مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 15/01/1993

سبيل القضاء على مشكلاتُ العالم الإسلامي

الحمدُ للهِ ثمَّ الحمدُ لله، الحمدُ للهِ حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، ياربنا لك الحمدُ كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانكَ اللهمَّ لا نحصي ثناءً عليك أنتَ كما أثنيتَ على نفسك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا ً عبدهُ ورسولهُ وصفيهُ وخليلهُ، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهمَّ صلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمَّد صلاةً وسلاماً دائمينِ متلازمينِ إلى يومِ الدّين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسيَ المذنبةَ بتقوى اللهِ تعالى..

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

يحتفلُ المسلمونَ في الأيامِ القليلةِ القادمة بذكرى الإسراء والمعراج كما هو الشأنُ في كل عام، وبقطعِ النظر عن الميقاتِ الدقيقِ المحدَّدِ لهذه الـمَكرُمة التي أكرم اللهُ بها رسولَهُ محمَّداً صلّى الله عليه وسلّم، وبقطعِ النظرِ عن خلاف العلماءِ وعلماءِ التَّاريخِ حولَ ميقاتِ هذهِ الـمَكرُمة، فإنَّنا نرى أنَّهُ من الخير أن يحتفي المسلمون كل عامٍ بهذه الذكرى، وإننا لنرى أنها فضيلةٌ من الفضائلِ أن ينتهز المسلمونَ أي مناسبة من المناسبات التاريخية المتألقة في حياة المسلمين أو في سيرة سيدنا محمَّدٍ رسولِ الله صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم، فيجعل من تلكَ المناسبةِ فرصةً للتَّلاقي وللمذاكرةِ في شؤونهم وشؤون دينهم وللتناصح، ولكي يسير أو يشيع فيما بينهم واجبٌ طالما قد أغفلوا أو تغافلوا عنه، وهو واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذلكَ فلا داعيَ إلى أن نتسائلَ في أي يومٍ أو في أي شهرٍ أو في أي سنةٍ كانت مكرمةُ الإسراءِ والمعراجِ التي ميَّزَ اللهُ بها رسولَهُ محمَّداً صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عن سائرِ الرُّسُلِ والأنبياء، ذلكَ لأنّنا في هذا المقام لسنا في معرضِ تحقيقِ حادثة تاريخية، وإنما نحن في معرض انتهازِ مناسَبَةٍ وابتهالِ فرصةٍ لكي نجتمع فنتذاكرَ شؤوننا ولكي نتذكَّر في خير سبيل يعيدنا إلى رشدنا.

ومشكلات المسلمين التي تستدعي منهم التلاقي والتشاور والتذاكر، مشكلات كثيرة، قريبةٌ وبعيدة، منها ما هو جاثمٌ على صدورهم وفي عقرِ دورهم، ومنها ما هو قريبٌ منهم جداً، ومنها ما هو بعيدٌ ولكنَّهُ داخلٌ في حدودِ عالمنا الإسلامي هذا الذي وصفه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وشبَّههُ بالجسدِ الواحدِ الذي إذا شكى منه عضوٌ تداعى لهُ سائرُ الجسدِ بالسَّهَرِ والحمّى.

ونظراً إلى أن هذا الجسد الواحد قد تقسَّمَ وتشرذَمَ وتحوَّل إلى ما يشبهُ أعضاءً متفرّقةً متنابذةً لا يشعر عضوٌ منها بألمِ عضوٍ آخرَ نظراً إلى أنَّ هذا هو واقعُنا في هذه الأيام. فإنَّ علينا وقد بقي فينا رمقٌ وبقيت فينا نسبةٌ ما إلى هذا الدينِ الإسلاميِّ الحنيفِ ينبغي أن ننتهز فرصاً كهذه لنعود فنسعى جهدنا من أجل أن نلمَّ شعثَنا، ومن أجل أن نعيد هذه الأعضاء فنجعل منها كتلة واحدةً لعلَّ الحياةَ تسري في أوصالِها، ولعلَّ اللهَ سبحانهُ وتعالى يوفِّقُنا لأن نستعيد هذا المعنى الذي وصفنَا رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بهِ إذ قال: "المسلمون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".

أجل، إنَّ مشكلاتِ المسلمينَ اليومَ كثيرةٌ جداً أيها الأخوة، وإنَّ الانسان ليحارُ بأيِّ هذهِ المشكلاتِ يبدأ .. ولكنَّ الأمر لا يقفُ عندَ هذا الحدّ، وليست المشكلة كامنةً في أن علينا أن نبدأ بهذه المشكلة أو تلك، وإنما المهمُّ جداً: أن نبحثَ عن الحلولِ لهذهِ المشاكلِ إذا تذكرناها.

قلتُ مرّةً: إنَّ منَ اليسيرِ عليَّ أن أستثير حماسةَ النَّاسِ وأن أجعلَ من كلٍّ منهم ما يشبهُ الشواظَ واللهبَ إذا ما أردتُ أن أصفَ مشكلةً من المشكلاتِ الإسلاميّةِ التي يعاني منها العالمُ الإسلاميُّ قريباً أو بعيداً عنّا، لكن هذا لا يرضي الله عزَّ وجل.. إنّما الذي يرضي اللهَ أن نجعل من الحديث عن مشكلاتِنا مقدمةً لبيانِ سبيلِ الحلِّ إليها لا بدَّ أن نتبيَّنَ الحلّ، المشكلاتُ معروفةٌ والحديثُ عنها قديمٌ وليسَ جديداً، والناسُ عندما يتكلَّمونَ عن هذهِ المشكلاتِ إنَّما يتبارونَ في ساحةٍ من البلاغة، وإنما يتنافسون في ساحة من التسابقِ من أجل اكتسابِ العقول والقلوبِ في نطاق البلاغةِ والبيانِ وسحرِ الحديث المؤثِّر، وهذا لا يفيدُ المسلمينَ شيئاً هو استغلالٌ للإسلامِ وليسَ خدمةً للإسلامِ ولا المسلمين.

هذهِ المشكلاتُ بقضِّها وقضيضِها على اختلافها وعلى تنوُّعها وقربِها أو بعدها عنّا ما سبيلُ القضاءِ عليها؟ أو ما سبيلُ الدخولِ في طريقةٍ ما إلى مقاومتها؟ ينبغي أن نعلمَ أيها الأخوة أن سبيلَنا إلى ذلكَ سبيلٌ واحدٌ لا ثاني له، ألا وهوَ: أن يتضامنَ المسلمونَ باسمِ هذا الدين، وأن ينبُذُوا عواملَ الفُرقةِ التي ضربت بجذورِها فيما بينَهم، وأن يعودَ كلٌّ منّا إلى رشدهِ ويتساءل هل هوَ مخلصٌ لوجهِ اللهِ عزَّ وجلَّ فيما يستثيرهُ من عواملِ التّفرقةِ بينَ المسلمين. هذا هو الدواء وهو العلاج، وهو علاجٌ واضحٌ وبسيطٌ لا يحتاجٌ إلى كثير ترجمةٍ ولا يحتاج إلى كثير فلسفة، ولحسن الحظِّ كما قلتُ قبلَ أيّامٍ أنَّ هذا العلاجَ واقعٌ تحتَ طاقتِنا وهو مِلكُ أيدينا، فنحن نملكُ إذا شئنا أن نتضامنَ ونملكُ أن لا نتضامن، وإذا كان الأمرُ كذلكَ فينبغي أن نتساءل ما السَّبيلُ إلى أن يتضامنَ المسلمونَ ويتّحدوا ويتآلفوا والكل يعلن أنهم مسلمون؟ الكلُّ يعلن أنه مؤمن بالله عز وجل، إذاً فالكلُّ مؤمن بضرورةِ اتّباعِ أمرِ اللهِ عزَّ وجلَّ القائل: ((واعتصموا بحبل اللهِ جميعاً ولا تفرَّقوا واذكروا نعمةَ اللهِ عليكُم إذ كنتم أعداءً فألَّفَ بينَ قلوبِكم فأصبحتم بنعمتِه إخواناً وكنتُم على شفا حفرةٍ منَّ النارِ فأنقذَكُم منها)).

كلُّنا يردد هذا البيانَ الإلهيَّ العظيمَ وهذا التكليفَ الذي وضعهُ اللهُ سبحانهُ وتعالى في أعناقِنا.

مصيبتُنا أيُّها الإخوةُ لا تكمن في أولئك الناس الذين رُحِّلوا من دورِهِم وبيوتِهم لتستقبلهمُ الأرضُ العراءُ بل لتستقبلهم الأمراض فيتساقطوا واحداً إثرَ آخرٍ في براثن المرضِ المهلك، نعم هي مصيبةٌ لكنَّها فرعٌ عن مصيبةٍ كبرى، المصيبة الكبرى: هي واقعُنا القذرُ الذي سبَّبَ هذه المصيبة، والمصيبةُ الكبرى لا تكمنُ في تلكَ الحربِ الضَّروسِ الّتي ما تزالُ تشتعل هناك بين المسلمين وأعداء المسلمين، تلك الحربُ التي شاءَت خططُ أعداءِ اللهِ عزَّ وجلَّ أن لا تدورَ رحاها إلّا على المسلمينَ والعالمُ كلّه يرى وينظر، أجل إنّها مصيبةٌ لكنها هيَ الأخرى فرعٌ عن مصيبة كبرى يعاني منها المسلمون.

ويا عجباً لأناسٍ عميَت أبصارُهُم عن جذعِ المصيبةِ الكبرى، ثم أخذوا يحلِقونَ في فروعِها وأغصانِها وجزئياتها الطّبيعية، عجباً، عجباً لا ينتهي لأناس عميت أبصارهم عن رؤية اللهب الذي يتصاعد من زوايا دارِهم ولكنَّهم أخذوا يحلِقون في دخانِ هذا اللهب ويتحدثون عن آثار هذا الدخان وضرر هذا الدخان هذا هو واقعنا وكم قيل لي: ألا تتكلم عن البوسنة والهرسك؟ ألا تتكلم عن هؤلاء الفلسطينيين الذين أجلوا وأخرجوا عن دورهم بغير ذنب وبغير حقّ؟

وإن هذا الطَّلب لعجبٌ ما بعدَه عجبٌ أيضاً وكأنَّ هؤلاءِ الإخوةَ يريدون منّي أن أنسى السرطان المستشري في جسم هذه الأمة وأن أتحدث بدلاً عن ذلك عن آثار هذا السرطان سواءً كان صداعاً في الرأس أو كان اصفراراً في الوجه أو كان أيّاً من الأشياء الناتجة الأخرى عن هذا المرض، لا يهمني أن أتحدَّثَ عن دخانٍ لنيرانٍ تضطرب، إنّما الذي يهمُّني أن أتحدَّثَ عن هذهِ النَّارِ ما الذي ألهبَهَا؟ وما الذي أوقدها؟ ومن ثمَّ ما الذي يقضي عليها؟ نحنُ مسلمون، هل نحن مسلمون فعلاً؟ أولُ معنىً من معاني الإسلامِ وأوَّلُ أثرٍ من آثارهِ في حياةِ ثلةٍ من المسلمينَ هو التّضامن، وهو التكافلُ والتعاون، وهو الاصطباغُ بقولِ اللهِ عزَّ وجلّ: (إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم)، فأين هوَ الاصطباغُ بهذا المعنى أيُّها الأخوة؟

هنالك على البعدِ أو على القربِ منابرُ تعتزُّ في كلِّ أسبوعٍ بالحديثِ عن البوسنة والهرسك ربما، لكنَّ هذه المنابرَ ذاتَها هي التي تصدِّع صفوف المسلمين، وهيَ الّتي تتَّهمُ المسلمينَ بالكفرِ والشّرك والتبديعِ ونحوِ ذلك، وهيَ التي تجعلُ من جسمِ الكتلة الإسلاميّةِ الواحدةِ مِزَقاً متفرقةً شتّى: هؤلاء أشاعرُ وأولئك متصوِّفةٌ وأولئك وأولئك وأولئك. ترى ماذا نصنع بعد هذا؟ هل نتجه من أجل مقاومةِ هذا التفريقِ ومن أجل ردعِ هذا الصدع؟ أم نتَّجهُ إلى الجهةِ الأخرى من أجلِ مقاومةِ هذا العدوانِ المستشري بين المسلمين؟ وهل يستطيعُ المسلمونَ أن يقاوِموا عدواناً اتجهَ إليهم قبلَ أن يوحِّدوا صفوفهم؟ وهل أقدم رسولُ الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ على عملٍ ما من هذه الأعمال الجهادية إلا بعد أن نظر إلى أصحابه من حوله وقد اتحدت كلمتهم واجتمع شملهم ووحَّد هذا الإسلام العظيم ما بينهم؟ ترى لو لم يتحقق لهم ذلكَ أفكانَ يتَّجهُ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليهِ وسلَّمَ إلى الأشواطِ الأخرى وهوَ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلمَ؟ كان يعلمنا وكان يخطِّطُ لنا وكان يرشدُنا.

ترى ما هي الجدوى من أن نخطِّطَ للكلامِ النظريِّ من أجلِ القضاءِ على عدوانٍ يستشري فعلاً ضدَّ إسلامِ المسلمينَ، وقد تحوَّلَ المسلمونَ على مستوى الشُّعوبِ مع حكَّامهم وعلى مستوى القادة بعضهم تجاه بعض؟ تحوَّلوا إلى مِزَق، وتحولوا إلى فئاتٍ متصارعة، إذا كان المسلمونَ قد تحولوا إلى فئاتٍ يتصارعونَ فمالِ أعدائهم لا ينقلبونَ همُ الآخرونَ إلى العملِ ذاته؟ شيءٌ غريبٌ أن نعجبَ إذا كان المسلمونَ قد أصبحت مهمَّتُهُم أن يحارب بعضهم بعضاً إن بالقيل وإن بغير القيل، لماذا تتعجَّبُ من أن يفعل أعداءُ المسلمينَ بهم ما يفعلُهُ المسلمونَ بعضَهم مع بعض؟ لماذا؟ لو كان المسلمون يداً واحدة، لو كانوا صفاً واحداً، لو كانواً قلباً واحداً وكانت وحدتهم تنبثق من الاصطباغِ بحقيقةِ العبوديَّةِ للهِ عزَّ وجلَّ لرأيتَ أنَّ اللهَ سبحانهُ وتعالى كفَّ أيديَ أعدائِهِم عنهُم كما كفَّ أيديَهم عن ذلكَ الرعيلِ الأوَّل عندما كانوا مسلمين حقاً، بل عندما كانوا متفقين ومتساندين.

ومن أين يأتي هذا التضامن أيها الإخوة؟ يأتي التضامنُ من معرفةِ أنَّ الإسلامَ ليسَ مجرَّدَ نظامٍ وإنَّما هوَ قبلُ ذلكَ عبوديّةُ راضيةٌ خاضعةٌ للهِ عزَّ وجلّ.

بالتَّعاونِ على كلِّ المستوياتِ اتّحدت الجماعاتُ الإسلاميّةُ فيما بينَها وتضامَنَت الجماعاتُ الإسلاميّةِ مع قادتِها واتَّحدت أو تضامنت قادةُ المسلمينَ بعضُهم مع بعض، ولكن طالما كنّا نتصوَّرُ ونحنُ مسلمونَ ننادي بالإسلام، طالما كنّا نتصورُ الإسلامَ مجرَّد نظامٍ فوقيٍّ مجرَّد، منهجَ حياةٍ مجرّد، بضعةَ قوانين، فإنَّ هذا التصوُّرَ لا يمكنُ أن يقضيَ على أيِّ مشكلةٍ في حياتنا لأننا لم نتعامل مع الإسلام الذي ارتضاهُ اللهُ لنا. لم نتعامل مع الإسلامِ الذي قال اللهُ عزَّ وجل عنه: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام ديناً). نحن نتعاملُ مع ثمرةٍ من ثمارِ الإسلام ولكنّنا لا نتعاملُ مع شجرتهِ بدئاً من الجذعِ الضّاربِ جذورَهُ في القلبِ وصعوداً إلى هذه الثمار.

المسلمونَ أو أكثرُ المسلمينَ اليومَ إنّما يحلمونَ بإسلامٍ حضاريٍّ يحلمونَ بإسلامِ النّظام، يحلمونَ بالإسلام المنهج، وباختصار: يحلمونَ بالإسلام الحضاريِّ المتألِّق، أو يحلمونَ بأن يقطُفُوا الثِّمارَ دونَ أن يتعِبوا أنفسهم في إيجاد هذه الثمار وفي استنباتها. أمّا المسلمون من قَبلِنا فلا واللهِ لم يكونوا يحلمون بالثّمار، ولكنهم كانوا يحلمون بأن يغرِسوا شجرةَ العبودية لله بين حنايا ضلوعهم وأن يكونوا في حالٍ يطمئنّونَ إلى أنَّ اللهَ راضٍ عنهم فيها ثم إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ أكرمهم بهذهِ الثِّمار، فإذا عدنا إلى ما كانَ عليهِ أولئِكَ الصّحابة، إلى ما كان عليهِ ذلك الرّعيلُ الأوَّل ورعينا إسلامِنا انتماءً بالعبودية إلى الله وامتثالاً إليهِ ثمَّ افترضنا هذه الحقيقة، فإن هذه الحقيقةَ سرعانَ ما تجمعُنا وسرعانَ ما تؤلِّفُ بين أشتاتِنا على كلِّ المستويات وعلى سائر المستويات، وعندئذٍ يقذفُ اللهُ سبحانهُ وتعالى الرُّعبَ في قلوبِ أعدائنا.

ويا عجباً بل أقولُ: إنّهُ لعجبٌ لا ينتهي من أن يدرِكَ هذهِ الحقيقةَ أعداءُ الإسلام ثمَّ لا يدرِكَها المسلمون، أدركَها أعداءُ الإسلامِ فبدأوا قبلَ أن يحارِبونا بتقطيعِ أوصالِنا وبتمزيقِ شملِنا، ولـمَّا تحقَّقَ لهم ما طلبوا بدأوا بعد ذلك بالحربِ التي تعرفون، وغاب عنا ما لم يغب عن أعدائنا، ونسينا أن قوتنا في تضامننا، ونسينا أن إسلامنا إنّما يعني وحدتنا لأن الناس إذا آلُ إلى عباد لله بالسلوك الاختياري لا بدَّ أن تؤول حياتهم إلى وحدةٍ متضامنةٍ متكافلة، لم نعي هذا المعنى بالوقتِ الذي وعاه أعداؤُنا وإنما حططنا أنفسنا في طريقٍ يناقضُ ذلك، وأمعنّا في تقطيع أوصالِنا، وأمعنّا في تحويل إسلامِنا إلى إسلاماتٍ شتّى، ويأتي من يقول لي بالأمس: ألا سبيلٌ إلى القضاءِ على هذه الخلافات الاجتهادية؟ وكأن الخلافاتَ الاجتهاديّةَ هي الجرثومةُ التي تفتكُ في حياتِنا، وهذه أيضاً من المصائب: هذه الخلافاتُ الاجتهاديّةُ موجودةٌ في عصر رسول الله، موجودةٌ في عصرِ الصّحابة، موجودةٌ في العصرِ الذهبيِّ في حياةِ المسلمين، إذاً هيَ ليست جرثومةً بل هي أبوابُ غنىً وثروة. ولكن المصيبة لا تكمن في هذه الخلافات، المصيبةُ تكمنُ في القلوبِ التي لم تتطهَّر، في النّفوس التي لم تُزكى، ولو شئتَ أن تأتيَ بكميّةٍ من العسلِ الذي جعلهُ اللهُ شفاءً للنّاسِ فأفرغتَهُ في وعاءٍ قذر، في وعاءٍ متنجِّس، أفتغلبُ طهارةُ العسلِ النّجاسةَ أم تغلبُ النجاسةُ طهارةَ العسل؟ العسلُ يفسُدُ. فما قيمةُ أن أحتضنَ أموراً خلافيّةً إذا كانت هذهِ الأمورُ الخلافيّةُ تجتمعُ في فؤادي مع مشاعرٍ من الأحقاد، من الضّغائن، منَ الرّياء، منَ العُجب، منَ السَّعيِ وراء المصلحةِ الشخصية، وراء الأنانية، هذا هو الذي يجعلُني أقول: الإسلامُ الحقُّ هو العبوديّة لله، لأنَّ الذي يحرقُ هذه المشاعرَ كلَّها إنّما هو شعورُ الإنسانِ بعبوديّتهِ لله، فإذا شعرتُ بأنّي عبدٌ للهِ سَحَقَ هذا الشُّعورُ كبريائي، سَحَقَ عصبيَّتي، سَحَقَ حقدي، سحق أنانيّتي، سَحَقَ كلَّ هذهِ المعاني القذرةِ التي قذَّرت وعاء قلبي.

ولذلكَ يخيَّلُ إلى كثيرٍ من النَّاسِ أنَّ هذهِ الخلافاتِ الاجتهاديَّةَ هيَ الّتي صَدَّعت صفوفَ المسلمين، هيَ لم تصدع لكنّها صادفت منبتاً سيئاً فتحولت هذه الخلافات إلى ما يقتضيه هذا المنبت، ورحمَ اللهُ الإمامَ الغزاليَّ القائل: (زيادةُ العلمِ في الرَّجُلِ السيِّءِ كزيادةِ الماءِ في أصول الحنظلِ كلَّما ازدادَ ريّاً ازدادَ مرارة). أسألُ اللهَ سبحانهُ وتعالى أن يجعلَ من هذهِ المصائبِ التي ابتلانا بها سببَ يقظةٍ في حياتِنا وسرَّ تأديبٍ للرّجوعِ إلى دينِنا، وأسألُ اللهَ عزَّ وجلَّ أن يرزقَنا الإخلاصَ في دينِه، أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيم...

تحميل



تشغيل

صوتي