مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 19/11/1993

مصيبة اختفاء طلاب العلم الليليين من أسواق دمشق

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

كنت منذ أيامٍ أتلو هذه الآية في إحدى الصلوات وهي قول الله سبحانه وتعالى: "فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوّ وَالاَصَالِ * رِجَالٌ لاّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَإِقَامِ الصّلاَةِ وَإِيتَآءِ الزّكَـاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ"

وقفت ملياً أمام هذه الآيات، ولقد ساقتني فيما بعد إلى صورتين اثنتين: إحداهما صورة مشرقة لأمس دابر شاهدته وعشته، والصورة الثانية صورة قاتمة لهذا العصر الذي نعيش فيه.

أما الصورة المشرقة التي عشت طرفاً كبيراً منها في أمس دابر مضى وانطوى، فذلك عهدٌ كانت هذه البلدة تفيض بطلاب العلم، وكان طلاب العلم فيها ينقسمون إلى قسمين: أحدهما من يسمون بالطلاب المتفرغين، أما القسم الثاني فكان يطلق عليهم اسم الطلاب الليليين، وليس حديثي عن الطلاب المتفرغين الشرعيين، وإنما الحديث هنا عن أولئك الذين كانوا يسمون الطلاب الليليين، هؤلاء الطلاب الليليون كان جلهم من كبار تجار هذه البلدة، ومعهم كثير من الصناع والعمال والموظفين، كانت مساجد هذه البلدة ومعاهدها الشرعية تستقبل في كل مساءٍ من بعد صلاة المغرب هذه الطبقة من طلاب العلم الليليين، وعدت أنظر وإذا بمعظم تجار هذه البلدة وأسواقها كل منهم يحمل كتابه مسرعاً إلى معهدٍ شرعيٍ يرتبط به أو إلى مسجدٍ من المساجد القريبة من داره، ويبدأ منهاج دراسة من بعد المغرب إلى صلاة العشاء، ثم من بعد صلاة العشاء إلى ما شاء الله، دروسٌ في العقيدة في الفقه في التفسير في الحديث. هذا ما شهدته بعيني وهذا الواقع كان يترك صدىً يُطرب كل إنسان مؤمن بالله عز وجل مرتبط الشعور والعواطف بالله سبحانه وتعالى. أفتعلمون ما هو هذا الصدى؟

صدىً تراه العين قبل أن تسمعه الأذن، كنت أمر بسوق من أسواق التجار في دمشق وإذا بهؤلاء التجار الذين يتحولون إلى طلاب علمٍ في المساء، كلٌ منهم إما أن يستقبل زبوناً من الزبائن، أو إذا كان فارغاً أقبل إلى كتاب الله، فهو عاكفٌ على قراءته، أو عاكف على قراءة كتاب من كتب العلم التي هو على ميعادٍ معها في المساء. رأيت ذلك بعيني وكل هؤلاء من كبار التجار. ولا تسألوا عن نتائج هذا الواقع الذي يجسد الانصياع الإيجابي المطرب لقول الله عز وجل: "فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوّ وَالاَصَالِ * رِجَالٌ لاّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَإِقَامِ الصّلاَةِ وَإِيتَآءِ الزّكَـاةِ".

ومرت الأيام وانطوت تلك الصورة، وانتشرت صور أخرى، ورأيت كما ترون جميعاً كيف قد آلت هذه البلدة إلى حالة تستقبل فيها قِسماً واحداً من طلاب العلم، هم الطلاب الشرعيون المتفرغون، وجلهم أو أكثرهم وافدون، وهذا مما نحمد الله سبحانه وتعالى عليه، وأبحث ثم أبحث عن أولئك الطلاب الليليين أين أجدهم؟ وأنا لا أبحث عن الطلاب الليليين في أشخاص عمال، ولا في أشخاص صغار موظفين، أو صغار تجار، وإنما أبحث عنهم في من يسمون اليوم بكبار التجار، وأقيس عليه أمثالهم وأندادهم من فئات أخرى، فلا أكاد أجد منهم أحدا، وأتأمل في واقعهم، وإذا بالدنيا قد أطبقت على حياتهم من بكورهم إلى آصالهم، ومن غدوهم إلى رواحهم، فالدنيا هي شغلهم الشاغل، ولا يمكن أن يستثنى من ذلك إلا ساعات يركن فيها هذا الإنسان إلى راحته ثم إلى رقاده، وفي أحسن الظروف نضيف إلى ذلك تلك الدقائق التي يصلي فيها صلواته الخمس. هذا ما آل إليه حالنا اليوم.

ولقد كنت منذ أيام في مجلس ضم ثلة من هؤلاء التجار. وقيل لي: ألا تقول كلمةً ترقق قلوبنا فإن الدنيا قد هيمنت عليها؟ قلت: ما أظن في كلماتي التي سأقولها أي فائدة إلا إذا كانت كلماتي هذه فيها من الإعجاز أبلغ ما في إعجاز الرسل والنبيين، الشيء الذي يرقق القلب قد فاتكم، أين هي الساعات التي ترصدونها لذكر الله؟ أين هي الساعات التي ترصدونها للإقبال على علوم الشريعة؟ أين هي الساعات التي تتعلمون فيها أصول المعاملة الشرعية؟ ألستم أنتم اولاد وأحفاد أولئك الذين كانوا يملؤون أسواق دمشق وكانوا تجاراً مثلكم، وكانوا أغنياء مثلكم، وربما أكثر منكم .. ألا تذكرون كيف كان واقعهم؟! ألا تتذكرون كيف كانت حالهم؟! وماذا نتوقع أيها الأخوة من إنسان استسلم لعواصف الدنيا؟ وأي دنيا التعامل مع الدرهم والدينار؟ وما أدراك ماذا يصنع التعامل مع الدرهم والدينار إذا انقطع صاحب هذا التعامل عن الله سبحانه وتعالى؟ إنه ينطبق عليه معنى قول الله عز وجل "إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى".

المال يسكر، المال يطغي، المال يبعث لوناً من أخطر ألوان قسوة القلب، المال يجعل الإنسان مهما سمع عظة مهما سمع عبرة مهما سمع تذكرة لا تطرق هذه التذكرة إلا طبلة صماخه، وهيهات هيهات أن تخترق ذلك إلى فؤاده وقلبه، لابد من نافذةٍ تتفتح، فما هذه النافذة؟ هي أن ينفض يده الإنسان ساعة واحدة في كل يوم على أقل تقدير من تجارته من صفقه في السوق من لهوه ليقبل فيها على دين الله عز وجل، ودين الله عز وجل إنما يتم الإقبال إليه قبل كل شيءٍ علماً، ثم يتم الإقبال عليه بعد ذلك اصطباغاً وسلوكاً.

ننظر إلى واقعنا اليوم، كما قلت لكم، وإذا بمن كانوا يسمون بالطلاب الليليين أصبحوا ذكرى من الذكريات. تتأمل تبحث عنهم في أي معهد من المعاهد الشرعية فلا تقع منهم على أثر، تبحث عنهم في أي مسجد من المساجد فلا تكاد تقع منهم على أثر، قد أستثني قلة يسيرة يسيرة يسيرة من الناس. نعم والمشكلة التي هي أهم من هذا أننا عندما نحاول أن نذكّر، ونحاول أن نعاتب العتاب الرقيق المنبعث من دوافع حب، نجد التأفف نفاجىء بالتألم.

بالأمس في الليلة الدابرة كنت في لقاء في عقد من العقود، ورأيت ثلة من هؤلاء التجار في ذلك المكان، ودعيت إلى الكلام فطرقت هذا الحديث، وذَكرت بهذه الآية وتساءلت أين أنتم أيها الأخوة من كفتي دينكم ودنياكم؟ لماذا تتعاملون من الميزان مع كفة واحدة؟ الكفة الواحدة تخنق تهلك. أين هو التوازن بين الدين والدنيا؟ ألستم أنتم أحفاد وأولاد أولئك الذين كان من شأنهم كذا وكذا وكذا، ثم إننا نعلم كم تفعل الدنيا من الأعاجيب بصاحبها، كم تبعده عن الله عز وجل، كم تجعله مجنداً فقط لشهواته وأهوائه. فلماذا لا نرصد من أوقاتنا وقتاً للإقبال فيه على الله عز وجل إن في سبيل علمٍ نحن بأمس الحاجة إليه، أو في سبيل ذكرٍ من ذكر الله نتعهد به قلوبنا كما يقول الله في هذه الآية؟ قلت: وبدافع من الحب والشفقة، وبأسلوب كامل من اللطف ويكلمني بعد ذلك في الهاتف من يتأفف من كلامي، ومن يشبه حديثي بعصاً كانت غليظة، ومن يشبه حديثي هذا بشيء جرح وآذى، تلك هي المشكلة الثانية والتي هي الأطم والأخطر.

أن يوجد مريض في مجتمعنا تلك سنة من سنن الله، ولا حرج من أن تكون هذه السنة موجودة إذا كان المريض يستسلم للطبيب، لكن المصيبة الأدهى أن ينظر المريض إلى الطبيب نظرة إنسان إلى عدوه، تلك هي المصيبة التي لا علاج لها، المصيبة لا تكمن في غفلة عن الله، لكنها تكمن في تأففك من أن تتألم أو تتأفف ممن جاء لينقذك من هذه الغفلة، عندئذٍ تتحول هذه الغفلة إلى مرض قد لا تستطيع النجاة منه.

وإنني لأذكر يوم قلت وكتبت إذا كان من شأني أن أرى كل فئة من الناس تتأفف عن التذكرة، إن ذَكّرت أخوتنا التجار تأففوا، وإن ذكرت الجمعيات الخيرية بما ينبغي أن تنهض به وتقوم على أساسه حالها تأففوا، وإن ذكرت طبقات الموظفين تأففوا، وإن ذكرت مختلف الفئات تأففوا، إذاً كيف السبيل إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! لسان حال هؤلاء جميعاً يقول: أجل هنالك سبيل واحد بإمكاننا أن نستغني به عن السبل كلها، هو أن نتسلى بالهجوم على الحكام فقط، دع هؤلاء جميعاً دع التجار دعهم أحراراً يفعلون ما يصنعون دع الأطباء الذين كم نقول اجعلوا من أوقاتكم ساعة لتطبيب قلوبكم كما تقيضون ساعات كثيرة لتطبيب جسوم الناس، عندما نتجه إلى هؤلاء جميعاً بالعتب نجد الأبواب مسدودة، وقد رضينا أن تكون الأبواب مسدودة، لا بل نجد إلى جانب ذلك التأفف، علينا أن نتسلى كما قلت بالهجوم فقط على فئة واحدة من الناس، ونحن ما ينبغي أن نتهجم لا على هؤلاء ولا أولئك ولا أولاء، ولكن مهمتنا التي أمرنا الله بها التذكرة، وعلى الجميع أن يقبلوا التذكرة، فكيف السبيل أيها الأخوة وقد رأينا أن سبل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مغلقة بتأفف هذه الفئات كلها، أعتقد أننا عندما نتأمل في هذه الظاهرة التي نحلل طرفاً منها ندرك آلامنا وندرك أسرار آلامنا وندرك مفاتيح الحل لمشكلاتنا ونعلم أننا لا نريد أن نستعمل هذه المفاتيح.أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي