مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 28/05/1993

من هم الذين يقبل الله طاعاتهم في هذا العشر؟

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

إننا نمرُّ من هذا الشّهرِ المبارك بتلكَ الأيّامِ الفاضلةِ التي أقسمَ اللهُ عزَّ وجلّ بلياليها في محكمِ تبيانه، وذلكَ في قولهِ عزَّ وجلّ: (والفجر * وليالٍ عشر * والشّفعِ والوَتر * والليلِ إذا يسر * هل في ذلكَ قسمٌ لذي حجر). إنّها ليالي العشرِ الأوّلِ من ذي الحجّة، وهي الليالي التي أقسمَ بها اللهُ عزَّ وجلّ، وليسَ لقسمِ اللهِ عزَّ وجلّ بشيءٍ يقسمُ بهِ إلا معنىً واحد: هو التّنويهُ بأهمّيّتهِ وخطورتهِ وجليلِ مكانتهِ عندَ اللهِ سبحانهُ وتعالى.

فجديرٌ بالإنسانِ أن يعلم أنَّ لهذه الليالي التي يقسمُ بها اللهُ عزَّ وجلّ خطورةً كبرى وأهمّيّةً عظمى، والفائدةُ التي ينبغي أن يجنيها الإنسانُ من معرفةِ هذا المعنى لقسمِ اللهِ سبحانهُ وتعالى بهذه الليالي، أن يُقبلَ إليها فيملأها بالطّاعات، بدءاً من التّوبةِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ عن المعاصي والأوزارِ كلّها، يملؤها بالقرباتِ إلى الله عزَّ وجلّ بنيّةٍ صافيةٍ من الشّوائب، وبعزمٍ على الثّباتِ على صراطِ اللهِ سبحانهُ وتعالى، هذا هو المعنى الذي يلفتُ البيانُ الإلهيُّ نظرنا إليه من خلالِ هذا القَسَم بهذه الليالي المباركة، وهي ليالٍ تتبعها أيّامها كما هو معلوم.

ولقد ثبتَ في الصّحيحِ عن رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم أنَّ أفضلَ أيّامِ هذا العشرِ المبارك هو اليومُ التّاسعُ من شهر ذي الحجّة، اليوم الذي يعقبُهُ الليلةُ العاشرة من الليالي التي أقسمَ اللهُ سبحانهُ وتعالى بها، فيومُ التّاسعِ من ذي الحجّة هو يومُ عرفة، وهو أفضلُ هذه الليالي أو هذه الأيّام التي افتُتحَ بها هذا الشّهرُ المبارك، وقد روى أبو قتادة رضي اللهُ عنه عن رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم فيما رواهُ مسلمٌ في صحيحه ورواهُ أبو داوود وابنُ ماجه وآخرون أنّهُ صلى اللهُ عليهِ وسلّم سُئلَ عن صومِ يومِ عرفة، فقال: "هو - أي صومُ يومِ عرفة - كفارةٌ لسنةٍ ماضية وباقية". وقد تكرّرَ هذا الحديثُ وهذا التّنويهُ بأهمّيّةِ فضلِ يومِ عرفةِ وصيامِ يومِ عرفة في أحاديثَ كثيرةٍ جدّاً، ومن أشهرها وأصحّها ما رواهُ الإمامُ البخاريُّ عن عبدِ اللهِ بنِ عبّاس عن رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ أنّهُ قال: "ما من أيّامٍ العملُ الصّالحُ فيها خيرٌ وأفضلُ من هذه الأيّام" أي من عشرِ ذي الحجّة، قالَ لهُ أحدُ الصّحابةِ: ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ يا رسولَ الله؟ قالَ: "ولا الجهادُ في سبيلِ الله إلا أن يخرج إنسانٌ بمالهِ ونفسهِ فلا يعودُ من ذلكَ بشيء".

أيها الإخوة: هذه الليالي التي يقسمُ بها اللهُ عزَّ وجلّ والتي يتبعها أيّامها متوّجةً بيومِ عرفة الذي نحنُ على ميعادٍ معه فرصةٌ عظيمةٌ مباركة ينبغي للمسلمين ألا يضيّعوها، وينبغي لكلِّ إنسانٍ يشعرُ بالأسى والأسفِ من بُعدهِ عن الله عزَّ وجلّ ومن انحرافه عن صراطِ اللهِ سبحانهُ وتعالى، أن يعلمَ أنّهُ من هذه الأيامِ المباركةِ أمامَ فرصة، وأنّهُ إن أحسنَ انتهازها فلسوفَ يكفّرُ اللهُ عزَّ وجلّ عن سيّئاتهِ أجمع، ويخلقهُ في هذه الدّنيا خلقاً جديداً، وما عليهِ بعدَ ذلك إلا أن يستقيم على صراطِ اللهِ سبحانهُ وتعالى، وأن يصدقَ مع اللهِ عزَّ وجلّ في العزمِ على الاستقامةِ على هديهِ والالتزامِ بأوامرهِ سبحانهُ وتعالى.

والعملُ الصّالحُ في هذه الأيّام - وهو ما أشارَ إليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم - يبدأ بالتّوبةِ من المعاصي، فليسَ هنالكَ عملٌ صالحٌ أجلّ ولا أعظم من أن يقلع الإنسانُ عن معاصيه، وما هي جدوى الطّاعات إن غُرست في تربةٍ من المعاصي والمحرّمات، العملُ الصّالح لا بدَّ لهُ من مناخٍ صالح، والمناخُ الصّالح هو القلبُ الذي تطهّرَ من أدرانه والذي سما عن معاصيهِ وأهوائه بالتّوبةِ والإنابةِ إلى اللهِ سبحانهُ وتعالى، فإذا صدقَ الإنسانُ في توبتهِ من الأوزارِ والمعاصي كلّها فإنَّ الطّاعاتِ الإيجابيّةَ عندئذٍ تفعلُ فعلها.

وأمّا إن أقبلَ الإنسانُ على الطّاعات وهو مضمّخٌ بالأوزارِ والمعاصي فما أشبهَ عملَ هذا الإنسان بمن يعملُ إلى وعاءٍ قد ضُمّخَ بالأقذارِ المختلفة، ثمَّ يأتي فيملؤ هذا الوعاءَ كما هو بأطيبِ الطّعام، لقد فسدَ هذا الطّعامُ بهذا العمل، لابدَّ قبلَ كلِّ شيءٍ من غسلِ هذا الوعاء ومن تطهيرهِ من الأقذارِ التي كانت عالقةً به، حتى إذا تطهّرَ الوعاء يحينُ بعدَ ذلك أن يُملأَ بالطّعامَ الطّيّب.

كذلكمُ الإنسان: وعاءٌ .. فانظر إلى هذا الوعاءِ بمَ كانَ مملوءاً؟ طهّرهُ قبلَ كلِّ شيءٍ من الأدرانِ والمعاصي، بالتّوبةِ الصّادقةِ والإنابةِ إلى الله، وإعادةِ حقوقِ النّاسِ إليهم، ثمَّ أقبل بعدَ ذلكَ إلى العملِ الصّالحِ كما قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلّم واملأ هذه الأيّامِ واللياليَ بالعملِ الصّالح.

