآفات المتفرعة الأخرى.

والحديث عن مظاهر هذه الجهالة حديثٌ طويل ولا تفي به دقائق في مقامٍ كهذا المقام، ولكني أضعكم من ذلك اليوم أمام نماذج لعلها تبين لنا خطورة هذه الآفة التي نعاني منها، والتي قلما نتنبه إليها:

هنالك كثير من الأمور التي تشتبه على الجاهل، ولا يمكن أن تلتبس على العالم، يتيه فيها كثير من المسلمين اليوم، لا بل كثيرٌ من الذين يتحركون في نطاق الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، هنالك من يلتبس عليه الاعتزاز الذي أمر الله سبحانه وتعالى به مع الاستكبار الذي نهى الله سبحانه وتعالى عنه، وعندما يلتبس عليه هذا الأمر بذاك يختلط عليه السبيلان وينحط، آناً في هذا الطريق وآناً في هذا الطريق، دون أن يتبين النتائج الوبيلة التي تفد إليه من جراء هذا الالتباس.

هنالك أناس كثيرون يلتبس عليهم ما سماه الفقهاء بدار الكفر أو الأمان أو العهد ولها أحكام فقهية كثيرة بما يسميه الفقهاء بدار الحق، ولها أحكامٌ أخرى فقهية كثيرة، ما أكثر الذين يلتبس عليهم هذا بذاك، وينحطون من جراء هذا الالتباس في سبل متشابهةٍ يخلطون من جراء ذلك بين الجائز والمحرم من أحكام الله سبحانه وتعالى.

هنالك كثيرٌ وكثير من المسلمين يلتبس عليهم معنى الجهاد الذي أمر الله سبحانه وتعالى به في سبيل إعلاء كلمة الله عز وجل بمعنى الثأر الذي نهى الله سبحانه وتعالى عنه وأبطله كعادةٍ آىسنة من عادات الجاهلية التي نسخها الإسلام، فينحطون في طرق الثأر إنتصاراً للنفس وذاتيتها وهم يتصورون أنهم يسيرون في طريق الجهاد إلى الله سبحانه وتعالى.

هنالك من يلتبس عليهم سبيل القيام بالحقائق الإسلامية التي شرفنا الله عز وجل وكلفنا بها، والدعوة إلى دين الله سبحانه وتعالى هدايةً وتعريفاً بما يسمى اليوم بالسير إلى إقامة المجتمع الإسلامي، وما أكثر الفرق الكبير بين هذا وذاك.

هنالك من يلتبس عليهم العكوف على تعلم الفقه الإسلامي وحقائق دين الله سبحانه وتعالى من ينابيع العلم التي تتمثل في كتاب الله وفي سنة رسول الله وإجماع أئمة هذه الأمة، بما يسمى اليوم الفكر الإسلامي.

هذه نماذج يسيرة من كثير وكثير .. تصوروا مسلمين يتحركون في ساحة العمل الإسلامي أياً كان نوعه وأياً كان مظهره، كيف تكون الثمرة والنتيجة عندما يسيرون من هذه الحقائق المتشابهة في طرقٍ متداخلة وقد التبس عليهم في نطاق ذلك الحلال بالحرام والجائز بالممنوع والمطلوب بالمُحَرم كيف تكون النتيجة؟

والوقت يضيق عن أن أبين لكم الفرق بين هذا وذاك، ولكن لا بد أن أضرب أمثلة، ولا بد أن أضعكم من هذا أمام شواهد:

لقد ربى الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين على أن يكونوا أعزةً بإيمانهم، ولكنه حذرهم من أن يكونوا مستكبرين بأنفسهم. فهل عرف المسلمون اليوم الفرق بين ما طلب وبين ما نهى عنه؟ ينبغي أن أحرص دائماً على أن أكون عزيزاً بالإيمان الذي شرفني الله به. فما معنى ذلك؟ معنى ذلك أن الله كلفني بأن أسلك مع الآخرين سبيلاً لا يُهان الإسلام والدين من خلال شخصي، ينبغي أن لا أُمكن الناس من أن يُهينوا دين الله عز وجل من خلال الإهانة التي قد تتجه لذاتي. تلك هي العزة التي أمرنا الله عزوجل أن نمارسها، وذلك معنىً من معاني قوله عز وجل: "ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً". وهذا معنىً من معاني قوله تعالى: "ولله العزةُ ولرسوله وللمؤمنين".

أما الاستكبار فهو أن أحاذر أن تنخدش ذاتيتي الشخصية من خلال الاهتمام بذاتي، ورُب إنسانٍ مستكبر يجعل من الإسلام ضحية في سبيل أن تبقى ذاتيته شامخةً أمام الناس، يجعل من الإسلام مطية بل يجعل منه منديلاً ليقي بهذا المنديل سمو ذاته وكبرياء نفسه، تلك هي الكبرياء المحرمة.

أما العزة التي طلبها الله سبحانه وتعالى منا، فهي أن أنظر فإذا وجدت أن هنالك من يريد أن يستهين بالإسلام من خلال مظهري الإسلامي، أو أن يستهين بشيءٍ من شعائره من خلال وجودي الديني، فينبغي أن أتحول إلى إنسانٍ آخر قد يبدو ويظهر أمام كثيرٍ من الناس بأنه إنسان كبرياء، ولكن الله يرى ما استكن في القلوب، ويرى ما قد خفي في السرائر، هنا تكمن العزة التي أمرنا الله عز وجل بها، وكم في حياة المسلمين من مظاهر تقينا من هذا الالتباس لو درسنا ولو تعلمنا ولو رُبينا في ظلال التربية الربانية التي أعرضنا أيما إعراض اليوم عنها.

نحن كثيراً ما نفتي الفتاوى الباطلة من خلال التباسات كثيرة قد استقرت في أذهاننا بين كلمة الكفر أو دار الكفر ودار الحق، ما أكثر ما أسمع الفتاوى التي تقول على ألسن كثير من هؤلاء الناس التائهين، إن الشريعة الإسلامية تبيح التعامل بالربا في دار الكفر، فليس على المسلم من حرج إذا وجد نفسه خارج دائرة الإسلام بين أناس غير مؤمنين بالله عز وجل أن يتعامل معهم بالربا، وأن يأخذ الفوائد الربوية ويأكلها هنيئاً مريئاً، ولم يقل أحد من الفقهاء هذا، وإنما قال فريقٌ من الفقهاء أنه إذا دخل الإنسان دار حرب، دار حرب لا دار كفرٍ تدخل في دار المعاهدة أو الأمان، دار حربٍ أعلن عليها إمام المسلمين أو أئمة المسلمين جميعاً الحرب. قال فريق من الفقهاء: لا حرج إذا دخل دار الحرب أن يقامر هؤلاء الحربيين بشرط أن يستيقين أنه هو الذي سيربح ولم يخسر هذا رأي، وقد قيس عليه من قبل البعض أكل الربا. أمام دار الأمان أما دار العهد وهي الدار التي ينطبق عليها واقع هذه البلاد الغربية المختلفة، فما قال أحدٌ من الفقهاء أبداً بأن للإنسان إذا دخلها أن يأكل الربا فيها. إذاً ينبغي أن يقولوا أيضاً لو أن ينهب ويسلب لأن أحكام الحرب واحدة، فكما يجوز أن يقتنص أموالهم باسم القمار أو الربا لأنهم حربيون، يجوز أن يقتنص أموالهم أيضاً نهباً وسلباً لأنهم حربيون. إذاً ينبغي أن يقال لنا أن ننهب أموال هذه الدول كلها، وليت شعري أي معنىً سيؤخذ عن الإسلام، وأي صورة سيئة ستستقر في أذهان هؤلاء الناس في عصرٍ هم أحوج ما يكونون فيه إلى تجسيد الإسلام بحقائقه الجاذبة المحبوبة.

ما أكثر ما أسمع كلمات الفكر الإسلامي والفكر الإسلامي، وما أكثر ما تصدره المكتبات من الكتب التي تتحدث عن ما يسمى الفكر الإسلامي، وأعود بذهني إلى ما قبل قرن أو قرن ونصف من الزمن فلا أجدُ من المسلمين يتعامل مع ما يسمى الفكر الإسلامي، كانوا يتعاملون مع ما يسمى علوم الإسلام عقائد الإسلام الفقه الإسلامي الشرائع الإسلامية، أما اليوم فقد تقلصت هذه الكلمات وحلت محلها كلمة الفكر الإسلامي، ولكن المصيبة الأدهى أن جُل المثقفين الإسلاميين لا يعلمون الفرق بين كلمة الفكر الإسلامي والفقه الإسلامي، ولو أن أحدهم أخذ كتاباً عنون بكلمة الفكر الإسلامي لظن نفسه قد وقع على كامل الإسلام وحقائقه، وتلك مصيبة ما مثلها مصيبة.

قلت بالأمس وأكرر اليوم: إن الفكر الإسلامي شيءٌ ينبع من ذات الإنسان من كيانه ودماغه، ولكل منا فكره الخاص به، أما عقائد الإسلام حقائقه شرائعه فإنما تفد من وحي الله إلينا حقائق الإسلام، تفد إلينا من وحي الله لتضبطنا ولتجمعنا على صراط واحد، أما ما يسمى الفكر الإسلامي فهي تصورات ضبابية شتى، وأخيلة متنوعة متعارضة، بل كثيراً منها متناقضة؛ ذلك لأنها تنبع من دخائل أنفسنا وإنما لها وظيفة واحدة في حياتنا، هي شَرذمة الوحدة وتضييع الكتلة، وتصديع الإرادة الواحدة، وتحويلها إلى شظايا من الإرادات المتنوعة المتخاصمة، ولا أحد يتصور خطورة ما يسمى اليوم بالفكر الإسلامي، ولا أحد يفكر ليقول: من أين تسربت هذه الكلمة إلينا؟

أول من استعملها أيها الأخوة، ارجعوا إلى مكتبات هذه البلاد العربية والإسلامية، هم اليساريون هم الملحدون، هم الذين كتبوا بأقلامٍ ناقدة، هم الذين كتبوا بأقلامٍ مسمومة، سموا كتاباتهم الفكر الإسلامي وجاء المسلمون المغفلون السُذَج فأعجبوا بهذه الكلمة، وأمسكوا بها وأخذوا يجعلون منها ديدناً لهم فيما يقولون وفيما يتناقشون به وفيما يكتبون، وتناسَ القوم الفقه الإسلامي، ومن خلال هذا التناسي تقع هذه الخصومات، ويقع هذا اللجج، بل كثيراً ما أجد من يدلي بقرارات ضخمة كبيرة باسم الإسلام، وإذا هو ينزع من فكره، وإذا هو ينزع إلى ذلك من أخيلته وتصوراته، ولماذا لا يفعل وقد آل الإسلام إلى مضمون أفكار، وكلٌ منا له فكره، إذاً فكل منا له إسلامه.

أتلاحظون أيها الأخوة كيف أن سائر الآفات المتفرعة المتنوعة التي لا مجال للحديث عنها قد شُقت وتفرعت من هذه الآفة الكبرى، آفة الجهل بدين الله سبحانه وتعالى؛ تلك الآفة التي جعلتنا نتيه بين أمور متخالفة في الحقيقة ولكنها متشابهة في الألفاظ والكلمات اللغوية.

ضربت أمثلة كثيرة ويسيرةً جداً لنماذج كثيرة وكثيرة جداً، وحسبنا أن نتبين في هذا الموقع هذه المصائب التي نعاني منها، فإننا إذا أردنا أننا نعاني من هذه المصائب نجتاز بذلك ربما نصف الطريق إلى حلها كما قالوا.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم .

تحميل



تشغيل

صوتي