مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 15/10/1993

الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

لقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الدنيا ملعونةٌ ملعونٌ ما فيها إلا ذكر الله وما والاه" والحديث صحيحٌ مروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وربما استشكل كثير من الناس هذا الحديث، وتساءلوا كيف تكون الدنيا ملعونة وهي خارجة عن نطاق التكليف وخارجةٌ عن قائمة المكلفين؟ وهل الدنيا إلا ما يتمتع به الإنسان من رغد عيش؟ وهل الدنيا إلا هذه المظاهر التي قال الله عز وجل عنها: "قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق"؟ فكيف تكون هذه المتع التي لا حس فيها ولا عقل لديها، كيف تكون ملعونة؟ واللعن إنما هو نتيجة من نتائج التكليف، وثمرةٌ من ثمرات الأمر والنهي. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستثني فيقول: "إلا ذكر الله وما والاه" وهل كان ذكر الله عز وجل في يوم من الأيام داخلاً في شيءٍ من شؤون الدنيا؟ وهل ذكر الله عز وجل إلا مظهراً من مظاهر الآخرة؟

فكيف يكون معنى هذا الحديث بعد هذا الإشكال الذي كثيراً ما تصوره أناسٌ وتساءلوا عن الجواب عنه؟

إن المراد - أيها الأخوة - بالدنيا التي لعنها الله سبحانه وتعالى، تعامل الإنسان معها، فاللعن ليس موجهاً على هذه المتع بحد ذاتها، وإنما اللعن موجهٌ إلى وجه تعامل الإنسان مع هذه المظاهر الدنيوية، هذه المتع التي خلقها الله عز وجل لنا يصدق عليها قوله عز وجل: "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق" ويصدق عليها قول الله عز وجل: "هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً" فقد خلق الله سبحانه وتعالى هذه المتع على اختلاف صنوفها وألوانها للإنسان، وخلقها من أجل أن يتمتع بها ويستفيد منها، ولكن اللعن ينبثق من نوع العلاقة التي تسري بين الإنسان وبين هذه الحياة الدنيا، وربما تسائلنا والعلاقة التي تكون بين الإنسان وبين هذه الحياة الدنيا، فيم تكون مثابة للعن؟ وقد خلق الله سبحانه وتعالى هذه الدنيا من أجلنا؛ من أجل أن نقبل إليها ونستفيد منها. فكيف تكون هذه العلاقة بعد ذلك مثابة لعن وطرد من رحمة الله سبحانه وتعالى؟

وهاهنا ينبغي أن ندقق النظر في الإجابة أيها الأخوة عن هذا السؤال: أرأيتم إلى لحوم الأنعام التي خلقها الله عز وجل لنا، كم امتن الله عز وجل على عباده في كثير من آي كتابه المبين إذ خلق الله سبحانه وتعالى هذه الأنعام لنا، وجعلها رزقاً مباحاً طهوراً للإنسان بل لكم نعى القرآن على المشركين اللذين حرّموا على أنفسهم كثيراً من هذه الأنعام لأسباب اختلقوها ولبدعٍ ابتدعوها من عند أنفسهم، ومع ذلك .. مع أن الله امتن علينا بهذه الأنعام لحماً ولبناً، مع هذا كله فقد أعلن الله سبحانه وتعالى أن هذه الأنعام رجس ولا يطهرها إلا ذكر الله سبحانه وتعالى. فقال عز وجل في محكم تبيانه: "ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق" أي أن الذبيحة التي امتن الله عز وجل عليك بها تظل فسقاً إلا أن تذبحها تحت سلطانٍ من ذكر الله عز وجل، وتحت ضوابط وتعليمات تنفذها كما أمر الله سبحانه وتعالى، فتحت سلطان ذكر الله عز وجل وبالانضباط بهذا الذكر وتعليمات الله تتحول هذه اللحوم من خبائث إلى رزقٍ طهور طيب، هذا الذي نبهنا الله عز وجل إليه فيما يتعلق بلحوم الأنعام هو ذاته الذي ينطبق على الدنيا، فالدنيا بكل ما فيها أشبه ما يكون بحيوان من هذه الحيوانات التي جعلها الله عز وجل رزقاً لنا، ولكن لابد لكي يكون هذا الرزق حلالاً، ولكي يصل إلى فمك طهوراً لابد أن يكون ذلك وأن تكون العلاقة بين وبين هذه الدنيا تحت مظلة وإشرافٍ من ذكر الله سبحانه وتعالى، وعندئذٍ تصبح الدنيا بكل متعها مباحةً وطهوراً ورزقاً طيباً لك تماماً كشأن التزكية التي هي الشرط الأساسي لتحول هذا اللحم الذي قضى الله أن يكون فسقاً إلى لحمٍ طيبٍ طهورٍ تتناوله، جعل الله سبحانه وتعالى منه خير غذاءٍ لك.

وهذا معنى الاستثناء في قوله عليه الصلاة والسلام :"إلا ذكر الله وما والاه" ذكر الله ليس من الدنيا ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني أن إقبالك على الدنيا إقبال انحرافٍ دائم، وأن تعاملك مع الدنيا تعامل متنكر عن جادة الله دائماً، فتتبين ذلك إلا في حالة واحدة عندما يكون هذا الإقبال تحت حراسة من ذكر الله عز وجل، عندما يكون تعاملك مع الدنيا تحت حراسة من رقابة الله سبحانه وتعالى، عندئذٍ لا تصبح الدنيا دنيا بل تصبح الدنيا آخرة أو ذيلاً من ذيول الآخرة، فكأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: هذا التعامل مع الدنيا طالما كان تعاملاً مع الدنيا يطغي ويضل ولا يهدي، ولكنك تستطيع أن تحول الدنيا هذه إلى آخرة، بل أن تحولها إلى جندٍ من جنود الآخرة، وجند من جنود مرضاة الله عز وجل. متى يكون ذلك؟ إذا صبغت علاقتك بالدنيا بذكر الله سبحانه وتعالى، عندئذٍ يتحول رجس الدنيا إلى طهور، كما تحول اللحم الفسق - كما وصف الله عز وجل - إلى رزقٍ ومتعةٍ طاهرة لا إشكال فيها قط.

وهذا الذي يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، فيه تلخيص لكل آداب التعامل مع الدنيا إقبالاً وإدباراً، وربما أن معنى قوله عليه الصلاة والسلام: "الدنيا ملعونة" ملعونة أي في إقبالها، لا بل هي ملعونة في إقبالها وإدبارها، أي هي فتنة للغني والفقير معاً.

أما الغني ففتنة المال والدنيا بالنسبة إليه أنها تسكره أنها تبطره أنها تنسيه مولاه وخالقه أنها تجعله يركن إلى الدنيا وكأنه مخلدٌ فيها، ولكن ما أسرع ما تتحول هذه الدنيا كلها في لحظة واحدة في كفه أو في صندوقه إلى سلمٍ يوصله إلى مرضاة الله عز وجل، عندما يجعل علاقته بهذه الدنيا خاضعةً لذكر الله، خاضعةً لمراقبة الله عز وجل، عندئذٍ يتحول الرجس في لحظة واحدة إلى طهور، أرأيتم إلى الخمرة كيف تصبح طهوراً عندما تتخلل، هذا الرجس من الدنيا أيضاً يتحول إلى طهور ولكن السر الخفي الكامن في هذا التحول إنما هو ذكر الله سبحانه وتعالى، كذلكم الفقير الدنيا ملعونة بالنسبة إليه ولا بد أن يصيبه من رشاش هذه اللعنة لأن اللعنة ليست منحطةً لهذه الشهوات والأهواء الخامدة والهامدة كما هي، ولكن اللعنة تنصب على وجه التعامل أو العلاقة بين الإنسان وبين الدنيا.

الفقير الذي قُدر له رزقه والذي انصرفت عنه الدنيا، عندما يفر على قدر الله عز وجل وقضائه في ذلك، ويبتعد عن الصبر الذي أمره الله عز وجل به، ويبتعد عن العفاف الذي أمره الله سبحانه وتعالى أن يداوي نفسه وفقره به، ثم يركن إلى ثوران نفسه وإلى هيجان غرائزه، فتمتد يده إلى المحرم هنا وهناك، وتمتد نفسه ويخضع لسلطان نفسه إلى الرشاوى وإلى كثير وكثير من وجوه الاكتساب المحرم، هذا مظهر من مظاهر اللعن الذي تحدث عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي قال في حديثٍ آخر: "كاد الفقر أن يكون كفراً"، ولكن ليس معنى هذا أن رسول الله يُعذر الفقير إن هو كفر، بل هو تحذيرٌ أكثر من أن يكون إعذاراً؛ أي كاد الفقر أن يكون كفراً عندما يكون هذا الفقير شارداً عن ذكر الله، وعندما عندما يكون شارداً عن مراقبة الله سبحانه وتعالى، والذي يزجّه عندئذٍ في الكفر ليس ذلك الفقر، وإنما هو فقرٌ مشفوعٌ بالغفلة عن الله، والغفلة عن ذكر الله سبحانه وتعالى.

وهكذا فإن ذكر الله المتمثل في مراقبة العبد لله سبحانه وتعالى، هو الذي يحوّل رجس الدنيا إلى طهور، وهو الذي يحول عفونتها إلى غذاءٍ طيب، بل ما أكثر ما يتقرب به الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى.

والذي أريد أن أنتهي إليه من هذا، هو أن نعلم أن ذكر الله هو علاج أعظم المشكلات في حياة المسلمين، ولقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي في المال"، ولقد قال عليه الصلاة والسلام في حديثٍ آخر: "ما تركت بعدي فتنةً أضر على الرجال من النساء" فهما فتنتان خطيرتان عظيمتان في حياة هذه الأمة، هما فتنة المال والنساء، ولن تجد من علاج لهذه الفتنة إلا ذكر الله سبحانه وتعالى، ذلكم هو الحصن الذي يستطيع الإنسان أن يحصّن فيه نفسه، ولكني لا أعني بالذكر إلا مراقبة الله سبحانه وتعالى. ذكر الله كلما ورد في كتاب الله وكلما رأيتم دعوةً إليه في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعلموا أن المراد منه مراقبة العبد للرب، أي أن يكون قلب الإنسان وفكره متيقظين لمراقبة الله، للتأمل بأن الله يراه، وبأن الله يسمع نجواه، وبأنه يرى حركاته، وأنه يرى سكونه، وأنه يحصي عليه كل ما يفعل، بل إن الله يحصي عليه كل خطواته "وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء"

وإذا علمنا هذا فلنعلم أن سلك ذكر الله عز وجل إذا انفصل عن علاقة العبد بالدنيا تحولت الدنيا في لحظة واحدةٍ إلى سموم ناقرة، أمّا إذا اتصل سلك هذا الذكر بعلاقة هذا الإنسان بهذه الدنيا، تحولت الدنيا كلها - مهما تجمعت في يديه - إلى غذاءٍ نقي طهور يفيد الإنسان ويقربه إلى الله عز وجل، فإن كان ممن أكرمه الله بالغنى كان غناه تسبيحاً لله عز وجل في يده، وإن كان ممن ابتلاه الله عز وجل بالفقر كان فقره احتساباً وجهاداً في سبيل الله سبحانه وتعالى في حياته، ورحمة الله عز وجل هي أفضل ما جمعه الإنسان من نشب الدنيا ومن أسباب الرزق وأسباب المتع التي فيها.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم فاستغفروه يغفر لكم.

تحميل



تشغيل

صوتي