مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 31/12/1993

أين هي رحمة الله بعباده؟!

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

يتساءَلُ كثيرٌ منَ النّاسِ في هذهِ الأيّامِ عن مصيرِ ومظهرِ رحمةِ اللهِ سبحانهُ وتعالى بعباده، ولعلَّ الكثيرَ منكم يشمُّ من تساؤلهم رائحةَ انتقادٍ أو معنىً من معاني التّعجُّبِ من أن يوصفَ اللهُ سبحانهُ وتعالى بالرّحمةِ المتناهيةِ التي لا حدَّ لها، ثمَّ تمرُّ هذهِ الفتراتُ الطّويلةُ من هذا الشّتاءِ دونَ أن نجدَ مظهراً لهذهِ الرّحمةِ الإلهيّةِ التي سمعنا عنها كثيراً وقرأنا عنها كثيراً، وإنّني لأعجبُ من تساؤلِ هؤلاءِ المتسائلين: يتساءلونَ ويبحثونَ عن مصيرِ رحمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ بعبادهِ متمثّلاً في الأمطارِ التي عوّدهمُ اللهُ عليها في كلِّ عام، ثمَّ لا يتساءلونَ عن مصيرِ تراحمِ النّاسِ بعضهم معَ بعض، وهو يعيشونَ في جوٍّ أو في محيطٍ لو التفتوا عن أيمانهم أو عن شمائلهم أو نظروا أمامهم أو انعطفوا ونظروا إلى ما وراءهم لوجدوا مجتمعاً تنكَّرَ أفرادهُ لمعنى الرّحمةِ إلّا القلّةِ التي رحمها اللهُ سبحانهُ وتعالى.

يتساءلونَ عن رحمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ لماذا اختفت في مظهرِ الأمطارِ التي عوّدهمُ اللهُ إيّاها ثمَّ لا يتساءلونَ عنِ الرّحمةِ التي علَّقَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ رحمةَ اللهِ بعبادهِ عليها فقالَ في الحديثِ المتَّفَقِ عليه: "من لا يَرحَم لا يُرحَم". هذا الوضعُ هوَ الذي يبعثُ على التّعجُّبِ وعلى التّساؤلِ بل على الاستنكار.

ولو أنَّ المسلمينَ كانوا في ظاهرهمُ العامِّ متعاطفينَ متراحمين، وكانتِ الجيوبُ الاستثنائيّةُ الشّاذّة قليلةً تظهرُ هنا وهنا، لما كانَ الأمرُ باعثاً على شيءٍ منَ الذّهولِ أو العَجب، ولكنَّ الواقعَ هوَ عكسُ هذا التّصوُّر، بلِ الواقعُ العامُّ الذي يراهُ كلٌّ منّا أينما نظرَ وكيفما التفتَ هوَ: تنكُّرُ النّاسِ بعضهم لبعضٍ على الرّغمِ من أنّهم يظهرونَ أو يتظاهرونَ بأنّهم مسلمون، ولا ترى مظهرَ التّراحمِ إلّا في جيوبٍ قليلةٍ جدّاً جدّاً هنا وهناك.

الأموالُ كثيرةٌ وكثيرةٌ جدّاً، ولكنَّ أصحابَ هذهِ الأموالِ قد وضعو السّدودَ بينهم وبينَ وصايا اللهِ سبحانهُ وتعالى، إذ أمرهم بالتّراحم، وأمرهم بالتّعاطف، وأمرهم أن يستخدموا المالَ للثّناءِ على اللهِ ولشكرهِ سبحانهُ وتعالى في مظهرِ التّراحمِ الذي كلًّفهمُ اللهُ عزَّ وجلَّ به. وظهرَ في مكانِ ذلكَ التّرفُ الذي لا حدَّ له، والبذخُ الذي أخرجَ أصحابهُ عن حدودِ العبوديّةِ الطّائعةِ للهِ عزَّ وجلَّ إل مستوى الطّغيانِ المستشري، ظهرَ في مكانِ ذلكَ الواقعُ الذي جعلَ من هؤلاءِ النّاسِ أشخاصاً يسكرونَ بالنّعمةِ التي أورثهمُ اللهُ عزَّ وجلَّ إيّاها، وينتفعونَ بهذهِ النّعمِ التي متّعهمُ اللهُ عزَّ وجلَّ بها إلى مستوىً خطيرٍ منَ الكبرِ والطّغيانِ والتّرف، وطالما صوَّرنا وذكرنا أمثلةً كثيرةً لهذا، فما العجبُ وقد ذكَّرنا رسولُ اللهِ بسنّةِ اللهِ في عبادهِ عندما قال: "من لا يَرحم لا يُرحَم". ما العجبُ من أن يتجلّى اللهُ عزَّ وجلَّ على عبادهِ بعدَ هذا بمظهرٍ من مظاهرِ التّأديب؟ ما العجبُ من أن يلوِّحَ أمامهم بسوطٍ من سياطِ التّأديبِ أو التّهذيبِ والتّربية؟ وتلكَ هيَ سنّةُ ربِّ العالمينَ في عباده. ومعَ ذلكَ فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يظلُّ هوَ الرّحمنَ الرّحيم، ويظلُّ هوَ المتكرِّمَ والمتفضِّلَ على عباده، وما قطعَ رفدَهُ عن عبادهِ إلّا تربيةً لهم وإيقاظاً لهم ودعوةً إلى أن يستقيموا بعدَ أن انحرفوا.

والعجبُ ممّن يتساءلُ عن رّحمةِ اللهِ ومصيرِها، كيفَ لا يرى مظاهرَ رحمةِ اللهِ وقد ملأَت رحبَ ما بينَ السّماءِ والأرض؟ ألا ترى رحمةَ اللهِ عزَّ وجلَّ في عنايتهِ بعافيتكَ وجسمك؟ ألا ترى رحمةَ اللهِ عزَّ وجلَّ بكَ إذ جعلَ لكَ الأرضَ من تحتِ قدميكَ مهاداً؟ وإن سخَّرَ لكَ رياحهُ الآتيةَ الذّاهبةَ الغاديةَ الرّائحةَ لتجدِّدَ حياتكَ في كلِّ لحظةٍ بل في كلِّ آنٍ إثرَ آن؟ ألا ترى مظاهرَ رحمةِ اللهِ سبحانهُ وتعالى فيما سخَّرهُ لكَ من مكنوناتِ هذهِ الدّنيا التي من حولك؟ ألا ترى مظهرَ رحمةِ اللهِ سبحانهُ وتعالى عليكَ أن لم يخسف بكَ الأرضَ ولم يأمرها أن تتزلزل؟ ولم يجعلِ الدّنيا التي من حولكَ مليئةً بالجراثمِ المهلكةِ وهوَ لو شاءَ لفعلَ هذا؟ فإذا أرادَ اللهُ أن يلوِّحَ أمامكَ بسوطٍ واحدٍ من سياطِ تهذيبهِ وتربيتهِ لتستيقظَ ولكي تلتفتَ إلى أوامرِ اللهِ عزَّ وجلَّ تأففت وتساءلتَ عن مصيرِ رحمةِ اللهِ عزَّ وجلّ؟!

أيُّها النّاس: لو عدنا إلى واقعِ حالِنا لرأينا أنفسَنا بعيدينَ كلَّ البعدِ عنِ الـمَثَلِ الذي ضربهُ رسولُ اللهِ بحالِ المؤمنينَ عندما قالَ في الحديثِ المتَّفقِ عليه: "مثلُ المؤمنينَ في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثلِ الجسدِ الواحدِ إذا اشتكى منهُ عضوٌ تداعى لهُ سائرُ الجسدِ بالسَّهَرِ والحمّى".

انظر إلى هذا الكلامِ ثمَّ عُد إلى واقعِ المسلمين، تجدُ أنّهم يسيرونَ على نقيضِ هذا الذي يقولهُ رسولُ الله، لا أنّهمُ انحرفوا عنهُ انحرافاً بسيطاً ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشّمال، لا، بل إنّهم يسيرونَ على نقيضِ هذا الذي أمرهمُ اللهُ عزَّ وجلّ به.

انظروا إلى المآدبِ التي تُمَدُّ في الاحتفالاتِ المتنوِّعةِ المختلفة، وانظروا إلى مصيرِ هذهِ الأطعمة، وتأمّلوا، انظروا إلى الذينَ يُقدِمونَ على تناولِ نعمةِ اللهِ سبحانهُ وتعالى، ولو شاءَ اللهُ عزَّ وجلَّ لأفقدهم هذهِ النِّعَم، انظر إليهم - أي إلى أكثرهم ولا عبرةَ للقلّة - تجد مظهرَ الطّغيانِ والاشمئزازِ والتّرفِ بادياً في تعاملهم مع نعمِ اللهِ سبحانهُ وتعالى، بالأمسِ قلتُ وذكَّرت: كيفَ يُقدمِ كثيرٌ من هؤلاءِ النّاسِ على الطّعام؟ يضعُ في طبقهِ أضعافَ ما يأكل، ثمَّ لا بدَّ أن يقومَ وفي طبقهِ منَ الطّعامِ ما يملأُ بطنَ جائعٍ منَ الجائعينَ الذينَ تفيضُ بهم هذهِ البلدة، ولا بدَّ أن يضعَ فوقَ هذهِ البقايا منَ الطّعامِ ما يبعثُ الجائعينَ على الاشمئزازِ من تناولها؛ لا بدَّ أن يضعَ فوقهُ القُشورَ وأوراقَ (الكلينكس) وما إلى ذلكَ حتّى يكونَ مصيرُ هذا الطّعامِ إلى ما علمتم منَ القمامةِ ونحوِها. هؤلاءِ النّاسُ يمارسونَ هذا العملَ مبدأً منَ المبادئ، تقليداً منَ التّقاليد، لا بدَّ أن يفعلوا ذلكَ حتّى تظهرَ كبرياؤهم، حتّى يظهرَ تَرَفُهم، حتّى يظهرَ تعاليهم على النّعمةِ التي لو حرمهمُ اللهُ عزَّ وجلَّ إيّاها للهثوا وراءها ولا لهثةَ الكلابِ فوقَ القمامة. ألا ترونَ إلى هذهِ الحالِ أيُّها الإخوة؟

بل ألا تتصوَّرونَ حالَ الحفلاتِ والمآدبِ العامرةِ التي ستفيضُ بها هذهِ الليلةُ في البيوت، أو في النّوادي، أو في أماكن، أو في مقاهٍ، أو في مطاعم، أو في ملاهٍ، ومن هم روّادُها؟ روّادُها أو الأكثرُ من روّادها مسلمون، وكثيرٌ من روّادِها يتجمّلونَ بالإسلام، السّببُ الوحيدُ الذي يجعلهم يرتادونَ هذهِ الحفلاتِ في هذهِ المناسبةِ أنّهم أغنياءٌ فيما يتصوّرونَ وفيما يتوهّمونَ أنَّ اللهَ أكرمهم، لقد أكرمهمُ اللهُ فلماذا لا يتباهَون؟ لماذا لا يستكبرون؟ لماذا لا يطغونَ ويبغون؟ لماذا لا يركلونَ بقايا النِّعَمِ بأقدامهم؟ هذا هوَ المظهرُ الذي تعرفون، وهذا هوَ واقعُ النّاسِ مرّةً أخرى أقول: واقعُ أكثرِ النّاس.. واللهُ عزَّ وجلَّ يقول: ((واتّقوا فتنةً لا تصيبنَّ الذينَ ظلموا منكم خاصّة)). أَفَعجيبٌ بعدَ هذا أن يلوِّحَ الباري سبحانهُ وتعالى بسوطٍ واحدٍ من سياطِ تأديبه؟

ولكنّي أقول: تُرى ما المصير؟ مصيرُ هؤلاءِ الذينَ أسكرتهمُ الأموالُ لو أنَّ اللهَ حرمهم رِفدَه؟ وليتَ شِعري .. ماذا يغني الذّهبُ وأوراقه؟ ماذا تغني الكنوزُ وصناديقُها إذا حرمهمُ اللهُ سبحانهُ وتعالى من لقمةِ طعامٍ أو من جرعةِ شراب؟ ترى ماذا عسى أن تصنع لهم هذهِ الصّناديق؟ وماذا عسى أن تصنعَ لهمُ الشّيكّاتُ التي تفيضُ بها البنوكُ هنا وهناك؟ ترى ماذا عسى أن يفيدنيَ المالُ الذي يسمّى بــ(السّيولة) إذا أمرَ اللهُ الأرضَ فأجدبت بنباتِها؟ وإذا أمرَ اللهُ السّماءَ فقطعت عنّي رفدَها؟ وإذا أمرَ اللهُ ضروعَ الأنعامِ فجفَّ ما فيها؟ ماذا أصنعُ بالذّهب؟ ماذا أصنعُ بالمال؟ من أينَ آتي بجرعةِ شراب؟ من أينَ آتي بلقمةِ طعام؟ ولكن منِ الّذي وقفَ ذاتَ يومٍ متأمّلاً متدبِّراً أمامَ قولِ اللهِ عزَّ وجلَّ: (قل أرأيتم إن أصبحَ ماؤكم غوراً فمن يأتيكم بماءٍ مَعين)؟

الإنسانُ الذي يكرِّمهُ اللهُ بنعمةٍ من نعمهِ أولى بهِ أن يتجلببَ برداءِ العبوديّة، أولى بهِ أن يزدادَ تمسكناً في رحابِ الله، أولى بهِ أن يذوبَ استحياءً منَ اللهِ وخجلاً منَ اللهِ سبحانهُ وتعالى، نعم.

إنّنا نتساءَلُ عن رحمةِ الله، وها نحنُ نقدمُ على ليلةٍ لا أدري ماذا ستكونُ عُقباها؟ هل ستكونُ عُقباها يقظةً وعودةً حميداً إلى اللهِ واصطلاحاً جديداً معهُ فَتُكشَفُ عنّا الغمّةُ ويأمرُ اللهُ سماءَهُ فتُهطِلُ بأمطارِها؟ أم إنّنا سنعثوا معَ العاثينَ ونعبثُ معَ العابثين؟ أم إنّنا سنؤخَذُ بهذا التّيّارِ الدّاهمِ الذي نحنُ غرباءُ كلَّ الغرابةِ عنه؟ ولو أنَّ في المسلمينَ قلّةً يجأرونَ إلى اللهِ بالتّوبة، ولكن ماذا عسى أن يكونَ واقعُ الكثرة؟

ليتَ أنَّ النّاسَ يستيقظون، وليتَ أنَّ هؤلاءِ النّاسِ يتوبون، وليتَ أنَّ هؤلاءِ الذينَ يشعرونَ في هذهِ الليلةِ بالجوعِ العجيبِ إلى السَّهر، وإلى الاحتفالات، حتّى الذينَ لا يُتاحُ لهم أن يذهبوا إلى النّوادي والملاهي يعقدونَ حفلاتٍ من نوعها في بيوتهم، ما القصّة؟ ما الخبر؟ ما هذا الذي يبعثهم على عبثٍ لا داعيَ إليه؟ فيمَ هذا الأمرُ؟ لماذا نكونُ ذيليّينَ إلى هذا الحدّ؟ لماذا نرسِّخُ في قلوبِ أعدائنا مظهرَ الذُّلِّ في حياتنا؟ ألا يكفي ما قد سمعناهُ من ترجمتِنا على ألسنتهم؟ ألا يكفي ما قد قرأناهُ من حديثهم عنّا وكيفَ أنّنا أصبحنا ذيليّينَ لهم؟ لماذا؟ لماذا نفعلُ هذا وفي سبيلِ أيِّ شيء؟

ومعَ هذا فأنا عندما أقولُ وأحذِّرُ ربّما يسألني بعضٌ منكم عن البديل، ما البديل؟ لستُ ممّن يقولُ: إنَّ البديلَ هوَ أن نملأَ مساجدَنا بحفلاتٍ أخرى؟ لا، أنا ممّن يقولونَ أنَّ هذهِ بدعة، ونحنُ ممّن يحذِّرُ منَ البدع، يكفي أن يقبعَ كلٌّ منّا في دارهِ وأن يستغفرَ ربَّهُ وخالقَه، وأن يستَرحِمَ اللهَ سبحانهُ وتعالى، وأن يسألهُ أن يرحمَ الطّاغينَ والصّالحينَ والطّالحينَ وكلَّ عباده، يكفي أن يبتعدَ كلٌّ منّا عن هذا التّيّارِ الماحقِ الدّاهم، فإذا عاشَ كما يعيشُ كلُّ مسلمٍ في داره، معَ أهلهِ ونسائه، معَ أولادهِ وصحبِه، فهذا هوَ الذي يأمرُ اللهُ سبحانهُ وتعالى به..

ألا يستطيعُ المسلمونَ أن يلتزموا صراطَ اللهِ عزَّ وجلَّ بعيدينَ عن هذا العبث، بعيدينَ عن هذا المجونِ المهلك، إلّا إذا فعلوا ما يقابلُ ذلكَ من مظاهر لم يعهدها المسلمونَ من قبل؟ لا حاجةَ إلى هذا، كلُّ ما في الأمرِ أنَّ على فئاتِ المسلمين، وعندما أقولُ فئاتِ المسلمين أعني بادِءَ ذي بدءٍ الأغنياءَ منهم، المترفينَ منهم، وليتَ أنّي أراهم في المساجد، وليتَ أنّي أراهم في الدّروس، بل ماذا أقول؟ عندما قلتُ ذاتَ يومٍ: ليتَ أنّي أراكم في دروسِ العلمِ ولو في ساعةٍ من أسبوعٍ تأفّفوا، وضاجوا، وهاجُوا وماجُوا.

فيا عجباً من أن يصلَ الأمرُ بنا إلى هذا الحدّ: ننحطُّ في طرقِ الابتعادِ عن الله، ننحطُّ في ظلماتِ التّقلُّبِ في حمأةِ الدّنيا ولهوِها، ثمَّ إنّنا نضيقُ ذرعاً حتّى بالنّاصحين! نضيقُ ذرعاً حتّى بتذكرةِ المذكِّرينَ حتّى ولو جاءت مغموسةً بكلِّ ألوانِ اللطف؟!

هذا هوَ واقعُنا .. أجل، نعم، تأفّفوا، وضاجوا وهاجوا من أن أذكِّرَهم بما كانَ عليه الأغنياءُ منذُ عشراتِ السّنينَ بل منذُ مئاتِ السّنوات، عندما كانَ الواحدُ منهم يتحوَّلُ في المساءِ إلى طالبِ علمٍ ينتجعُ درساً من دروسِ العلم، يأخذُ كتابهُ وينفقُ ساعةً أو ساعتَينِ لتعلُّمٍ فقهٍ أو عقيدةٍ أو تفسيرٍ أو حديث، ثمَّ يعودُ في اليومِ الثّاني تاجراً إلى محلِّه، أينَ ذلكَ الماضي؟ أينَ ذلكَ الواقعُ المتألِّق؟ آنذاك كانت رحمةُ اللهِ لا تنقطع، آنذاك كانتِ البركةُ لا تتراجع، نعم.

ولكن لـمّا آلَ الأمرُ إلى ما تعلمونَ أصبحنا سجناءَ في دنيانا، أصبحنا سجناءَ في ساحةِ تجاراتنا وأهوائنا، وقطعنا ممّا بيننا وبينَ اللهِ السُّبُل؛ آلَ الأمرُ إلى هذهِ الحال. ومعَ ذلكَ فإنَّ اللهَ لا يعاملُنا كما نعاملُه: اللهُ رحيم، واللهُ كريم، واللهُ غفور، ولكنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يرينا ما يذكِّرنا من هذهِ المظاهر. فأسألُ اللهَ سبحانهُ وتعالى أن يوقظَنا جميعاً لعَودٍ حميدٍ إليه، فاستغفروهُ يغفر لكم...

تحميل



تشغيل

صوتي