مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 16/10/1992

حب الدنيا رأس كل خطيئة

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

لولا حب الدنيا لما آل حال المسلمين إلى هذا الذل الذي ران على حياتهم ولهيمنت هذه الآية بالوجل على قلوبهم، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) لو لا هذا الحب، الذي هو رأس الآثام وينبوعها، لولا حب الدنيا لما آل حال المسلمين إلى هذا الذل الذي ران على حياتهم بعد ذلك العز الذي رفعهم الله سبحانه وتعالى إلى سؤدده، هذه الحقيقة ينبغي أن نعلمها، وينبغي أن نتبينها، وربما كان الشعور بالمشكلة - كما قالوا - يساوي نصف الطريق إلى حلها، ولكن مصيبة المصائب أننا حتى الشعور بالمشكلة قد فقدناه، وعندما نعود إلى كتاب الله عز وجل نجد التحذير تلو التحذير من أن تتجه قلوب المسلمين بالحب إلى هذه الدنيا، بل نجد مظاهر تربية الله سبحانه وتعالى لذلك الرعيل الأول من المسلمين أصحاب رسول الله ﷺ، نجد مظاهر هذه التربية من الله لأولئك الصحابة رائية في كتابه لعلها تكون عظة لنا، لعلها تكون درساً لنا بعد أن كانت درساً لهم، ولما نتنبه إلى هذه العظات من كتاب الله سبحانه وتعالى.

إنكم جميعاً تقرؤون فواتح سورة الأنفال بدأً من قول الله عز وجل: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً ..) إلى آخر الآيات، ألا ترون إلى ما يتبدّا في هذه الآيات من التقريع؟ ما هي خلفياتها؟ وما هو أساسها؟ يروي الإمام أحمد في مسنده من حديث عبادة بن الصامت قال: (نزلت فينا عندما ساءت أخلاقنا بالإقبال إلى الغنائم يوم بدر) وروى ابن ماجه والترمذي بنحو ذلك من حديث ابن عباس رضي الله عنه فكيف كان ذلك؟ غزوة بدر كانت أول غزوة في حياة أصحاب رسول الله ﷺ، وقد ترك المشركون بعد الهزيمة التي حاقت بهم، قدراً كبيراً من الغنائم والأموال، ولقد كانت رؤية المسلمين لهذه الغنائم والأموال متراكمة بين أيديهم أول تجربة في حياتهم أيضاً، وكانوا قد هاجروا من مكة وقد نفضوا أيديهم وجيوبهم بعد نفضوا قلوبهم من الدنيا كلها، وكانوا جياعاً وكانوا عراة كما وصفهم رسول الله ﷺ، فلما رأوا هذه الغنائم المتراكمة تسابقوا إليها، واختلفوا في كيفية اقتسامهم لها وهي أول تجربة كما قلت لكم، وجاؤوا يتسابقون إلى رسول الله يسألونه: كيف يتقاسمون هذه الغنائم؟ وهذا ما عبر عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه بقوله (نزلت فينا عندما ساءت أخلاقنا في تقسيم الغنائم) فانظروا إلى تربية الله لهم، لم يجبهم سيدنا رسول الله ﷺ، ولكن سرعان ما أنزل الله على رسوله هذه الآيات: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُول) لا علاقة لكم بشيء منها، (فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)، عودوا إلى مهمتكم التي خلقتم من أجلها، انظروا ماذا فعل بكم المال؟ كيف تشاحنتم واختلفتم وما كان ينبغي للمال أن يلعب فيكم بعد إيمانكم بالله هذا الدور أبداً. (فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) إنما يستنزلون الرزق من عند الله عز وجل، ويبتغون الرزق من مولاهم وخالقهم.

انظروا إلى هذا الجواب - أيها الإخوة - إنه جواب تقريع وتهديد، أكثر من أن يكون إجابة إقناع، ومن منا يجهل أن المال إنما هو لله وأن الأنفال إنما هو لله ولرسوله؟ ولكن الله سبحانه وتعالى غني عن هذا المال إلا أنها تربية ربانية، وكأن الباري عز وجل يقول لهم: إذا كان إقبالكم إلى الدنيا وتهافتكم من حولها عند أول تجربة منكم مع الغنائم كانت بهذا الشكل، فماذا عسى أن يكون حالكم عندما يفتح الله عليكم بلاد كسرى وفارس وبلاد الروم؟ وكيف سيكون مصيركم عندما تندلق عليكم الغنائم من كل حدب وصوب؟ وكيف يكون شأنكم عندما يملككم الله سبحانه وتعالى زمام الدنيا وقيادة الحضارات؟ أهذه هي صورة الخطوة الأولى من تعاملكم مع الدنيا؟!

من أجل هذا كانت التربية قاسية من الله عز وجل لهم، وكأنه يقول وهل قاتلتم مع رسول الله من أجل هذه الغنائم؟! إنكم قاتلتم في سبيل الانتصار لدين الله، فاذهبوا وعودوا لا نصيب لكم في هذه الغنائم قط، فإنما هي لله ولرسوله، وليعد كل منكم إلى دلائل إيمانه وصدق دعواه، أمؤمنون أنتم حقاً؟! إن من دلائل صدق الإيمان الإكثار من ذكر الله عز وجل، من دلائل صدق الإيمان أن ذكر الله عز وجل إذا طرق سمع أحدهم أو تحرك به لسانه فاض قلبه خجلاً ووجلاً وخشية من الله سبحانه وتعالى، إن من دلائل الإيمان بالله عز وجل توكل المؤمن على الله في رزقه، تركه ما تكفل الله سبحانه وتعالى له به، وسعيه إلى ما قد أمره الله عز وجل به، ليعد كل منكم إلى شأنه وليفحص حقيقة الإيمان بين جوانحه.

عندما صكت هذه الآيات بدلائلها هذه أسماع أصحاب رسول الله ﷺ، انفض جمعهم وعاد كل منهم إلى داره يبكي ويستغفر الله سبحانه وتعالى، وتناسوا بل نسوا هذه الدنيا وهذه الغنائم كلها، ومرت أشهر على ذلك، حتى إذا اصطبغت قلوب الصحابة بهذه التربية العظمى، وصدق توجههم إلى الله، ونفضوا وطهروا قلوبهم من شوائب الدنيا، عاد البيان الإلهي يقول: (وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى) إلى آخر الآيات، وأمر الله رسوله أن يبين ذلك، فأتم بيان قسمة الغنائم، فيم سجل الله – أيها الأخوة – هذا التأديب وهذا البيان في كتابه المبين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؟! لم فعل ذلك؟! من أجل أن تكون هذه التربية مستمرة للمسلمين جيل إثر جيل إثر جيل، من أجل أن يكون موقف أجيال المسلمين كلها كموقف أصحاب رسول الله ﷺ يوم استجابوا لهذه التربية، فنفضوا قلوبهم من الدنيا وأدرانها، واتجهوا إلى الله كما أحب ووجهوا قلوبهم إلى الله سبحانه وتعالى وحده، ولكن ها أنتم ترون خلف من بعدهم خلف أضاعوا واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً.

وهل هنالك إضاعة للصلوات واتباع للشهوات أكثر من أن تجد مكان للتعامل مع الدنيا وشهواتها وزخارفها، يقوم إلى جوار مسجد وفي اللحظة التي يقبل فيها عباد الله سبحانه وتعالى إلى بيته مهرعين ساجدين راكعين، يكون عشاق تلك الدنيا ينهلون من الدنيا أعمالهم التجارية التي لن تعود إليهم إلا بالخيبة والخسران؟ هذه هي حال المسلمين اليوم، ونحن نتلوا كتاب الله عز وجل. كلكم يسمع هذا الكلام العجيب: (قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) أين الذين يقولون لبيك لقد اتقيناك، لبيك لقد أصلحنا ما بيننا من شؤون، وأعدنا وحدتنا الإيمانية إلى النهج الذي طلبت، وها نحن أطعناك يا رب، وأطعنا رسولك، عندما يدع الداعي إلى بيتك، نترك كل شيء، وننفض أيدينا عن كل معاملة، ونهرع ساجدين راكعين بين يديك، أين هم؟! هؤلاء الذين راهنوا على صدق إيمانهم بهذا الأمر، عندما نتساءل فيم حاق بنا هذا الهوي؟ فيم أصبحنا نموذجاً للذل والهوان في أبصار وبصائر أولئك الغربيين هنا وهناك؟ ينبغي أن نعلم الجواب: هنّا على أنفسنا، فهنّا على أعدائنا أيضاً، رضينا بالذل والهوان مناخاً بعد العز الذي رفعنا الله عز وجل إليه، فآل أمرنا إلى ما قد تعلمون، وعندما ربى ربنا سبحانه وتعالى عباده هذه التربية، أفكان ذلك يعني أن الله يريد أن يفطمهم عن دنياهم ..

أليس هو القائل (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً)؟! أليس هو القائل (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ)؟! أليس هو القائل (كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ)؟! هو لا يريد أن يفطم أفواهنا عن رزق خلقه الله لنا، ولكنه يريد أن يفطم قلوبنا عن حب هذه الدنيا، يريد أن نجعل قلوبنا له وحده، حبنا له وحده، توجهنا إليه وحده، ثم إنه ضمن لنا أن يجعل الدنيا خادمة لنا، وانظروا كيف طبق ما قد ضمنه لأولئك الناس، ألم يجمع الله سبحانه وتعالى الدنيا كلها تحت أقدام أصحاب رسول الله ﷺ ، خلال ربع قرن من الزمن، ألم يحقق لهم ذلك؟!.

ثم عندما ذهب ذلك الإنسان عبد الرحمن الداخل إلى الغرب بدافع واحد لا ثاني له ألا وهو الدعوة إلى دين الله، نشر الإسلام في تلك الربوع المظلمة، ماذا صنع الله سبحانه وتعالى به ...؟ جمع الدنيا كلها تحت قدميه، وهيأ له ملكاً وجنداً، وسرعان ما اتسع له الملك والجند، وسرعان ما جعل الله سبحانه وتعالى من ظلام ذلك الكفر هناك نوراً إيمانياً يتلألأ، ولكن لما خلف من بعدهم خلف أدرك هذا الخلف اليوم، سكروا بالدنيا وشهواتها ونسوا الإله الذي أعطاهم وسقاهم، سكروا بالنعيم ونسوا الإله المنعم المتفضل عليهم، قال لهم الله سبحانه وتعالى: هاتوا الأمانة لقد آن أن استدرها منكم.

لماذا لا نعتبر أيها الإخوة لماذا لا ندع الدنيا ورائنا تسعى هي ورائنا كما أخبر الله عز وجل، لماذا لا نجعل من مسجد كهذا المسجد محور حياتنا وموئلنا ومآلنا؟! لا سيما عندما يدع الداعي إلى هذه الصلاة، وإلى هذا الاصطلاح والعود إلى الله عز ووجل، لماذا؟! لماذا نبقى عاكفين من حول هذا المسجد على بيعنا وشرائنا؟! لماذا نلهث بذل وراء هذه الدنيا الفانية؟! وقد ضمن لنا الله سبحانه وتعالى أن يجعلها خادماً لنا؟! لماذا؟!

أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي