مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 22/01/1993

لهذا السبب تحول المسلمون إلى غثاء

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

طالما استوقفتني فقرةٌ في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المشهور المتداول ولا سيما في هذه الأيام على ألسن كثير من الناس وفي أسماعهم، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "ستداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها" قالوا أمن قلةٍ نحن يا رسول الله يومئذ؟ قال: "بل أنتم كثير ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل" هذه هي الجملة التي استوقفتني من كلام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، "ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل" لماذا يكون المسلمون وهم مسلمون "غثاءً كغثاء السيل"؟ وما المطلوب منهم أكثر من أن يكونوا مسلمين وقد وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم مسلمون وأنهم كثير إذاً فما ينبغي وهم مسلمون أن يكونوا غثاءً كغثاء السيل!.

ولقد تأملت على الرغم من هذا الإشكال الذي طاف بذهني طويلاً، رأيت إلى واقعنا الذي نعيشه فرأيته يشكل مصداقاً دقيقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا، فالمسلمون على الرغم من أنهم اليوم كثير كما تعلمون قد أصبحوا غثاءً كغثاءِ السيل أي كفقاقيع السيل التي تربو عليه؛ يظنه الناظر شيئاً عظيماً وخطيراً، ولكنه فقاقيع فارغة. هذا الواقع يجسد تماماً كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولكن الإنسان يظل يسأل فلماذا آلت هذه الكثرة الكاثرة من المسلمين إلى ما يشبه فقاقيع سيلٍ جارف؟ لماذا ننظر إلى فئات المسلمين وهم شتى، كلهم يتجمل بالانتماء إلى الإسلام، ولكنهم جميعاً معرضون في الحقيقة والواقع عن الإسلام؟

في المسلمين علماءٌ ودعاةٌ إلى الله سبحانه وتعالى، والقلة القليلة منهم هي التي ترعى دين الله عز وجل حقاً، وأكثر هذه الفئة إنما تسعى لخدمة نفسها عن طريق الإسلام، لا تبالي أن تغير ما تشاء أن تغيره من أحكام الله سيراً وراء أهواء نفسها، وسيراً وراء مقتضى مزاجها ورعوناتها، هنالك دعاةٌ إلى الله عز وجل ولكن هؤلاء الدعاة لا يبالون أبداً أن يجعلوا من الإسلام الواحد الذي هو دين الله الواحد إسلامات كثيرة، وليتها كانت إسلامات متعاونة متضامنة، بل يحوّلون هذا الدين الواحد إلى أديانٍ متخاصمة متهارجة؛ يُكفِّر الواحد منهم الآخر. وهكذا تجد أن الزعامة هي التي تسعى سعيها تسخيراً للدين من أجلها أو الأهواء المختلفة الأخرى، وتنظر إلى الأغنياء من هذه الأمة وهم مسلمون تمتلئ بهم المساجد وتجدهم يهرعون في مواسم الحج إلى بيت الله العتيق، ولكنهم عندما يجمعون المال لا يبالون من أي سبيل جمعوه، أمن سبيلٍ مُحَرّم أم من سبيل أحله الله، وإذا عادوا لينفقوه لم يبالوا في السبيل الذي ينفقونه فيه أهو سبيلٌ أحلّه الله أم حرّمه. المهم أن يكون السبيل الأول والثاني متفقاً مع الهوى ومتفقاً مع الشهوات والأهواء والأمزجة، والدين يمكن أن يُسيَّر في الطريق الذي يشاؤون.

وننظر إلى كثير ممن يرعون أمر هذه الأمة، وممن وكل الله سبحانه وتعالى إليهم حماية أمنها وطمأنينتها وأوطانها ونفوسها، فنجد أن البلاء إثر البلاء يطوف بأشخاص المسلمين وبأوطانهم وبأراضيهم، وهؤلاء الذين حمَّلهم الله مسؤولية أن يجتمعوا فيتضامنوا فيَردوا الأخطار عن هؤلاء المسلمين نجدهم في غفلة عن ذلك كله ونجدهم يطوفون حول مصالحهم الشخصية وحدها، ولكنك تنظر إلى هؤلاء وهؤلاء وأولئك .. وإذا الكل منتسبٌ إلى الإسلام، الكل منتمٍ إلى دين الله عز وجل، وهكذا فعلاً أصبحوا تماماً كما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاقيع فارغة كالفقاقيع التي تربوا على وجه سيل ذاهب.

والسؤال الذي كنت إلى أمدٍ قريبٍ أطرحه على نفسي: ما الذي جعل هؤلاء المسلمين في الظاهر غير مسلمين في الحقيقة والباطن؟ ونحن لا نملك أن نقضي بهذا. ولكنهم كما وصف رسول الله غثاء. ما الذي أحالهم إلى هذا وهم مسلمون؟

لقد هُديتُ أيها الأخوة إلى الجواب الذي لا ثاني له لقد بصّرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أن هذا الدين الذي شرّفنا الله به ينهض على ثلاث دعائم لابد منها: الإسلام والإيمان والإحسان، فإذا فُقِدت دعامة من هذه الدعائم الثلاث تهاوت ثمارُ هذا الدين ولم يؤتي هذا الإسلام أُكله أبداً، فلو أن إسلاماً وُجِد وليس معه إيمان لا قيمة له، ولو أن إيماناً وُجد ولكن لم يُتوّج بتاج الإسلام لا قيمة له، ولو أن إسلاماً وإيماناً وُجِدا ولم يُتوّجا بتاج الإحسان فلا قيمة لهذا الإسلام والإيمان إلا في دار الدنيا والأحكام القضائية بين الناس فقط.

وما هو الإحسان؟ حتى نتبين هل نتمتع به نحن اليوم أم لا، سُئِل رسول الله في هذا الحديث عن الإحسان فقال: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" أي أن ترقى في شعورك بعبوديتك لله، وفي يقينك بأُلوهية الله سبحانه وتعالى وسلطانه إلى درجةٍ كلما نظرتَ يميناً أو شمالاً رأيت الله بعين بصيرتك أمامك، فإذا سألته لم تشعر بينك وبينه حجاب من شيء من المكونات وإذا وقفت في صلاةٍ بين يديه لم تشعر أن بينك وبينه أي حجاب، وإذا عُدت إلى منزلك وجالست أهلك وأولادك لم تجد أو لم تشعر أنك غبت عن الله سبحانه وتعالى قط؛ ذلك لأن سلطانه قد هيمن على كيانك. هذا هو الإحسان.

عندما عرفت هذا الذي يقوله رسول الله، أدركت الجواب عن هذا اللغز الذي طالما فكرت فيه، وعرفت أن مصيبة المسلمين اليوم أنهم لا يتمتعون بالإحسان، لو كنت وأنا الداعي إلى الله عز وجل أتمتع بهذه الدعامة الثالثة التي هي الإحسان أنّا ذهبت، ومهما قلت، وكيفما صنعت أجد عظمة الله أمامي وأجدني أتعامل مع الله الرقيب على لساني، والرقيب على أفعالي، والرقيب على نبضات قلبي، فإنه لا يمكن في هذه الحالة أن تحكم عليّ رعونات نفسي ولا شهوات كياني، ولا يمكن أبداً أن أجعل من عصبيتي قائداً لدين الله سبحانه وتعالى، ولا بد أن أُجَمع الأمة الإسلامية الواحدة تحت مظلة الوحدة خلال دعوتي إلى دين الله سبحانه وتعالى، كما كان يفعل أصحاب رسول الله الذين تمتعوا بهذه الدعامة الثالثة التي هي الإحسان.

لو كنت أتمتع بهذا المعنى الذي هو ركنٌ أساسي من أركان هذا الدين لما استطاع الغنى أن يحجبني عن الله الذي أغناني، لما استطاع المال ولو بلغ مئات المليارات أن يُطغيني، ولما استطاع أن يبتليني بمعنىً من معاني الشح، ذلك لأنني أرى المغني أمامي؛ أرى الله عز وجل رقيباً، وأرى ينبوع الغنى في يديه الكريمتين، فهيهات أن يكون المال أكثر من سبيلٍ لمزيد حبي لله عز وجل، ومن ثم فهيهات أن يكون المال سبباً لأكثر من مزيدٍ من التضحية بالمال، وبكل شيء في سبيل رضى الله سبحانه وتعالى.

لو كنت أتمتع بالإحسان هذا الذي عرّفه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لرأيتني وأنا العالم الذي أفتي الناس في أمور الحلال والحرام، أجدني في كل كلمة أنطق بها من أجل أن أصدر فتوى أقف أمام قيوم السماوات والأرض يراقب كلامي، فهيهات هيهات أن أخون دين الله من أجل شهوة نفس أو من أجل رعونة أو من أجل مزاج أو من أجل مذهب أتعصب له، هيهات. ذلك لأنني أرى الله أمامي من خلال هذا الإحسان الذي هو الركن الثالث من أركان هذا الدين، ولكننا لا نتمتع بهذه الثمرة التي يحققها الإحسان، نحن نعاني كما ذكرت لكم من نقيض ذلك، السبب أننا افتقدنا الركن الثالث الذي هو الإحسان، وركنّا إلى مظهر الانتماء إلى الإسلام، نحن مسلمون ولم يكلفنا الإسلام أكثر من الشهادتين، ونقول إننا مؤمنون والإيمان خفي لا يلاحقك في تحقيقه قاضٍ ولا حاكم، ومن ثَمّ فلا يُطّلع عليه إلا الله سبحانه وتعالى، والإحسان هو غذاء الإيمان، والإيمان أيضاً غذاء للإحسان، وبينهما تفاعلٌ مستمر.

كثيرون هم الذين ذكّرتهم في مناسبات شتى بهذا المعنى، ولكن البلاء الأطم أنني فوجئت من كثيرٍ من هؤلاء وهم مسلمون باستهزاءٍ بهذا الكلام بسخرية من هذا الأمر، وكم قال منهم قائل: وماذا عسى أن يفيدنا كثرة الذكر وحمل المسابح ونحن نعاني من مصائب تحتاج إلى فكر؟ تحتاج إلى تخطيط؟! وكأن هؤلاء الأخوة إنما يناقشون الله لا يناقشونني.

إن ربنا عندما وصف النخبة الطاهرة من عباده إنما وصفهم بأوصاف الإحسان "كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون، وبالأسحار هم يستغفرون" ثم قال: "وفي أموالهم حق معلومٌ للسائل والمحروم" ذلكم هو الإحسان وطريقه وتلك هي النتائج. ويقول: "قد أفلح المؤمنون" وبماذا وصفهم بادئ ذي بدء؟ "الذين هم في صلاتهم خاشعون" وما الخشوع؟ إنه الإحسان. "أن تعبد الله كأنك تراه" نعم. ووصف المؤمنين في مكان آخر: "والذين آمنوا أشد حباً لله"

ونبهنا إلى طريق الإحسان وأجاب من يقول: فكيف السبيل إلى أن أعبد الله وكأني أراه؟ قال له من خلال خطابه لرسوله: "واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلاً" هذا التبتل مع كثرة ذكر الله هو الذي يملأ كيانك بمعنى الإحسان، وكم كرر وأعاد البيان الإلهي هذا المعنى، وإلا فما معنى كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما" وما معنى كلامه في الحديث الآخر وهو وإن كان ضعيفاً إلا أن الأول بمعناه: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به" كيف يكون هذا؟ كيف السبيل وأين هم الذين برهنوا على أن أهوائهم وقفت خادماً لما جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

أيها الأخوة نحن اليوم كما وصف رسول الله غثاءٌ كغثاء السيل، وهذا الواقع لا يرتاب فيه أحد، ولكن الأهم من أن نعلم مصداق كلام رسول الله أن نعلم الداء الذي أصابنا حتى كنا نحن المظهر الذي يجسد كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، نحن فقدنا الركن الثالث من أركان هذا الدين، ألا وهو الإحسان الإحسان، والإحسان كما علمتم كلكم يعرف معناه، ولو أن الأغنياء فينا رجعوا إلى قلوبهم، ولو أن الجماعات الإسلامية وكثيراً - لا كل – من الدعاة إلى الله عز وجل رجعوا إلى قلوبهم لعلموا أنهم قد فقدوا الإحسان، أجل قد فقدوا الإحسان، ومرة أخرى أقول: بعد أن فقدنا هذا المعنى الرباني، فقدنا الإحسان. ما فائدة التخطيط؟ بوسعي أن أخطط وبوسعك أن تجتمع معي على هذا التخطيط، وليس المهم في أن نمسك بقلم ونخط به على ورق، المهم أن نجعل من هذا التخطيط فعلاً. فما القوة التي تحيل الخط على ورق إلى فعلٍ نافذ؟ الإحسان. والإحسان غير موجود.

قال لي واحد من هؤلاء الأغنياء المترفون في مجلسٍ ضمنا قال متمجلقاً: لم أسمع خطيباً من خطباء الجمعة يتكلم عن مصيبةٍ البوسنة والهرسك، لم أسمع واحداً من الخطباء يتحدث عن هذه المصيبة، ونظرت إليه وكدت أن أفتح ساحة نقاش وجدل بيني وبينه، ولكني رأيت إني مندفعاً إلى هذا بانتصار ذاتي فصمت. قلت لنفسي: ترى لو أن الخطباء تكلموا عن البوسنة والهرسك وندبوك إلى أن تذهب إلى هناك فتترك تجارتك وأرضك وأموالك لمدة ثلاثة أشهر أكنت فاعلاً ذلك؟ لا والله الذي لا إله إلا هو قط. إذاً ما الفائدة التي تنتظرها من أن يحدثك الخطيب عن البوسنة والهرسك؟ أمن أجل أن تخرج وقد أرضيت غرورك الإيماني أنك قد أرضيت الله بأنك قد هززت الرأس حماساً لما قد سمعت، ومن هو الذي تتعامل معه؟ إنه ربٌ لا يُخدع إنه الله سبحانه وتعالى، مصيبة البوسنة والهرسك نتيجةٌ لأخطائنا نتيجة لبعدنا عن الله. وقلت: بالأمس إنها دخانٌ متصاعدٌ من نار فلا تشغلنك صورة الدخان، بل انظر إلى النار بسبب أي موجب اضطرمت، وإن كنت ذا بصيرة فعلاً فأقبل إلى هذه النار فأطفئها من حيث وُلِدت يذهب الدخان كله بدداً.

عجبي من أناس ضلوا سبيلهم إلى الله ملأوا بيوتهم بشغلٍ شاغلٍ عن الله بلهوٍ لا أريد أن أتحدث عن أصنافه، يستقدمون اللهو من أقصى غرب العالم ليحشوه في بيوتهم، ثم إنه يتألم من أن الخطباء لا يتكلمون عن البوسنة والهرسك، أفقد وصلت بنا مصائبنا إلى درجة أن نتجمل بجراحاتنا، أن نتجمل بآلامنا نجعل من آلامنا وجراحاتنا ومصائبنا رأس مالٍ لتفاخرٍ بأنا مسلمون دون أن يكلفنا ذلك جهداً، دون أن يكلفنا ذلك عملاً.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي