مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 22/04/1994

(فويلٌ للقاسية قلوبهم)

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

إن في الناس المسلمين اليوم من قد أعرضوا عن الكثير من لباب الاسلام وجوهره وحقائقه، ثم لحقوا بالكثير من مظاهره ومتمماته وثمراته، وهؤلاء الذين نسوا أو تناسوا متجاوزين لباب الإسلام وحقائقه إلى الكثير من ثماره ونتائجه وآثاره ومكملاته، قد وقعوا من ذلك في مغبة بلاء كبير، وما أظن أن حالهم سيصلح إلا إن رجعوا فعرفوا الإسلام بدءً من جوهره ونهايةً عند محسّناته وآثاره ومكملاته، فتمسكوا منه بالجوهر واصطبغوا منه باللباب، ثم انتقلوا بعد ذلك ليتفاعلوا مع الآثار والنتائج والثمرات.

إن الإسلام الذي ابتعث الله به الرسل والأنبياء جميعاً، ثم ختمهم بخاتم الرسل والأنبياء سيدنا محمدٍ عليه الصلاة والسلام، إنما يتمثل في حقيقة كبرى هي العبودية لله سبحانه وتعالى؛ ولا تتجلى العبودية لله عز وجل إلا في يقين يهيمن على العقل، وفي تأثرٍ يصطبغ به الوجدان. وتأثر الوجدان بحقائق العبودية لله عز وجل إنما يتجلى في التبتل والتذلل للمولى والخالق الأوحد سبحانه وتعالى، وهيهات أن يتحقق التبتل اصطناعاً .. وهيهات أن يتحقق التذلل والانكسار لله سبحانه وتعالى تكلفاً، وإنما معين ذلك خشية القلب والرقة التي تنتاب الفؤاد عند ذكر الله سبحانه وتعالى؛ أي عند تذكر صفات الخالق سبحانه وتعالى، عند تذكر صفات جبروته، عند تذكر صفات كبريائه، عند تذكر صفات كرمه وعطائه، عندما يقف الإنسان من آي الكتاب المبين على تلك المشاهد التي تبرز سطوة الله سبحانه وتعالى وكبريائه وقدرته التي لا تحد، وقبضته التي تقع الكائنات كلها في داخلها، هيهات أن يتحقق التبتل الذي يأمر به الله عز وجل، والذي هو جزءٌ لا يتجزأ من العبودية التي هي جوهر الإسلام، هيهات أن يتحقق التبتل تكلفاً وتظاهراً واصطناعاً، إنما يتحقق ذلك بواسطة معينه الطبيعي، والمعين الطبيعي لذلك إنما هو خشية الفؤاد ورقة القلب أمام تذكر المولى سبحانه وتعالى. فأين هم الذين يصطبغون بهذه العبودية تبتلاً وتضرعاً؟ أين هم الذين يصطبغون بهذا التبتل رقة وخشية تنتاب الفؤاد وتأخذ بمجامع النفس؟

إنني أنظر فأرى الكثرة الكاثرة من المسلمين ينتشون للكلمات الحماسية النيرانية التي يصغون إليها، ويعرضون ولا يتفاعلون قط مع تلك المشاهد الأخّاذة في كتاب الله سبحانه وتعالى، أو مع ذكر الله سبحانه وتعالى الذي ينبغي أن يأخذ بالألباب، ويهيمن على مجامع النفوس. كم رأيت وأرى أناساً يبحثون عن أماكن الطرب والنشوة عندما يصغون إلى ما يبعث في كيانهم الحماسة. الحماسة لأمر ما، الحماسة للتوجه إلى شيءٍ ما، حتى إذا ذكّر هؤلاء الناس بالله عز وجل، وذكروا بالكثير من صفاته وآلائه ومظاهر سطوته وجبروته، رأيتهم أعرضوا وتشاغلوا أو ذهلوا عن هذا كله. وأعود لأتسائل: أهذا هو الإسلام؟ أهؤلاء مسلمون عندما يركنون إلى أثر من آثار الإسلام ثم يعرضون عن جوهر الإسلام ولبابه؟!

وكيف أتصور أنني مسلم قد طبق ما قد أمر الله عز وجل به من لباب الإسلام وجوهره، ولا أعلم للتبتل معنى في حياتي وقد قال الله عز وجل: "واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلاً"، بل كيف أكون مسلماً كما أمر الله وكما وصف الإسلام، وإن التبتل لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال رقة قلب، وأعود إلى قلبي فأجده كصخر قد قدّ من جبل، وأنظر وأصغي إلى ما يتلى من كتاب الله عز وجل فأجدني أتشاغل عنه إن بالفكر أو بالقول، والعجب العجاب أني أتشاغل عن هذه الآيات التي تذيب الحشاشة والفؤاد بالكثير من حديث الإسلام، أتشاغل عن هذه المشاهد الأخاذة بالحوار حول ما ينبغي أن نفعل للإسلام. أليس من أكبر الأخطار المحدقة بنا أن يؤول إسلامنا إلى هذا المآل؟ ثم كيف يكون الحال وكيف ينبغي أن ننظر إلى أنفسنا وفي أي ميزان ينبغي أن نضع أنفسنا عندما نقف أمام قول الله عز وجل وهو يخاطب بني إسرائيل بل ثلة كبيرة من بني إسرائيل قائلاً: - وهو يحدثهم عن أكبر جريمة وقعوا فيها وأكبر سوء مصير اندلقوا إليه - يقول لهم الله عز وجل: "ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون"

كيف أضع نفسي في ميزان الإسلام وأنا أعود إلى قلبي فأجده نظراً إلى هذا الذي يصفه الله عز وجل يعجبني من الإسلام الحديث الذي يبعث على الحماسة، ولا يعجبني منه ما يدعو إلى التبتل ويذيب القلب انكساراً لله عز وجل؟ كيف أعد نفسي مسلماً وهذه هي حالي؟ وأنا أصف من نفسي نموذجاً أيها الأخوة، ولسوء الحظ هذا النموذج كثير وكثير وكثير.

بل إنني وقفت أمام هذه الفقرة من آية في كتاب الله سبحانه وتعالى وكأني لم أقرأها من قبل، وعدت لأسأل نفسي: أين أقع أنا من هذا الذي يقوله الله سبحانه وتعالى؟ "فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله". لم أقرأ في كتاب الله عز وجل آية يبعث فيها الله ويرسل الويل إلى فئة من العصاة ولا إلى فئة من الجانحين ولا إلى التائهين أو الضآلين، لكني رأيت هذا الويل تبعثه آيات في كتاب الله عز وجل بل هذه الفقرة من كتاب الله عز وجل على أولئك الذين مرضوا بقسوة القلب، فويل للقاسية قلوبهم.

كيف أستطيع أن أتحرز عن هذا الويل الذي يتمطر من قبل الله عز وجل على كثير من المسلمين القاسية قلوبهم؟ كثير منهم مسلمون. وما أكثر ما ترى مسلماً يتفلسف بلسانٍ إسلامي أخاذ، ويعاني من قلب كالصخر؛ يذكر بالله فلا يندى له عين .. يذكر بعذاب الله عز وجل فلا يهتز منه جانب من فؤاد .. ولكنك إن حدثته عن الأمور الأخرى عن الأنظمة عن الأمور الحركية وجدته اهتاج ووجدته قام وثار وقعد، ووجدته تفاعل معك تفاعلاً كبيراً. ولكن ردد معه تلك الآية التي انخلع لها لب فضيل بن عياض في يوم من الأيام تجده لا يتحرك أمامها قط: "ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمل فقست قلوبهم".

أنا أصف واقعاً أليماً كلكم يعلمه، وكلكم يشاهده، وعليكم أن تتبينوا خطورة ما نحن فيه وخطورة ما نحن آيلون إليه من ذلك، فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله لا يمكن للمؤمن إذا ذكر الله إلا أن يتفجّر فؤاده رقة وخشيةً لله عز وجل.

اجعل من هذا مقياساً لصدق إسلامك وإيمانك، فإذا رأيت نفسك تعاني من قسوة قلب فاعلم أنك مريض بمرض خطير، وأسرع قبل نفاذ الأجل، وقبل ذهاب الفرصة، أسرع لتدارك نفسك بعلاج، كما يقول الإمام الغزالي وكثير من الربانيين.

أيها الإخوة:

إن إسلامنا ينطلق من هذا التبتل الذي ينطلق من رقة القلب هذه، ينطلق من خشية الفؤاد، ولم يقل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عبثاً ولا مبالغاً فيما رواه الترمذي وحسّنه وصححه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يلج النار رجل بكى من خشية الله، حتى يعود اللبن في الضرع) بكاءً حقيقياً لا تصنع فيه ولا تكلف ولا نفاق ولا رياء بكى من خشية الله عز وجل لن يدخل النار قط إلا إذا أمكن أن يعود اللبن بعد ما استحلب إلى الضرع الذي أُخرج منه - وهو لا يمكن - ليس في هذا من مبالغة.

ولعل في الناس من يعجب أو لا يصدق أو ربما يغص بالانتقاد على هذا الكلام فيقول: أمعقول أن يمر مسلم في حالة تنتابه فيها خشية فبكاء من خشية الله، ثم يأخذ من ذلك وحده براءة من النار مهما فعل ومهما عصى ومهما ارتكب من موبقات؟ أيعقل هذا؟ نعم .. يعقل هذا ولكن لا كما تفهم أنت يا من ابتلاه الله بقسوة القلب.

إن ما قد عناه سيدنا رسول الله من هذا، أن الفؤاد الذي يتمتع برقة قلب دفعت صاحبها إلى البكاء من خشية الله عز وجل، هذا الفؤاد سيقف سدّاً منيعاً بين صاحبه وبين ارتكاب الضلالات والانحرافات، قلب رقيق أُخذ وذاب من خشية الله سبحانه وتعالى قد يعود إلى شأنه، ولكنه إذا رأى أن صاحبه اندلق في المعصية تذكر سخط الله على المعصية والعاصي، فعاد هذا الفؤاد الرقيق إلى هيجانه إلى رقته إلى خشيته، وحمل ذاك صاحبه إلى أن يندم فيستغفر فيتوب إلى الله، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.

رقة القلب خشية الفؤاد ضمانة - وأي ضمانة - لأن لا ينحرف الإنسان عن صراط الله، لا لأن يكون معصوماً أي ضمانة وأية ضمانة لعودته إلى صراط الله كل ما انزلق لرجوعه إلى الله كل ما تاه وابتعد، ذلك لأن خشية فؤاده تثير المخاوف واللواعج بين جنبيه، ومن ثمّ فهو يندفع آناً لا مآلاً إلى التوبة النصوح الصادقة مع الله سبحانه وتعالى، قلب أكرمه الله سبحانه وتعالى بالخشية سيقف في طريق صاحبه عندما يريد أن يسير إلى معصية. فإن غالب صاحب المعصية قلبه وقفز فوقه واجتاح ليذهب فيرتكب تلك المعصية فإن هذا القلب سرعان ما يتحول إلى بركان يتفجر ألماً وندماً، وهذه هي العبودية الصادقة لله.

ولكن حدثني عن مآل إنسان ابتلي بقسوة القلب. ماذا عسى أن تفيده الركعات وركعاته مفصولة عن بكاء قلبه؟ حدثني عن إنسانٍ ابتلي بقسوة القلب ماذا عسى أن تفيده تلاوة لآيات من كتاب الله أو إصغاء إلى بعض من هذه الآيات وإن خاطره سائح ومنتشر في أفكار وأمور أخرى؟ سواء كانت إسلامية أو غير إسلامية. لا يتذكر من هذا الذي يسمع شيئاً من صفات الله ولا يسري شيء من هذه الصفات إلى طوايا قلبه وحنايا فؤاده بشكل من الأشكال؟

حدثني عن إسلام هذا الإنسان الذي ابتلي بقسوة القلب ... كيف يمكن أن يحصن نفسه ضد الحقد الذي شاء الله عز وجل أن يصنفه في أسوأ أنواع المعاصي والآثام؟ حدثني عن من ابتلي بقسوة القلب.. كيف يمكن أن يحصن نفسه عن حب الدنيا وشهواتها وملاذها وحب الشهرة والرئاسة ونحو ذلك؟ حدثني عن من ابتلي بقسوة القلب .. كيف يمكن أن يؤثر أخاه المؤمن بدلاً من أن يستأثر؟ كيف يمكن أن لا ينافسه على مغنم؟ كيف يمكن على أن لا ينافسه على نهاية يزاحمه عليها؟ كيف يمكن أن لا يضع العصي في طريق مصالح إخوانه اعتداداً منه بأنانيته وذاته؟

ألا تعلمون أن في المسلمين كثيرين ممن هم مسلمون وممن هم مصطبغون بظواهر الإسلام، ولكنهم مندلقون إلى هذا وأكثر من هذا، وألسنتهم تتحدث عن الإسلام ونظامه، ولكن المصيبة أنهم يعانون من مرض خبيث، لا ينحط ولا يتوضّع في حنايا الجسد ولكنه يتركز في الروح والفؤاد، ألا وهي قسوة القلب. وأسأل الله عز وجل أن لا يجعلنا ممن قال الله عز وجل عنهم: "فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله"

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي