مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 30/10/1992

قيمة الصبر والشكر في الإسلام

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

إن الله سبحانه وتعالى عندما شرفنا بهذا الدين العظيم، وتوج به حياتنا، وربط به مصير السعادة الأبدية لكل إنسان أقام هذا الدين على مبادئ وأقامه على قيم، وعلى جملة من السلوك الذي شرعه لنا الله سبحانه وتعالى وبينه في محكم كتابه، ثم بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هديه النبوي الشريف، ولكن المصيبة الفادحة أن المسلمين بعد ذلك آلو إلى فريقين، فريق أعرض كلياً عن هذه المبادئ وهذه القيم وألقوها وراءهم ظهرياً، وفريقٍ آخر اتجهوا إلى هذه المبادئ وتعاملوا معها ولكن بعد أن جمدوها وجعلوا منها شعارات تقليدية ميتة، فالمسلمون اليوم أو الناس اليوم إنما ينقسمون إلى هذين الفريقين ولا يستثنى من هؤلاء وأولئك إلا من رحم الله سبحانه وتعالى.

وهذه المبادئ والقيم التي جمِّدت في حياتنا وتحولت إلى شعارات وألفاظ ميتة كثيرة، ولكني أحب أن ألفت النظر اليوم إلى واحد منه، إن من هذه المبادئ الخطيرة الهامة في هذا الدين الإسلامي الحنيف شكرَ الله سبحانه وتعالى، والشكر هو العمود الفقري في بنية هذا الدين من أوله إلى آخره، وإذا نهض الإنسان بواجب الشكر الذي أمره الله عزَّ وجل به فلا بد أن يجد نفسه ملتزماً بأوامر الله كلها، ولكن هذا المبدأ العظيم الذي يمثل العمود الفقري في بنيان هذا الدين تحول في حياتنا اليوم إلى شعار ميت وإلى معاملة تقليدية مع ألفاظ الشكر ونحوها، ما أكثر ما تتردد هذه الكلمة على الأفواه، وما أكثر ما يتلاقى قريبان أو صديقان، فيسأل الواحد منهما صاحبه عن حاله فتكون الكلمة الأولى التي يجيبه بها: نشكر الله ونحمده، ولكن لا المتكلم يعي معناً لهذه الكلمة ولا السامع يدرك لها أي دلالة، وإنما هي كلمة تقليدية تمر من الأفواه إلى الآذان وليس لها أي معناً حي نابضٌ يتصوره المتكلم أو يتلقاه السامع قط. نشكر الله وواقع هذا الإنسان يكذب ما يقول، وحياته من أولها إلى آخرها ردٌ عنيف لهذه الدعوة التي ينطق بها.

إذاً فالتعبير بكلمة الحمد والثناء على الله والشكر له تعبير شائع منتشر، ولكنها عبارات ميتةٌ ماتت معانيها على الشفاه، وغدت بعد أن كانت هذه الحقيقة العمود الفقري في بنيان الدين غدت شعاراً ميتاً لا قيمة له، ولا يقدم أو يؤخر عن الله شروى نقير، ولو كان المسلمون اليوم فعلاً يشكرون الله سبحانه وتعالى كما أمر الله لما رأيتهم يتقلبون في هذا الواقع المخزي، لما رأيتهم مقبلين على الدنيا إقبال السكير إلى خمره، لما رأيتهم ينحطون في الأهواء والشهوات وقد أوغلوا في أوديتها ونسوا أو تناسوا أمر الله سبحانه وتعالى، لولا أن هذه الكلمة قد أصبحت شعاراً تقليداً في حياتهم لما رأيتهم وقد وحدهم الله عزَّ وجل وجعل منهم أمة واحدة، لما رأيتهم اليوم مزق من الفئات المتخاصمة المتعادية خصومة تبعث على الاشمئزاز والتقزز، تفرق أصبح مضرب المثل في العالم كله، وهم الذين يستظلون بظل دين واحد، ولكن لما تحولت المبادئ والقيم في حياتهم إلى شعاراتٍ ميتة، حوّل الله سبحانه وتعالى دينهم الذي يستظلون به أيضا إلى شعارٍ ميتٍ لا يقدم لهم شيئا ولا يحقق لهم أي ثمرة، لو كان الشكر هو هذا الذي يردده الإنسان بلسانه عندما يرى صاحبه أو صديقه في الطريق إذاً لكان الناس كلهم شاكرين الله عزَّ وجل، وإذاً لما صدق قول الله عزَّ وجل (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ).

