مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 18/03/1994

طغيان تحاشاه الإنسان صغيراً ووقع به كبيراً

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

عندما لا يتمتع الإنسان المسلم بالضروري من العلوم الإسلامية المتعلقة بالعقائد والأحكام المختلفة، فإن كثيراً من نصوص كتاب الله عز وجل أو من نصوص السنة النبوية تكون سبباً لفتنته وضلاله عن صراط الله سبحانه وتعالى، وهذا دليل من الأدلة الباهرة على أن الإنسان المسلم الذي يريد أن يمارس إسلامه كما أمر الله سبحانه وتعالى لا بد له في ذلك من الإعتماد على العلم، ولا يغني عن العلم أي شيء آخر. وما أخطر بل ما أسوأ العاطفة الإسلامية عندما تسيح في أودية مطلقة لا يحدّها شيء من ضوابط العلم.

كنت أتحدث في مجلس عن الحديث الذي اتفق عليه الشيخان من رواية عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى أسرى قدمت عليه بعد غزوة من الغزوات، ورأى بين الأسرى إمرأة تبحث متلهفة عن شيء، فوقعت على طفل صغير فأمسكته وألصقته بصدرها وأخذت ترضعه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (أترون إلى هذه المرأة .. أملقية وليدها في النار؟) قال الصحابة: لا والله يا رسول الله. فقال عليه الصلاة والسلام: (لله أشد رحمة بعباده من هذه بوليدها). فقال أحد الجالسين: هذا دليل قاطع على أنه لن توجد هنالك نار يوم القيامة، ولن يوجد هنالك عذاب يصطلي به أحد من الناس كما يقال. وتذكرت عندما قال هذا الانسان هذا الكلام الفتنة التي زج فيها كثير من التائهين والضآلين والمارقين، عندما فقدوا العدة الكافية من العلم بعقائد الإسلام وبنصوص القرآن وبدلائل السنة النبوية، فكان من آثار ذلك أن أصبحت هذه النصوص من مثل هذه الأحاديث فتنة لهم؛ أضلتهم بدلاً من أن تهديهم، وأبعدتهم عن الإنضباط بأوامر الله بدلاً من أن تضبطهم بهذه القيود. قلت له: عندما يصبح الناس جميعاً في علاقتهم بالله عز وجل كعلاقة هذا الطفل بأمه، فلا شك أن النار تنعدم عندئذٍ، فهل الأمر كذلك؟

ما من طفل من الأطفال صغير، مهما أخطأ ومهما عبث وعثى وأعرض عن نصائح أمه، إلا وهو يلجأ إلى أمه عند أي خطر، ويتشبث بأذيالها بذلٍّ وصغَار عندما يرى أي ضرر يطوف به أو يقدم عليه. فهل الناس جميعاً - العصاة منهم والطائعون والمؤمنون والجاحدون - مهما أخطأوا ومهما انحرفوا يقبلون إلى الله سبحانه وتعالى عند الحاجة تائبين لائذين يتضائلون ويتبتلون ويلجؤون إلى رحمته كما يلجأ الطفل أياً كان إلى أمه عند الخطر، لو كان الناس جميعاً هكذا لكانت رحمة الله عز وجل بهم جميعاً كرحمة هذه الأم بهذا الوليد، ولكن الأولاد جميعاً مهما كانت شؤنهم ومهما كانت أوضاعهم يخطئون وينحرفون ويعبثون ويعثون، ولكنهم يعلمون أن لا ملجأ لأي منهم إلا إلى أمه، طالما كان طفلاً صغيراً.

أما الناس فصنفان اثنان ..

صنف عرَف ربه كما عرف هذا الطفل أمه، وعرف أن لا ملجأ له من الله إلا إليه، تماماً كهؤلاء الأطفال، قد يخطؤون وقد يرتكبون المعاصي، ولكن عندما يصحو أحدهم من سُكر معصيته وإثمه يعود ملتفتاً إلى الله يجأر إليه بالإنابة والتوبة ويسأله الصفح والمغفرة، وقد يعود إلى المعصية ويعود ويعود كما يعود الطفل إلى شقاوته وإلى أخطائه وانحرافه لكنه يظل مشدوداً إلى أمه دائماً. هذا الصنف من الناس هو الذي يصدق عليه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الصنف هو الذي يشبه الوليد بالنسبة لأمه وهو الذي شبّه رسول الله صلى الله عليه وسلم ربنا - وله المثل الأعلى - بأم هذا الطفل.

أما الصنف الثاني من الناس: فهم بالإضافة إلى أنهم ممعنون في الأخطاء ممعنون في ارتكاب الآثام؛ مستكبرون على الله عز وجل يعبّرون عن استكبارهم هذا إما بإنكاره وجحوده والسخرية ممن يتحدث عنه وعن وجوده، وإما أنهم يعبّرون عن استكبارهم على الله عز وجل بعدم حاجتهم إليه، وأنهم في غناً عن أن يلوذوا به فضلاً عن أن يطيعوه، فالعلم أغناهم، والقوة حررتهم، والغنى أبعدهم عن الحاجة إلى الله سبحانه وتعالى. هؤلاء إن عصوا الله عز وجل وملئوا طباق الأرض معصية وآثاماً لا يشعرون بأي خطر يدعوهم إلى أن يلتفتوا عائدين إلى الله، فضلاً عن أن يتشبثوا بأذيال رحمة الله سبحانه وتعالى.

النار التي يتحدث عنها بيان الله عز وجل إنما هيئت لهذا الصنف من الناس. هذا الصنف من الناس، تحدث عنه بيان الله عز وجل، ولو أننا فهمنا اسلامنا بمقاييس العلم، ولو أننا عكفنا على مبادئ العلم التي توصلنا إلى عقائد الإسلام لما استشكلنا شيئاً، ولما كانت نصوص تدل على رحمة الله من كتاب الله أو من حديث رسول الله فتنة لنا قط.

نعم ... ألم يقل الله عز وجل "إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين" هذا هو قرار الله عز وجل، ولكن انظروا ببصيرة العلم. إن الله لم يقل: إن الذين انحرفوا عن عبادتي. لم يقل إن الذين غرقوا في بحار الآثام والعصيان. لم يقل شيئاً من هذا. وإنما قال: (إن الذين استكبروا عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين).

فالجريمة ليست جريمة معصية ارتكبت، وإنما الجريمة جريمة استكبار على الله هيمن على الكيان والقلب. والاستكبار على الله شيء، وولوغ الانسان في المعاصي شيء آخر، أما المعاصي فقد أعلن الله عز وجل مراراً وتكراراً في كتابه أنه يغفرها، وأكد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك. وقال الله في الحديث القدسي الصحيح: (يا ابن آدم لو جئتني بقراب الأرض خطايا لجئتك بقرابها مغفرة). فالمعاصي ليست مشكلة، ولكن المشكلة هي أن يندفع الإنسان إلى معاصيه بسائق من كبره، بسائق من صلفه وعناده، بسائق من تجبره - وهو عبد ذليل - على الله - وهو الرب الجليل.

هذه الكبرياء هل رأيتم في الأطفال الصغار نموذجاً لها؟! هل رأيتم في الأطفال الصغار الذين أودع الله في قلوب الأمهات هذه الرحمة بهم؟ هل رأيتم في هؤلاء الأطفال من ذهبوا في انحرافهم وفي أخطائهم وفي تمردهم على آبائهم وأمهاتهم هذا المذهب؟! لا ..

إذاً فالله سبحانه وتعالى - كما قال المصطفى عليه الصلاة والسلام - رحمته أكبر وأعظم من رحمة هذه الأم بوليدها - كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم. ولكن الحديث عن أم رؤوم مع ولد مفطور على ما فطر الله عز وجل عليه الأطفال الصغار جميعاً.

لم يتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طفل في عالم الخيال متكبر على الأبوين متجبر عليهما مهما طافت به المحن، ومهما رأى أنه أخطأ وارتكب الآثام، يتجبر ويتعالى على أبويه وهو طفل صغير ضعيف، وهما قد وظِّفا من قبل الله عز وجل بكل معاني الرأفة والرحمة له، ولو خلق الله طفلاً شاذ عن أترابه بهذا الشكل لرأيتم أن الله سبحانه وتعالى كيف يبعد الأبوين عن الرحمة بمثل هذا الطفل.

وأعود فأقول: إنها فتنة الجهل بدين الله سبحانه وتعالى هي التي أوجدت فقاقيع الاتجاهات والمذاهب والفرق التي قرأتم الكثير عنها في تاريخنا الاسلامي المجيد، ولو أن المسلمين عكفوا على دين الله عز وجل يدرسونه بواسطة العلم، ويعكفون على فهمه تحت أشعة المعرفة والبصيرة؛ بعيدين عن العاطفة الهوجاء إذاً لاجتمع أمر المسلمين ولما تفرق، ولما حق عليهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة. قالوا: ما هي؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي)

أقول قولي هذا وأستغفر الله.

تحميل



تشغيل

صوتي