مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 11/12/1992

أخطر عقاب يعاقب به المعرضون

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أمّا بعدُ فيا عبادَ الله:

إنَّ من سننِ اللهِ سبحانهُ وتعالى في عبادهِ: أنّهُ يعاملهم بأساليبَ شتّى طبقَ مراحلَ متعدّدة، وطبقاً لحكمتهِ الذي ألزمَ اللهُ سبحانهُ وتعالى بها ذاتهُ العليّة، فقد ألزمَ ربُّنا سبحانهُ وتعالى نفسهُ بأن يُكرِمَ عبادهُ بكلِّ نعمهِ الظّاهرةِ والباطنة، وأن يجعلَ لهم من هذهِ الأرضِ التي أقامهم عليها مائدةً عامرةً تزدهرُ عليها صنوفُ إنعامهِ وإكرامه. ولكَم أكَّدَ البيانُ الإلهيُّ هذا قانوناً دائماً وقاعدةً مستمرّةً في تعاملهِ مع عباده، انظروا إلى قولهِ عزَّ وجلَّ: (كلوا من طيِّباتِ ما رزقناكم ولا تطغوا فيه). انظروا إلى قولِ اللهِ سبحانهُ وتعالى: (كلوا من رزقِ ربِّكم واشكروا له بلدةٌ طيّبةٌ وربٌّ غفور). انظروا إلى قولهِ عزَّ وجلّ: (هوَ الذي جعلَ لكمُ الأرضَ ذلولاً فامشوا في مناكبِها وكلوا من رزقهِ وإليهِ النّشور).

ثمَّ إنَّ الإنسانَ بعدَ ذلكَ أحدُ رجُلين: رجلٌ أقبلَ إلى نِعَمِ اللهِ الوفيرةِ هذهِ فاستفادَ منها وقابلَ ربَّهُ سبحانهُ وتعالى عليها بالشّكرِ وبالثّناء، وعندئذٍ فإنَّ من سنّةِ ربِّ العالمينَ تجاهَ عبادهِ هؤلاء أن يُضاعِفَ لهم من هذهِ النِّعم، وأن يزيدهم من هذهِ الآلاء، ولقد قرأتم في ذلكَ قولَ اللهِ عزَّ وجلَّ: (لئن شكرتم لأزيدنّكم). فما من إنسانٍ أقبلَ إلى نِعمِ اللهِ عزَّ وجلَّ يتقلَّبُ فيها مقبِلاً إلى اللهِ عزَّ وجلَّ بالشُّكرِ الحقيقيِّ إلا وحصَّنَ اللهُ سبحانهُ وتعالى لهُ نِعَمهُ وزادهُ نِعَماً إليها. ورَجلٌ آخرُ تقلَّبَ في نِعَمِ اللهِ سبحانهُ وتعالى ثمَّ جعلَ منها حاجزاً يبعدهُ عنِ اللهِ سبحانهُ وتعالى، وجعلَ منها أداةَ نسيانٍ ينسيهِ فضلَ اللهِ سبحانهُ وتعالى، فهؤلاءِ النّاسُ يعاملهمُ اللهُ سبحانهُ وتعالى بطريقةٍ أخرى، ربَّما قلَّصَ منهم بعضاً من هذهِ النِعَم، ربَّما استبدلَ بها بعضَ ما نظنُّهُ نِقماً ومصائب، وهيَ في الحقيقةِ وفي المرحلةِ الأولى ليست مصائب، ولكنَّها ألوانٌ من التّطبيبِ وألوانٌ منَ العلاج، هؤلاءِ النّاسُ الذينَ أقبلوا إلى نِعَمِ اللهِ عزَّ وجلَّ يعبُّونَ منها عبّاً، ويتقلَّبونَ في رغدِ عيشِهم وهم عنِ المنعمِ معرضون، وهم عن حقوقِ اللهِ عزَّ وجلَّ سادرون، يعاملهمُ اللهُ بادئَ ذي بدئٍ بالتّطبيب: يرسلُ إليهم بعضَ المصائبِ التي نظنُّها مصائب، يرسلُ إليهم بعضَ ما يبعثُ اضطراباً أو زلزالاً في مستوى رغدِ عيشهم ونعيمهمُ الذي يتمتّعونَ به، ولكنَّ هؤلاءِ النّاسِ لو تأمّلوا لرأوا أنَّ في هذا التّطبيبِ لوناً آخرَ منَ النِّعمِ التي يكرمُ اللهُ عزَّ وجلَّ بها عباده، ولرأوا في تضاعيفِ هذهِ المصائبِ، مظاهرَ رحمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ بهم.

