مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 03/09/1993

أين هي ثمرة احتفالنا بعيد المولد في حياتنا

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

تعلمون أن هذا الشهر المبارك هو شهر مولد المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولقد كان الناس فيما مضى يحتفلون في يومٍ واحد من هذا الشهر باعتبار أنه يوم مولد المصطفى عليه الصلاة والسلام، ولكن الناس بعد ذلك انتقلوا من الاحتفال باليوم الواحد إلى الاحتفال بالشهر كله على أنه شهر ولادة المصطفى صلى الله عليه وسلم، بل إن في الناس من أخذوا يحتفلون بهذين الشهرين ربيع الأول والذي يليه على اعتبار أنهما شهرا مولد المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولقد قلنا ولا نزال نتفائل بهذا الاحتفال لاسيما عندما يكون متصاعداً من الاحتفال باليوم إلى الاحتفال بالشهر إلى الاحتفال بالشهرين، وكنا نقول إنا هذا لدليلٌ نابضٌ بيّن على حب هؤلاء الناس لرسولهم محمدٍ صلى الله عليه وسلم.

ولكنا أخذنا ننتظر ثمار هذه الاحتفالات وظللنا ننتظر وننتظر دون أن نجد لهذه الاحتفالات إلا ثماراً قليلة. فهل نعود إلى اليأس من بعد التفاؤل؟ وهل نحارب هذا الاحتفال بعد الترحيب؟ أم ما هو الموقف الذي ينبغي أن نتخذه؟ وكيف يمكن أن نتجاوب شعوراً وعاطفةً مع احتفالات الناس بمولد المصطفى صلى الله عليه وسلم طوال شهرٍ أو شهرين من الزمن؟ ونحن عندما نلتفت عن يميننا وشمالنا لا نجد إلا ما يخالف هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن رأينا بوارق الاقتداء به؛ رأيناها بوارق غريبة ورأيناها خطواتٍ عجيبة، ورأينا مظهر الشذوذ في ذلك كله بالنسبة لما عليه أكثر الناس اليوم.

إن الإنسان المسلم في مثل هذا الشهر المبارك ليشعر بالحزن والأسى وهو يحتفل بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من أن يشعر بالأمل والتفاؤل، ذلك لأنه يقارن بين ما كان عليه رسول الله وماكان يوصي به رسول الله صلى الله عليه وسلم وما عليه المسلمون اليوم، فيجد بعداً شاسعاً ثم ينظر فلا يجد إلا مزيداً من هذا البعد، ولا يجد هذا البعد مع الأيام إلا وهو يزداد اتساعاً، فكيف لا يكون الاحتفال بذكرى رسول الله صلى الله عليه وسلم مبعث أسى وحزنٍ في فؤاد من ينشد الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم؟!

لقد كان عليه الصلاة والسلام في حياته التي يسلكها مثال الترفع عن زهرة الحياة الدنيا، ومثال التقلب - لا أقول في العدم والفقر فحاشى أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيراً ولكنه كان مثال التقلب - في الاستغناء عن الدنيا ومظاهرها المختلفة كلها، ولأمر ما آثر المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يكون هذا نموذج حياته فلم يكن عليه الصلاة والسلام يتمتع إلا بما يتقلب به الفقراء في بيوتهم، ولم يكن يشبع المصطفى صلى الله عليه وسلم من لونين قط من الطعام جمعهما عنده ذات يوم، وهو الذي راودته جبال الشم أن تتحول بين يديه ذهباً، ذلك كله من أجل أن يعلّم أمته أن لا تأسرهم الدنيا، ومن أجل أن يوضح لهم أن أعداء المسلمين في المستقبل القادم سيحاولون أن ينصبوا لهم سلسلة كمائن عن طريق الدنيا وشهواتها وأهوائها. ألم يقل لهم في الحديث الصحيح: "أبشروا وأَمِّلوا خيراً فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تفتح عليكم فتنافسوها كما تنافسها مَن قبلكم فتهلككم كما أهلكتهم"

فأين هو الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، إننا نلتفت إلى حال كثير ممن يحتفلون بذكرى مولد رسول الله أو سيحتفلون، فنجدهم يتقلبون في زُخرف من الدنيا لا أول له ولا آخر، ونجد أن التباهي والتفاخر هو طريق المنافسة بينهم وبين الأنداد، وما أكثر المظاهر التي مرّت بنا والتي تشهد على بعدنا عن هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم. فما قيمة أن نحتفل بذكراه ونحن نعاني من هذه الفجوة الكبرى بيننا وبينه.

كان عليه الصلاة والسلام يشد على بطنه الحجر والحجرين من شدة الجوع، وفي مجتمعاتنا من ينصب الموائد الفخمة الضخمة التي تتجمع عليها ألوان مختلفة التي لا تحصى وتشم من خلال هذه الموائد رائحة التباهي والتفاخر أكثر مما تشم رائحة الطعام الذي تطعمه. كيف لا نخجل من حبيبنا محمدٍ عليه الصلاة والسلام عندما نرى أن علاقته بالدنيا كانت على ذلك النحو من الترفع والابتعاد؟ وحياتنا على هذه الحال من التقلب في حمأة الدنيا وشهواتها وأهوائها؟

وأنا لست ممن يحرم المباح، ولكنني ممن يُذكر بأن المباح يصبح حراماً عندما يستعمله الإنسان للمباهات، وكم قلت هذا وكم أوضحت هذا، ما قيمة أن نحتفل بذكرى مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم خلال يومٍ من شهر أو خلال شهرٍ من شهرين أو خلال شهرين كاملين، إذا كانت سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم تنبض في البكور والآصال بالدعوة إلى الله، وتبليغ دين الله وقيامه بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في بيته في أسرته في أولاده، بعيداً عن ظل أي مصلحة بعيداً عن اتباع أي غاية، بعيداً عن مزج الدين بالسياسة .. أجل بعيداً عن ذلك كله، وإنما يندفع إلى ذلك بقصدٍ واحدٍ لا ثاني له ولا شائبة فيه، ألا وهو استنزال رضا الله سبحانه وتعالى وتطبيق قوله: "ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون"

ولقد رأينا كيف تجسد عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا، في دعوته إلى أهل بيته وفي إعلانه أنه لن يفيدهم يوم القيامة شروا نقير، وأنه لن يغني عنهم من الله غناء، وكم كرر هذا وأعاد آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، ثم انتقل يُبلِّغ قومه ثم انتقل يُبلِّغ الدنيا كلها المعمورة التي من حوله، وننظر إلى واقعنا فنجد أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مطويان من حياتنا في بيوتنا وفي مجتمعاتنا وفي أنديتنا وفي لقاءاتنا بين الرفقة والأصحاب. أين هم الآمرون بالمعروف؟ وأين هم الناهون عن المنكر في بيوتهم؟ ننظر فنجد أن الإهمال قد حل محل اتباع سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لم يعد يبالي أبٌ بمصير ابنته، وإنما يبالي من هذا المصير بشيءٍ واحد، أن ترقص الدنيا أمامها بمستقبلٍ زاهر، وأن يجد أن سيرها في طريق عملها الدراسي أو غير الدراسي سيأتيه في المستقبل القريب أو البعيد بما يُطمئن دنياه وبما يُطمئن رغد عيشه، ولكن مهما كانت هذه الطرق التي تعيش فيها ابنته أو أولاده ملتويةً، مهما شياطين الإنس والجن تترصد في منحنيات هذه الطرق، ومهما كانت السبل لا ترضي الله عز وجل، فإن الشعار الذي يرتفع إذا ذكر الدين، هو إن للدين رباً يحميه.

إن للدين رباً يحميه أجل .. وليس للرب حاجة إلى عباده قط ولكننا نحن المحتاجون إلى رحمة الله عن طريق قيامنا بما أمر الله عز وجل به ولقد قال الله عز وجل: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله والدار الآخرة " فكان حقاً علينا أن نقتضي برسول الله صلى الله عليه وسلم. لماذا لم يقل المصطفى معرضاً عمَّا كلّفه الله به: إن للدين رباً يحميه؟ أليس لدنياك أيضاً ربٌ يحميها؟ أليس لمستقبلك ومستقبل ابنتك وأولادك أيضاً ربٌ يحمي ذلك كله؟ لماذا نسيت الله عز وجل وأنت تتلهث على مصير رزقك ورزق أولادك وبناتك وتذكرت قدرة الله فقط عندما يُكلفك الله بخدمة دينه. أين هي الدعوة إلى الله أيها الأخوة؟ أين هي الدعوة إلى الله عز وجل التي تتمثل في قوله "ادعو إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن"؟ أين هم المبلغون عن الله طبقاً لما أمر رسول الله وناسب "نضّر الله امرءً سمع مني مقالةً فأبلغها كما سمعها"؟ أين هم المقتدون برسول الله وبأصحاب رسول الله؟ أين هي الدعوة؟ أين هم الدعاة؟ ما أكثر الذين يتحركون باسم الإسلام وما أقل الذين يدعون إلى الله سبحانه وتعالى.

ولعلكم جميعاً تعرفون الفرق بين الدعوة إلى الله كما كان يفعل رسول الله وكما كان يفعل أصحاب رسول الله، والتحرك المتراوح في مكانه باسم الإسلام، ما أعظم الفرق بين هذا وذاك. لقد سخرنا الإسلام لأهواءٍ كثيرة ما أكثرها وما أكثر أنواعها، سخّرنا الإسلام لآمال الرئاسة والزعامة وما أكثرها تنوعاً، سخرنا الإسلام لآمالٍ سياسية. قلنا: سنجعل من السياسة خادماً للإسلام، وفتحنا أعيننا بعد لحظات لنجد أننا جعلنا الإسلام خادماً للسياسة كما ترون في مشارق الأرض ومغاربها، ننظر إلى هذا الواقع وننظر إلى سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فنجد بينهما بعد المشرقين.

العالم الإسلامي يتمزق، والقوى الشريرة تزيده تمزقاً والمسلمون في غفلةٍ عن دينهم، هم بين غني مترف يتقلب من غناه في سَكرٍ بل في سُكرٍ لا نهاية له، وبين فقيرٍ صدّه فقره عن تذكر دينه، وحجبه فقره عن تذكر إسلامه. وصدق رسول الله القائل: "كاد الفقر أن يكون كفراً" . وما يخال المعنى الذي قاله رسول الله إلا مصداق لهذا الواقع عندما قال: "ووالله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تُفتح عليكم كما فتحت على من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتُهلككم كما أهلكتهم". وكيف يكون الإهلاك عندما تُفتح الدنيا ويتنافس القوم في سبيلها، يتحول هؤلاء الناس إلى فئاتٍ حسب قواهم المختلفة، فإنسان مجل سباقٌ في هذا الطريق الغير مقدس إلى الدنيا، وإنسان تخلف، وإنسانٌ تخلف كثيراً فحاق فيه الفقر هناك.

وهكذا فإن المجتمع الذي يتنافس فيه الناس في سبيل الدنيا يتحول إلى فريقين، فريقٍ يعاني من فقرٍ متقع وفريق آخر يعاني من مالٍ بل غنىً طائل كبير يرقى به إلى درجة عجيبة وخطيرة من الطغيان، وبانقداح هذين الواقعين المتناقضين يحيق الهلاك، وهذا ما نعانيه اليوم. فقرٌ متقع ينادي بلسان الحال هؤلاء الأغنياء السكارى ألا أنصفوا مجتمعكم الإسلامي وسدوا هذه الثغرات التي فتحها الشيطان فيما بيننا وبينكم فليس هنالك من مجيب.

الدنيا تجعل من هذا الإنسان الغني السكران بماله إنساناً عجيباً إنساناً متناقضاً، إذا دعى الداعي إلى التفاخر والتباهي فتح يديه وجيوبه كلها وانتثر المال بالملايين متمثلاً على موائد، متمثلاً في حفلات فإذا طوي هذا الواقع ونُشر واقع آخر وجاء من يدعو هؤلاء الأغنياء إلى إنصاف الفقراء المتقعين؛ بسكن يؤون إليه بكن من السكن المعنوي الذي دعا إليه الله عز وجل يحققونه في حياتهم، ببلغة من العيش يحققونها في بيوتهم، وجدت أن الأيدي المفتحة انقبضت وأن الجيوب انكمشت وأن الصناديق أقفلت وأن الألسن بدأت تشكو من قلة السيولة. هذا هو واقعنا فحدثوني وأجيبوني بأي وجهٍ نقبل إلى رسول الله بالاحتفال بذكراه، وكيف بنا أن لا نخجل منه عندما تحتفل الفئات والجماعات بذكرى مولده وهذا واقعنا.

الإنسان الذي يرى نفسه بعيداً عن الله ينبغي أن يداري بعده بشيء من الخجل، ولكن أسوء ما يمكن أن يصل إليه العاصي هو أن يضم إلى عصيانه البعد عن الخجل والتنزه والتحرر عن الحياء. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من أولي الأفعال المقربة إلى الله، وأن لا يجعلنا من أولي الدعاوي الكاذبة التي تصدنا عن الله فاستغفروه يغفر لكم.

تحميل



تشغيل

صوتي