ولكن الشكر ليس هذا، الشكر على النعمة هو أن يصرف الإنسان النعمة التي أسداها الله عزَّ وجل لما قد خلقت هذه النعمة من أجله، هذا هو شكر الله سبحانه وتعالى كما عرفه العلماء، شكرك لله على نعمه هو أن تستخدم هذه النعم التي أكرمك الله عزَّ وجل بها لتكون مجندة لتنفيذ أمر الله وللسير على صراط الله وللسعي إلى رضا الله سبحانه وتعالى، ولو أنك نظرت إلى من يطبق هذا المعنى الذي أمر الله سبحانه وتعالى به من معاني شكر لرأيت أن قليلاً من الناس الذين يصبرون على شكر الله سبحانه وتعالى.

المال نعمة تحتاج إلى شكر لأن الذي أسداها إليك هو الله عزَّ وجل، فكيف يكون شكرك على المال إن كان كثيراً أو قليلاً عندما يكرمك الله عزَّ وجل به؟ شكرك لله على المال أن توجه هذا المال إلى ما قد خلقه الله من أجله، أن تستخدمه فيما يحقق لك رضا الله سبحانه وتعالى عنك، وأن تحجزه عن كل السبل الأخرى.

العافية التي أكرمك الله عزَّ وجل بها نعمة وأي نعمة، ولا بد لها من ضريبة الشكر لله عزَّ وجل فكيف يكون شكر الله على نعمة العافية، إنما يكون شكر الله على ذلك بأن توجه صحتك وعافيتك ونشاطك لتستخدم ذلك كله في الطريق الذي شرعه الله والنهوض بالواجبات التي أمرك الله سبحانه وتعالى بها، ثم تبعد أنشطتك هذه التي هي ثمرة صحتك وعافيتك تبعدها عن كل ما حرم الله، تبعدها عن كل ما نهى الله سبحانه وتعالى.

الزوجة والدار نعم وأي نعم، فكيف يكون شكر الله سبحانه وتعالى عليها؟ إنما يكون ذلك بأن تتواثق أنت وزوجك على أن تقيما العلاقة التي قيضها الله سبحانه وتعالى بينكما لتكون هذه العلاقة خير خادم لدين الله عزَّ وجل، ثم لتكون هذه العلاقة منهجاً لبناء أسرة مؤمنة مسلمة تسبح بحمد الله عزَّ وجل ثم تصبح هذه الدار مثلاً مصغراً للمجتمع المسلم الذي أمر الله سبحانه وتعالى عباده بإنشائه .. وهكذا إلى سائر النعم التي لا تحصى كما تعلمون (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) وهذا كلام الله عزَّ وجل، هكذا يكون شكر نعم الله عزَّ وجل.

وأنا لا أعلم في الطاعات وفي العبادات شيئاً أجمع لمختلف أنواع العبادات من الشكر، ولا أعلم مبدأً يمثل ينبوعاً من المثوبة والأجر لا ينضب قط يصل العبد رأساً بخالقه كينبوع الشكر، ولقد قال العلماء قديما وتساءلوا أيهما أجزل مثوبة وأجراً الصبر أم الشكر؟ صبر الفقير على فقره أجزل مثوبة وأجراً أم شكر الغني على غناه أجزل مثوبة وأجراً؟ وإني لأعجب من هذا السؤال، لأنني أعلم أن نهاية الشكر لا يمكن الوصول إليها إلا على جسر من الصبر، فلا يمكن للإنسان أن يكون شاكراً الله عزَّ وجل على نعمة المال ولا على نعمة العافية ولا على نعمة الزوجة والأهل والدار والأولاد إلا إذا مر قبل ذلك بمرحلة الصبر، فكل شاكر لابد أن يكون صابراً، ولكن ليس كل صابرٍ لابد أن يكون شاكراً.

ما أكثر الفقير الذي يضطره إلى الصبر واقع فقره ومهما حاول فإنه لن يستطيع أن يخرج من أقطار قضاء الله سبحانه وتعالى قط، فيقول في نفسه فلأكن صابراً إذاً حتى أنال أجر الصبر على أقل تقدير، هو ينال أجر الصبر، لكن انظروا إلى الفرق الكبير بين الصبر واقعاً يلجئ صاحبه إليه وبين الشكر الذي يسير الإنسان إليه على جسر من الصبر باختياره.

المال عندما يكرمك الله عزَّ وجل به مفتاح تستطيع أن تفتح به سبلاً شتى إلى أنواع من السلوك شتى، تتفق مع رغائب النفس وشهواتها وغرائزها، وإنما شكر الله على هذا المال الذي يمثل هذا المفتاح أن تغلق كل هذه الأبواب التي حرمها الله عزَّ وجل لا تبقيَ بينك وبينها بين هذه النعمة إلا باباً واحداً هو هذا الباب الذي شرعه الله عزَّ وجل. فانظر كم يحوجك شكر الله على المال الذي أكرمك به إلى ألوان من الصبر.

نعمة العين التي أكرمك الله بها لا تستطيع أن تشكره عليها إلا إذا صبرت فغضضت الطرف عن المحرمات التي نهاك الله سبحانه وتعالى أن تتبع بصرك إياها، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا بلون شديدٍ من الصبر، كذلكم العافية التي تتفجر في كيان الإنسان تبعثه إلى أنواع من السلوك شتى وأنواع من الانحرافات تعرفون، فإذا أراد الإنسان أن يشكر الله على نعمة العافية فلابد أن يجد نفسه أولاً على طريق الصبر، يفطم نفسه وعافيته المتوهجة بين كيانه عن كل ما قد حرمه الله عزَّ وجل حتى ينال بعد ذلك مرحلة الشكر التي أمرنا الله عزَّ وجل به، وهكذا فلا يمكن أن يكون الإنسان شاكرا إلا بعد أن يكون صابراً، وكلنا يعلم أجر الصبر (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ)، ولم أجد وعداً من الله عزَّ وجل لإنسان على طاعة من الطاعات بأجرٍ قفزاً فوق الحساب إلا الصبر، ولولا هذه الحقيقة ولولا أهمية الصبر وخطورته ولولا أنه الجسر الوحيد الذي يوصل إلى الشكر لما أكد الله سبحانه وتعالى لعباده بالصبر والمصابرة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

ترى لو أن المسلمين كانوا يتمسكون بحقيقة الشكر بدلاً من أن يميتوا هذه الحقيقة ويستبدلوا بها ألفاظها وشعاراتها الميتة كيف كان حالهم اليوم؟ ولكن لما تركوا الغالي والثمين وتتبعوا الرخيص خداعاً وجعلوا من أنفسهم بالدعاوي الكلامية الكاذبة شاكرين لله عزَّ وجل دون أن يكلفهم هذا الشكر دفع أي رأس مال قط، لما عاملوا الله على هذا الشكل عاملهم الله على الشكل ذاته، ومن ثم ترون مظاهر الإسلام البارقة المتألقة في حياة المسلمين اليوم صوراً وأشكالاً وشعارات، حتى إذا تجاوزت واخترقت هذه المظاهر المتألقة إلى ما دونها رأيت عفونة وأي عفونة، رأيت الفقر، رأيت التشرذم، رأيت الأحقاد التي يدور رحاها على وحدة هذه الأمة رأيت تعلق قلوب المسلمين بالمال والدنيا وتنافسهم بل خصامهم على هذه الثروات، ورأيت إعراضهم عن الله عزَّ وجل، وهكذا يعاملنا الله كما نعامله.

تحميل



تشغيل

صوتي