وهؤلاءِ النّاسُ أيضاً أحدُ رجلين: رجلٌ استجابَ لهذا التّطبيب، واستجابَ مرضهُ لهذهِ المداواةِ ولهذا العلاجِ فاستفاقوا من غفلتهم وعادوا إلى رشدهم، وعادوا يشكرونَ اللهَ عزَّ وجلَّ على نِعمه، وتذكَّروا هويَّاتهم عبيداً صاغرينَ أذلاءَ للهِ عزَّ وجلّ، وهؤلاء سرعانَ ما يعيدهمُ اللهُ سبحانهُ وتعالى إلى سابقِ عهدهم، وسرعانَ ما يضاعفُ لهم من نعمهِ إذ ينتهي دورُ التّطبيبِ ويعودونَ إلى ما كانوا عليهِ من غذاء. ورجلٌ آخرُ لا تُعمِلُ فيهِ هذهِ العلاجاتُ أبداً، ولا يتأثَّرُ مرضهُ بهذهِ المداواةِ قَطّ مهما بعثَ اللهُ سبحانهُ وتعالى إليهمُ القوارعَ التي تحلُّ بهم أو قريباً من دارهم كما قالَ اللهُ عزَّ وجلّ، فهم يبقونَ سادرينَ في غيّهم، يتقلّبونَ في أهوائهم، عاكفونَ على النِّعَمِ التي أغدقها اللهُ عزَّ وجلَّ عليهم، وقدِ اتّخذوا منها سَكَراً جعلهم يعرضونَ عن الله، ويستكبرونَ على اللهِ سبحانهُ وتعالى.. فمهما نبّههمُ المنبِّهون، ومهما أرشدهمُ المرشدون، ومهما تليَت على مسامعهمُ القوارعُ المخيفةُ من كتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ فإنَّ ذلكَ كلَّهُ أضعفُ من أن يوقظهم من سكرتهم، أو أن يردَّهم من كبريائهم، أو أن يعيدَهم إلى صراطِ اللهِ عزَّ وجلّ. ومعَ ذلكَ فإنّهم يرونَ هذهِ النِّعَمَ لم ينقطع حبلُها، ولم ينقطع عنهم رفدُها، فكيفَ يعاملُ اللهُ هؤلاءِ النّاس؟

هؤلاء يعاملهُم بالعقوبةِ التي هيَ عقوبةٌ حقيقيّةٌ وليست تطبيباً، يعاملُهم بالمصائبِ والرّزايا التي هيَ مصائبُ ورزايا في ظاهرِها وباطنِها، وليست تطبيباً أبداً، وليسَ فيها ما يفيدهُم، ولكنَّها مظهرٌ من مظاهرِ اسمٍ من أسماءِ اللهِ عزَّ وجلّ، ألم تعلموا أنَّ من أسمائهِ أنّهُ: (عزيزٌ ذو انتقام)؟ إنّهُ (الرّحمن)، وإنّهُ (الرّحيم)، وإنّهُ (الغفور)، وإنّهُ (الشّكور)، وإنّهُ (المنعم)، ولكنّهُ في الوقتِ المناسبِ أيضاً (عزيزٌ ذو انتقام).

وأحبُّ هنا أن أوضِحَ أيُّها الإخوة: أنَّ انتقامَ اللهِ عزَّ وجلَّ من هذهِ الفئةِ من عبادهِ يكونَ على نوعينِ اثنين: هنالكَ انتقامٌ خبّأهُ اللهُ سبحانهُ وتعالى لهم ليفاجؤوا بهِ في الحياةِ الآخرةِ بعدَ أن ينتقلوا من هذهِ الحياةِ الدّنيا عبرَ بوّابةِ الموتِ إلى تلكَ الحياةِ الأخرى التي تنتظرُهم، ولكنَّ هنالكَ عقاباً عاجلاً أيضاً، يبتلي اللهُ سبحانهُ وتعالى بهِ مَن شاءَ مِن عباده، بل يبتلي اللهُ عزَّ وجلَّ بهِ هؤلاءِ النّاس، فما هوَ هذا العقابُ العاجل؟ العقابُ العاجلُ الذي يتجلى فيهِ معنى انتقامِ اللهِ عزَّ وجلَّ متنوّعٌ وكثيرٌ جدّاً، وليسَ لي غرضٌ في أن أستعرِضَ معكم أنواعَ هذا العقابِ في هذا الموقف، ولكنّي أقصدُ إلى أن أذكِّركم بنوعٍ منهُ هو أخطرُ أنواعِ العقابِ العاجلِ الذي يعجّلهُ اللهُ سبحانهُ وتعالى للمستكبرينَ من عباده، الذي لم تُعمِل فيهم المداواةُ والعلاج، ولم يؤثِّر فيهم التطبيب، أريدُ أن ألفتَ نظركم إلى أخطرِ عقابٍ عاجلٍ بينَ هذهِ الأنواعِ كلِّها، إنّهُ: قسوةُ القلب، عرفَ ذلكَ من عرفَ وجهلهُ من جهِل، وهوَ العقابُ الذي ألمحَ إليهِ بيانُ اللهِ عزَّ وجلَّ في قولهِ: (واعلموا أنَّ اللهَ يحولُ بينَ المرءِ وقلبهِ وأنّهُ إليهِ تحشَرون).

فكيفَ يُحيلُ اللهُ بينَ الإنسانِ وبينَ قلبهِ الذي هو مجمعُ العواطف؟ والذي هوَ مركزُ الوجدان؟ هذا ما لا يعلمهُ أحدٌ إلا فاطرُ السّماواتِ والأرض، إلا الإلهُ الذي خلقَ الإنسانَ وخلقَ قلبه، فهوَ يعلمُ كيفَ يحجزُ القلبَ عن صاحبهِ وكيفَ يجعلهُ بعيداً عن حياةِ صاحبِ هذا القلب: (واعلموا أنَّ اللهَ يحولُ -أي إذا شاء- بينَ المرءِ وقلبهِ وأنّهُ إليهِ تُحشرون).

وهوَ العقابُ الذي أعلنَ عنهُ بيانُ اللهِ عزَّ وجلَّ في قرارٍ أمضاهُ اللهُ عزَّ وجلَّ في حقِّ بني إسرائيلَ عندما استحقّوا هذا العقاب، عندما أكرمهمُ اللهُ بالنِّعَمِ ثمَّ لم يشكروا الله، ذكّرهمُ اللهُ بالشُّكرِ ثمَّ لم يتذكّروا، طبّبهمُ اللهُ ثمَّ لم يتطبّبوا، ولم يُعمِل فيهمُ العلاجُ، عندئذٍ عاقبهمُ اللهُ بأنواعٍ منَ العقابِ العاجلِ كانَ في مقدِّمتها: قسوةَ القلب. فماذا قالَ لهمُ اللهُ عزَّ وجلَّ من خلالِ قرارٍ أعلنه؟ (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ). هذا القرارُ اتّخذهُ اللهُ عزَّ وجلَّ في حقِّ بني إسرائيل، ولكنّهُ قرارٌ نافذٌ في حقِّ كلِّ من وقعوا في هذهِ المطارح، واتّخذوا هذهِ المواقفَ التي اتّخذها بنو إسرائيل.