وكما نقولُ دائماً: التّوبةُ تتمثّلُ في عزمٍ على عدمِ الرّجوعِ إلى المعاصي التي نهى اللهُ عزَّ وجلّ عنها، وفي تصميمٍ على إعادةِ حقوقِ النّاسِ إليهم، فالتّائب الذي أُثقلَ ظهرهُ بحقوقِ النّاس ثمَّ إنّهُ لم يهتمَّ بإعادةِ هذه الحقوق إليهم، لا تغني توبتهُ عنهُ شيئاً. وكم قلنا وأعدنا: إنَّ حقوقَ اللهِ مبنيّةٌ على المسامحة ولكنَّ حقوقَ العباد مبنيّةٌ على المشاحّة، بل إنَّ الذينَ يشدّونَ الرّحالَ إلى بيتِ اللهِ الحرام بقصدِ الحجِ والقيامِ بمناسكه لا يغنيهم حجّهم عنهم شيئاً إذا ذهبوا وهم مثقلون بحقوقِ النّاس، بل لقد قلنا مراراً: لا يجوزُ للإنسان أن يخرجَ مسافراً عن وطنهِ وبلدتهِ وعليهِ حقٌّ لإنسان. لا يجوزُ ذلكَ إلا بعدَ أن يحلّلَ نفسهُ من حقِّ هذا الإنسانِ أو أن يستسمحهُ، وبعدَ ذلكَ يجوزُ لهُ الخروجُ إلى السّفر سواءٌ كانَ هذا السّفرُ سفرَ طاعة أو سفرَ متعة، حتّى الجهادُ في سبيلِ الله، لا يجوزُ للإنسانِ أن يخرجَ من بلدهِ وعليهِ حقٌّ لزيدٍ من النّاس إلا بعدَ أن يعيدَ إليهِ هذا الحقّ كاملاً غيرَ منقوص أو بعدَ أن يستسمحهُ فيسامحهُ ذلكَ الإنسان.

هذا القانونُ الرّبّانيُّ إن دلَّ على شيءٍ فإنّما يدلُّ على أنَّ هذا الدّينَ الّذي شرَّفَ اللهُ عزَّ وجلّ به عباده إنّما كلّفنا به من أجلِ أن تحسُنَ صلةُ الإنسانِ بأخيهِ الإنسان، ومن أجلِ أن تتحوّلَ علاقةُ النّاسِ بعضهم مع بعض إلى علاقةِ أسرةٍ متآلفةٍ متماسكة، تلكَ هي مهمّةُ الدّينِ في حياةِ الإنسان، فما جدوى أن يصلّيَ إنسانٌ ويركع وهو إنسانٌ يسخّرُ نفسهُ لتقطيعِ صلةِ القربى بينهُ وبينَ عبادِ اللهِ عزَّ وجلّ؟ ما جدوى أن يذكرَ الإنسانُ ربّهُ بلسانٍ تقليديّ ثمَّ إنّهُ يمعنُ في استلابِ حقوقِ النّاسِ المادّيّةِ والمعنويّة؟ يمعنُ في الكيدِ لهم، يمعنُ في مخادعتهم، يمعنُ في الكذبِ عليهم في التّعاملِ وفي غشّهم في البيعِ والشّراء، ما جدوى أن يصلّيَ كثيراً وأن يذكرَ كثيراً إذا كانت صلاتهُ لا تخيفهُ من هذا الانحرافِ الكبير عن اللهِ عزَّ وجلّ؟ ما جدوى أن يصلّيَ الإنسانُ كثيراً ويركع إذا لم يكن يشعرُ بأيِّ خطرٍ من قولِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلّم: "من غشَّ فليسَ منّا"؟ إذا لم يكن يشعرُ بأيِّ خوفٍ من قولِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلّم: "المسلمُ من سلمَ المسلمونَ من لسانهِ ويده"؟ وانظروا إلى الفصلِ في هذه الجملة: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"، وهذا الذي أقولُ ليسَ تهويناً للطاعات ولا إغراءً للناسِ بتركِ الصّلواتِ ماداموا مثقلين بحقوق البشر، ولكنّي أقول: إنَّ هنالكَ إيماناً وهنالكَ نفاقاً، والنّفاقُ أيضاً درجات كما قالَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليه وسلّم، فلينظرِ الإنسانُ إلى كيانه، ولينظر إلى دخائلِ نفسه، هل فيهِ خصلةٌ كما قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلّم من خصالِ النّفاق؟

إن رأى أنّهُ يخفُّ إلى المساجد عندَ مواقيتِ الصّلوات، ولكنّهُ يخفُّ إلى الكذبِ على النّاس، وغشّهم وخداعهم وأكلِ حقوقهم دونَ أن يخيفهُ ذلك من اللهِ شيئاً، فليعلم أنَّ قلبهُ منطوٍ على خصلةٍ من خصالِ النّفاق. ذلكَ لأنّني لن أكونَ صادقاً مع الله إذا سجدتُ بين يديه وقلت: سبحان ربّيَ الأعلى وبحمده، أو وقفتُ بينَ يديهِ قائلاً: إيّاكَ نعبدُ وإيّاكَ نستعين، وبعدَ قليلٍ أرسمُ خطّةً للكذبِ على النّاسِ واستلابِ حقوقهم المادّيّةِ والمعنويّة، أين هو الخوفُ من الله الذي كنتَ تدّعيهِ قبلَ قليلٍ في قولك: إيّاكَ نعبد وإيّاكَ نستعين؟ إنّكَ تكذبُ على الله.

هذا هو المعنى الذي نذكّرُ به، الحجُّ إلى بيتِ اللهِ الحرام يكفّر، ولكنّهُ يكفّرُ الأوزار التي تكونُ بينَ العبدِ وبينَ ربّه، أمّا حقوقُ العبادِ فلا بدَّ من أدائها، وهذه الأيّامُ المباركاتُ من هذا الشّهرِ المبارك للطاعاتِ فيها أضعافٌ وأضعافٌ من الأجر الذي ينالهُ الإنسانُ في أوقاتٍ أخرى، ولكنَّ هذه الطّاعاتِ كلّها لابدَّ أن تؤسّسَ على أرضيّةٍ هي إعادةُ حقوقِ النّاسِ إليهم أو استسماحهم، فإذا تمَّ هذا المعنى فذلكَ هو المناخُ السّليم الذي يمكنُ أن يتقبّلَ اللهُ سبحانهُ وتعالى من ورائهِ طاعةَ العبد إذا أرادَ أن يطيعه. وما ابتليَ المسلمونَ بما ابتلوا بهِ من ذلٍ ومهانة، وما سلّطَ اللهُ عزَّ وجلّ عليهم أعداءهم هنا وهناك إلا لهذه المعاملة التي يعاملُ بها المسلمونَ ربّهم، يرفعونَ شعاراتِ الإسلام والعبادةِ الصّوريّةِ لهُ ظاهراً، ويمعنونَ في الكيدِ للإسلام وتمزيقِ أوامرِ اللهِ عزَّ وجلّ في نطاقِ الحقوق السّاريةِ مع النّاسِ بعضهم مع بعض باطناً.

عندما تدعى إلى أن تذكرَ الله دونَ أن يكلّفكَ ذلكَ شيئاً من مالك، جاهك، حظوظك، تظهر الورع والحبَّ للهِ عزَّ وجلّ والعاطفةَ الإسلاميّةَ الحارّةَ المتّقدة، فإذا حانَ الحديث عن الحقوق الماليّة ودقّتها، أعرضتَ ونسيت وتكوّنت منكَ شخصيّةٌ ثانية غيرُ تلكَ الشّخصيّةِ الأولى، هذا واقعُ المسلمين اليوم، أصبحوا ذئاباً سُلّطَ كلُّ ذئبٍ على الآخر، وأمامي صور لا تتناهى من هذه المعاني ولعلَّ أبطالَ هذه الصّور حجّاج، مصلّون، يذكرونَ الله، ولكنّها صور ظاهريّةٌ وشكليّة، واللهُ يعاملُ عبادهُ كما يعاملونه. فإذا تأففنا من تسلّطِ الأعداءِ علينا، فلنتأفف قبلَ ذلك من تسلّطِ المسلمين بعضهم على بعض، فلنتأفف قبلَ ذلك من الكيدِ الذي يخططهُ كلُّ مسلمٍ لجارهِ المسلم، وكلّكم يعلمُ صوراً كثيرةً لهذا الذي أقول، أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيم...

تحميل



تشغيل

صوتي