قسوةُ القلبِ أيُّها الإخوةُ هوَ الدّاءُ الذي لا علاجَ له، يسمعُ صاحبُ هذا القلبِ القوارعَ المخيفةَ من كلامِ اللهِ عزَّ وجلَّ فلا يحسُّ منها بشيء، يسمعُ كلامَ الرُّسُلِ والأنبياءِ فلا يسري شيءٌ من هذا الكلامِ إلى قلبِهِ لأنَّ هذا الفؤادَ قد صُفِّحَ بالرّان، وصدقَ عليهِ قولُ اللهِ عزَّ وجلَّ: ((كلا بل رانَ على قلوبهم ما كانوا يكسبون)). والرّانُ هوَ هذا الحجازُ أو الحجابُ الذي يفصلُ اللهُ سبحانهُ وتعالى بهِ القلبَ عن صاحبه، وإذا ابتليَ الإنسانُ بقسوةِ القلبِ هذهِ فالحجارةُ أقربُ إلى الهدايةِ من صاحبِ القلب، فضلاً عن الحيواناتِ العجماواتِ التي تتقلّبُ وتعيشُ في غاباتها.

ولعلَّكم تسألون: فما هي العواملُ التي تقرِّبُ هذا الدّاءَ إلى الفؤاد؟ والتي تجعلُ صاحِبهُ معرّضاً لهذا الغضبِ الرّبّانيّ؟ هنالكَ أسبابٌ كثيرة، من أهمِّها: الكِبر. ومن أهمِّهما العتوُّ والطّغيانُ على اللهِ سبحانهُ وتعالى. ولكن من أينَ يأتي الكِبرُ أيضاً؟ معينُ هذا الكِبر: الرّكونُ إلى الشّهواتِ والأهواء، الرّكونُ إلى زهرةِ الحياةِ الدّنيا. معينُ هذا الدّاءِ الذي لا دواءَ لهُ: أن يجدَ الإنسانُ نفسَهُ في حالةٍ منَ الغِنى ينسيهِ فقرهُ الحقيقي، ينسيهِ فقرَ اللهِ عزَّ وجلَّ وهوَ يعرِّفهُ على هويّته: (يا أيُّها النّاسُ أنتمُ الفقراءُ إلى الله واللهُ هوَ الغنيُّ الحميد).

فإذا شعرَ الإنسانُ أنّهُ غنيٌّ وليسَ بفقير، وأنّهُ قويٌّ غيرُ ضعيف، وأنّهُ معافىً صحيحُ البدنِ لا يتسرّبُ إلى كيانهِ داءٌ أو مرض، استشرى بينَ جوانحهِ الكِبر.. وإذا استيقظتِ الكبرياءُ بينَ جوانحهِ فقد توضّعَ هذا الدّاءُ في كيانهِ وقد ابتُليَ بقسوةِ القلبِ التي يهدِّدُ اللهُ سبحانهُ وتعالى بها الكثيرَ من عباده. المالُ الوفيرُ الذي يخيِّلُ إلى صاحبهِ أنّهُ أصبحَ غنيّاً منَ الأغنياء، وأنّهُ قد طردَ الفقرَ من دارهِ وبابه، وأعوذُ باللهِ عزَّ وجلَّ من أن يبتليَنا اللهُ بخيالٍ ماحقٍ للحقيقةِ ينسينا فقرنا الحقيقيّ، ومتى كانَ هذا المالُ ملكاً لهذا الإنسانِ حتّى يتخيّلَ أنّهُ قد أصبحَ غنيّاً. وهل رأيتم في كتابِ اللهِ آيةً تنسِبُ المالَ إلى الإنسانِ وتجعلُ منهُ مالكاً له؟ لقد سمعتموهُ يقول: (وأنفقوا من مالِ اللهِ الذي آتاكم). وسمعتموهُ يقول: (وأنفقوا ممّا جعلكم مستخلَفينَ فيه). وليسَ في كتابِ اللهِ آيةٌ واحدةٌ يعلنُ فيها اللهُ عزَّ وجلَّ أنَّ زيداً من النّاسِ قدِ امتلكَ قرشاً من المال.

كلُّ ذلكَ من أجلِ أن لا ينس الإنسانُ ضعفه، ومن أجلِ أن لا ينس الإنسانُ فقره، ومن أجلِ أن يعلمَ أنّهُ يعيشُ على مائدةِ الله، وسرعانَ ما يمكنُ أن يأتيَ ما يسبِّبُ طردَ هذا الإنسانِ من مائدةِ اللهِ عزَّ وجلَّ في أيّ لحظةٍ من اللحظات.

ولكنِ انظروا أيُّها الإخوةُ ماذا يصنعُ هذا الدّاءُ بكثيرٍ منَ النّاس: لقد أنساهم عبوديّتهم لله، وأنساهم ضعفهم وفاقتهم، وأنساهم فقرهم. وإنّني مهما نسيتُ من المشكلاتِ التي تحيقُ بنا لا أنس في هذهِ الأيّامِ مصيبة، أجل هيَ مصيبة، وليتَ أنَّ هذهِ المصيبةَ كانت من نوعِ التّطبيب، إذاً لكانت نعمةً في باطنِها وإن كانت نقمةً في ظاهرِها، هذهِ التّظاهراتُ التي نراها في الأسواق، هذهِ اللوائحُ التي ملأتِ الشّوارع، أعودُ بالذّاكرةِ إلى ما قبلَ عشرةِ أعوامِ، أعودُ بالذّاكرةِ إلى ما قبلَ ذلك، هذهِ المهمّةُ كانت موجودة، هذهِ الغرفةُ كانت تستقبلُ كلَّ فترةٍ منَ الزّمنِ من يمثِّلونَ مصلحةً من مصالحِ هذهِ الأمّة، فهل شهدت هذهِ البلدةُ مثلَ هذا العملِ الذي ترون؟ هل شهدت هذهِ البلدةُ هذهِ الأموالَ الطّائلةَ التي تُلقى وتُبذَرُ تحتَ الأقدام؟ في سبيلِ ماذا؟ في سبيلِ أيِّ مصلحة؟ في سبيلِ إغناءِ أيِّ فقيرٍ من الفقراء؟ في سبيلِ أيِّ فائدة؟ في سبيلِ أيِّ استرضاءٍ للهِ عزَّ وجلّ؟ ملايين من الأموالِ تُبذَر وتنفَق، وانظروا في سبيلِ ماذا؟

ما أيسرَ أن يصلَ هؤلاءِ النّاسُ إلى كراسيِّهم دونَ أن يدفعوا شيئاً من هذا كلِّهِ فضلاً عن السّبيلِ الذي لا يرضي اللهَ عزَّ وجلّ الذي ينتهي إليهِ هذا المال، ونحنُ في كلِّ صباحٍ ومساءٍ نذكِّرُ بأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ ابتلى هذا المجتمعَ بالفقرِ والفقراء، ابتلى هذا المجتمعَ بشبابٍ هم بأمسِّ الحاجةِ إلى زواج، هم بأمسِّ الحاجةِ إلى بيوتٍ يَسكُنونَها، فيهم من هم بأمسِّ الحاجةِ إلى لقمةٍ يأكلونها ليتغذَّوا بها. ومع ذلكَ فعندما كانَ كثير -لا أقولُ كلّ- كثيرٌ من هؤلاءِ النّاسِ الذينَ يظنّونَ عندَ أنفسهم أنّهم أغنياء يُذَكَّرونَ بهذهِ الحاجةِ يُعرِضون، ويشكون، ويستعملونَ الكلماتِ الاقتصاديّة: (لا سيولةَ في هذهِ الأيّام)، يستعملونَ هذا الكلام. واليومَ ما أسرعَ ما عادتِ السّيولةُ إلى أكثرَ ممّا نتوقَّع، اليومَ ما أكثرَ ما يبدو الكَرَمُ سخيّاً بدونِ حدود، ولكن في سبيلِ ماذا؟ ليتَ أنَّ هذا الكرمَ في سبيلِ سدِّ ثغرة، ليتَ أنَّ هذا الكرمَ كانَ في سبيلِ سدِّ عوز، ليتَ أنَّ هذا الكرمَ كانَ في سبيلِ رفعِ مستوى المجتمعِ إلى ما ينبغي أن يرقى إليه، ليتَ أنَّ هذا الكرمَ كانَ استجابةً لقولِ اللهِ عزَّ وجلّ: (وجعلنا بعضكم لبعضٍ فتنةً أتصبرونَ وكانَ ربُّكَ بصيراً).

ولكن كلُّ ذلكَ غيرُ موجود، إنّما هنالكَ تنافس، وتسابُق، وعندما تُسَدُّ سُبُلُ التّنافسِ بحيثُ لا يُعمِلُ أيُّ مفتاحٍ لفتحِ هذهِ السُّبُلِ إلا المال، فحدِّث عن حدودِ هذا التّنافسِ ولا حرج، لن تجدَ سقفاً عندئذٍ لهذا التّنافس.

الإنسانُ الذي يتحدّى ببذلِ الملايينِ سيجدُ من يتحدّاهُ ببذلِ أضعافِ ذلك. والنّاسُ ينظرون، والمجتمعُ يتأمّل: ترى ما معنى هذا الكلام؟

ومرّةً أخرى أقولُ أيُّها الإخوة: ليسَ معنى هذا الذي أقولُ أنَّ هؤلاءِ الأغنياءِ جميعاً لا يتذكَّرونَ الكرمَ إلا في مثلِ هذهِ الحال، ففيهم قلّةٌ قليلةٌ جدّاً ممّن يستجيبونَ للداعي إذا دعا، وممّن يشعرونَ بالحاجةِ التي ندبهمُ اللهُ عزَّ وجلَّ إلى سدِّها، ولكن ماذا عسى أن تفيدَ القلّةُ وربُّنا يقول: (واتّقوا فتنةً لا تصيبنَّ الذينَ ظلموا منكم خاصّة)؟

ترى لو أنَّ إنساناً مثلي نبَّهَ وذكَّرَ هل تسري هذهِ التّذكرةُ إلى تلكَ القلوب؟ لا. لماذا؟ لأنَّ كثيراً من هؤلاءِ - ولا أقولُ جميعهم - لأنَّ كثيراً من هؤلاءِ ابتُلوا بهذا العقابِ العاجل: (ثمَّ قست قلوبكم من بعدِ ذلكَ فهيَ كالحجارةِ أو أشدُّ قسوة). ولذلكَ: فلا أظنُّ ولا أتصوَّرُ أنَّ مثلَ هذا الكلامَ يبعثُ أيَّ هزّةٍ في قلوبِ أولئكَ النّاس، وربَّما لو سمعَ أحدهم هذا الكلامَ لأغضى الطَّرف، ولربَّما تذكَّرَ كلماتٍ ساخرةٍ تجاهَ هذهِ الحقيقةِ التي أقولُها.

أيّها الإخوة: ينبغي أن نعلمَ أنَّ هذهِ الحياةَ دارُ ابتلاء، وأنَّ الإنسانَ يتقلَّبُ فيها بينَ نِعمٍ ونِقم، بينَ رخاءٍ وشدّة، ((ونبلوكم بالشّرِّ والخيرِ فتنةً وإلينا تُرجَعون)). وكلُّ ذلكَ امتحان، والمطلوبُ من الإنسانِ إذا واجهتهُ النِعمةُ أن يغطّيَها بشكرٍ حقيقيٍّ لله، وإذا واجهتهُ النّقمةُ أن يفرَّ منها إلى رحمةِ اللهِ بالتّوب

تحميل



تشغيل

صوتي