
العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي


هكذا استُعملت الوهابية أداةً لتمزيق شمل المسلمين
الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
أما بعدُ فيا عبادَ الله:
كثيرون هم الذين يتحدثون بصفاء قلبٍ وبصدق نية عما يسمى اليوم بالصحوة أو اليقظة الإسلامية، ويتحدثون فرحين مبتهجين عن كثيرٍ من هذه المظاهر، فيذكّر الواحد منهم صاحبه أو إخوانه مثلاً بتلك القرية البريطانية التي دخلت بقضها وقضيضها بالإسلام، وأقامت في قريتها مجتمعاً إسلامياً صغيراً مثالياً كما أمر الله عزَّ وجل، ويتحدث الآخر عن العشرات بل ربما المئات الذين يدخلون في دين الله أفواجاً من ذكور وإناث في شتى ربوع ذلك العالم الغربي، وكل هذا صحيح والأمثلة أكثر من ذلك، ولكني أحب أن أقول إن علينا أن نخشى من الطامعين في النعمة أكثر من أن نفرح بالنعمة ذاتها، كلما عظمت النعمة كلما كثر الطامعون من حولها، ولذلك فإن الذي يشغلني عن الفرح باليقظة الإسلامية الحقيقة إنما هو تصور المخاوف عليها، فبمقدار ما هنالك إقبال على الإسلام في ربوع الغرب وغيره بمقدار ما يوجد وسائل وخطط ماكرة جديدة مستحدثة للتربص بالإسلام وللكيد به؛ بل للقضاء عليه حيث ما وجد، وذلك هو شأن أعداء الإسلام كلما رأوا نجمه خافتاً كلما أعرضوا عنه وبردت هممهم في معاداتهم، فإذا رأوا نجمه وقد تألق، وإذا رأوا طاقته وقد أقبلت بعد إدبار جمعوا وسائلهم وهيئوا عُددهم وأسهروا لياليهم في سبيل الكيد لهذا الدين الذي أصبح يشكل خطراً كبيراً عليهم، ينبغي أن نكون من الوعي بحيث نفرح بالنعمة آناً، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يعافينا من الماكرين والمتربصين آناً آخر على أقل تقدير.
وإذا عرفنا أن هنالك أعداءً يتربصون بهذا الدين، وأن هنالك خططاً ماكرة تُرسم، فلنتذكر ولنتبين هذه الخطط، ولنكن على مستوى الوعي الذي يتطلبه منا إيماننا وديننا، كيف ترسم هذه الخطط أيها المسلمون، إنها ترسم في أقبية مظلمة خفية بعيدة حتى عن تلك المجتمعات الغربية البعيدة عن الإسلام، ولكن كثيراً من أبطال تطبيقها هم المسلمون أنفسُهم، كل من لم يعي هذه الحقيقة فهو في الحقيقة مغفل، وهو في الحقيقة سادر الفكر ساذج الوعي، الخطط ترسم هناك بعيداً بعيداً جداً لكن كثيراً من أبطالها هم من المسلمين أنفسهم، والكثير من هؤلاء المسلمين على علم بما يراد بهم وكل منهم يعلم هويته مجنداً في سبيل الكيد للإسلام والمسلمين، ولكن فيهم من يسر بدون وعي في هذا الطريق، وأظن أن كلاً منا ينبغي أن يعلم أن هذه الخطط كثيرة ومتنوعة ولكن أبرزها وأخطرها هي الخطة التي ترمي إلى الإيقاع بين المسلمين.
تلك الخطة التي تهدف إلى جعل إسلام المسلمين الواحد إسلامات كثيرةً متناقضة متخاصمة متعادية، تلك هي أخطر الخطط التي ترسم كما قلت لكم هناك بعيداً وأنا على علم بذلك، ولكنها تعهد إلى أناس منفذين من أبناء جلدتنا مسلمون في الظاهر، ذلك لأن أحداً لا يستطيع أن يمزق شمل المسلمين إلا إذا كان القائم بذلك من المسلمين أنفسهم، أتتصورون أن عدواً لنا يستطيع أن يتسلل إلى داخل البنية الإسلامية فيصدع هذه البنية؟ لا. لأن هوية هذا العدو مكشوفة، ومن ثمَّ فإن عمله سيأتي بنقيض ما يريد، ولكن الطريقة هي أن يعهد بهذا الأمر إلى مسلمين هوياتهم تنطق بأنهم مسلمون، بل بأنهم غيارى على الإسلام وعقائده ومبادئه ثم إنهم يتسربون إلى حلبة النقاش في مبادئ الإسلام وأحكامه وعقائده، فيطرحون الأمور الخلافية واحدة إثر أخرى، ويجعلون من تلك الجزئيات الخلافية بركاناً لتفجير مشكلة، ويجعلون منها أساس لتكفير أو لتفسيق أو لتبديع، ثم إنهم يلاحقون المسلم بها مشكلةً إثر مشكلة إثر مشكلة، ويسيرون في طريق ذلك على نهجٍ من التنطع الممجوج ويتبعون في ذلك أسلوباً من التكلف البيّن الذي تفوح رائحته لكل متأمل ومتدبر.
وهكذا فإن هذا الطابور من هؤلاء المسلمين ظاهراً يسلكون سبيلاً يصل بهم إلى الغاية المرسومة، والغاية المرسومة أن يتحول المسلمون الذين أظلهم إسلامهم في ساحة إيمانية واحدة وكون منهم أمة واحدة خلال قرون متطاولة من الزمن؛ يحيلون هذه الأمة الواحدة إلى فئات متناحرة متعادية متخاصمة، هكذا كما يفعل أولئك الذين يحدقون حول مائدة وضع عليها شواء كبير من قطعة واحدة، كيف السبيل إلى أن يلتهمها هؤلاء الآكلون؟ السبيل إلى ذلك أن يبضع هذا الشواء إلى قطع قطع قطع صغيرة حتى يستطيع كل منهم أن يجعل من كل قطعة مضغة يزدردها تماماً هذا هو الواقع الذي يجري اليوم، وهو يجري باسم الإسلام.
تصوروا أيها الأخوة وعودوا بأذهانكم إلى ما قبل خمسة قرون أو ستة قرون أو سبعة أو ثمانية قرون أفتستطيعون أن تشموا رائحة لخلاف بين المسلمين أو لتصارع فيما بينهم بسبب التساؤل عما معنى قول الله عزَّ وجل: )الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى(؟ هل تستطيعون أن تشموا رائحة صراع وخصومات فضلاً عن التكفير في ساحة المسلمين قبل ثمانية قرون مثلاً بسبب اختلافهم حول تفسير آيات الصفات؟ أو بسبب اختلافهم حول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوسل به أو لا يتوسل به؟ نبِّشوا وفتشوا كتب التاريخ وكتب التراجم منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذه القرون الأخيرة هل تجدون من أقام الدنيا وأقعدها بالنكير والتكفير بسبب التساؤل هل أن الله في جهة العلو أم ليس في جهة العلو؟ لئن نبشتم وفكرتم لن تجدوا هذه المسألة أبداً تكونت منها مشكلة في عهد من عهود الإسلام الغابر قط، ربما بحثوا واختلفوا لكنهم وقفوا عند ما سميته الاختلاف التعاوني فقط، ولم يعكّر هذا الاختلاف معناً من معاني الوداد بينهم فضلاً عن أن يصدّع صفاً لهم، فضلاً عن أن يمكن العدو المتربص ليدخل في ساحتهم وليستغل الخصام القائم فيما بينهم، ولكن أصغي جيداً اليوم انظر كيف تقوم المهاترات لا أقول في المجتمع الإسلامي، فالمجتمع الإسلامي تحول إلى بركان في هذا الأمر، لا بل في المجتمعات الغربية ضمن الدوائر الإسلامية الصغيرة، انظر كيف يبدأ الخصام ولا ينتهي حول تفسير العلو بالنسبة لذات الله عزَّ وجل، إن لم تقل إن الله في جهة العلو فقد كفرت وأشركت وخرجت من الملة.
ومهما قام النقاش ومهما قام الجدل ومهما قدمت الأدلة على أن جزع الدين في هذه القضايا واحد، وأن المبادئ الكلية لا يمكن أن يجري خلاف حولها، فالله لا يتحيز في مكان، والله جلَّ عن أن يشبه مخلوقاته لن تجد هنالك سبيلاً لإنهاء هذا اللجج أولاً وآخراً قط، ذلك لأن هذه الأمور إنما تستثار من أجل غاية لا تتعلق بالمسألة العلمية ذاتها، الغاية هي أن يتصدع المسلمون، وأن يتحولوا إلى فئتين أو فئات كل فئة تكفر الأخرى. قرأنا هذه التقارير الخفية ذات يوم صاعدة من جامعات استشراقية غربية، ولكن ويا للأسف من هم الجنود المنفذون لها؟ هم أولئك الذين يدعون إلى أنفسهم لتكون لهم الريادة الإسلامية، ووالله إنهم لمجندون من أجل تطبيق هذه الخطة الذي ستأتي الأيام لتكشف عنها ولتكشف عن صادرها وواردها.
وإذا قلت لهؤلاء المتنطعين أين هي جهة العلو التي استقر فيها الله عزَّ وجل هاهنا أم هاهنا أم هنا؟ أشار لك إلى الفوق، طبعاً لابد أن يشير ما دام يقول إن الله في جهة الفوق، إذاً هو في جهة من الجهات ويشير لك هكذا، وانظر إلى هذا العلم الذي يصل إلى حضيض التفاهة والجهل، وانظر إلى التخلف العقلي الذي يشفق الصغار في مدارسهم على مثل هذا التخلف العقلي والفكري، الله في هذه الجهة العليا، هذه الجهة العليا هي جهة السفل في مكان آخر، فكيف تحل المشكلة؟ هل تقول في أي مكان وجدت فيه إن الله في علو بالنسبة لذلك المكان لا غير؟ فإذا طرت إلى المكان المقابل غيرت كلامك وقلت الله في جهة العلو هناك لا غير؟ من الذي يصدقك بهذا الكلام التافه الذي يقال في عصر العلم وتنبذه ثقافة التلاميذ في مدارسهم! ومهما قلت ولكن الله عزَّ وجل يقول: )وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ(، ويقول: )وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ ( ويقول: )وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (، مهما قلت له هذا الكلام فإن هذا لا ينهي الجج والجدل أبداً. لماذا؟ لأن الهدف ليس حل مشكلة، وإنما الهدف اختلاق مشكلة. وصلى الله وسلم على رسوله محمد النبي الأمي الذي أطلعه الله على كثيرٍ من المآسي التي وقعت من بعده إلى يومنا هذا إذ يقول في الحديث الصحيح:" هلك المتنطعون " ووالله لئن لم يكن هذا هو التنطع بعينه فلا أعلم صورة للتنطع بعد ذلك بشكل من الأشكال.
ولقد قلت مرة وأقولها أيها الأخوة وسأصدر بياناً مكتوباً بها، قلت لعالم جليل من علماء ذلك الصقع الذين ينادون لأنفسهم بالريادة الإسلامية ليمزقوا شمل المسلمين، قلت: إلى متى تجعلون من الإسلام سلاحاً تقطعون به أوصال هذه الأمة؟ نحن أمة واحدة ونحن فوق ذلك كلنا من أهل السنة والجماعة، كلنا ننشد الإخاء تسموننا ضيوف الرحمن حتى إذا اتجه ضيوف الرحمن إلى هناك استقبلتموهم بالتكفير والتبديع، سمعت خطيب مسجد نَمِرة وهو يخاطب المسلمين يكفرهم يشركهم لأنهم يتوسلون برسول الله، ويجعلهم داخلين تحت نطاق الله عزَّ وجل:) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ(. قلت: في أي قاموس ديني، في أي قرآن وفي تفسير لقرآن هذه الآية يجوز إسقاطها على هؤلاء المسلمين الموحدين الذين يذهبون حجاجاً إلى بيت الله الحرام؟، وانتهينا إلى وفاق إلى أن هذه مشكلة يجب حله، وأن هناك مدسوسين يجب كشفهم، قلنا فأين السبيل واتفقت معه على أن السبيل هو التالي: أن يذهب إلى بلده ويختار عشرة أسماء من أرقى العلماء اختصاصاً وأفضلهم إخلاصاً لدين الله، وأختار أنا أيضاً من علماء هذه البلدة قدر ذلك، أفضلهم اختصاصاً وأفضلهم إخلاصاً فيما نظن ونتصور، ثم نتداعى إلى ندوة يتلاقى فيها هؤلاء العلماء فيتناقشون في هذه المسائل التي أصبحت سلاح تبضيع وتمزيق لهذه الأمة، فما اتفقنا عليه بعد النقاش يكون قد انتهى الإشكال فيه وما لم نتفق عليه يكون اختلافنا المستمر دليل على أنه أمرٌ اجتهادي، ومادام أمراً اجتهادياً ينبغي أن يعذر كل فريق منا صاحبه، ثم ينبغي أن نتواثق ونتعاهد على أن لا نثير هذه الأمور، بل ينبغي أن نغذي وحدتنا نغذي جزع إسلامنا الواحد، اتفقت معه على ذلك وذهب عائداً إلى بلده وعدت عائداً إلى بلدتي دمشق زادها الله حراسة وزادها الله رعاية وأمنا وأرسلت إليه أسماء عشرة علماء معتدلين، علماء أحسب أنهم مخلصون لدين الله عزَّ وجل، وانتظرت أن يرسل لي أسماء عشرة من قبله لنتفق على لقاء وحوار. وإلى اليوم ومنذ ست أو سبع سنوات وأنا أنتظر الجواب منه.
ولقد علمت أن المسألة طرحت لكن أولئك العلماء الغيارى على التوحيد وعلى دين الله عزَّ وجل فرّوا فراراً عجيباً عندما شعروا بالدعوة لهذا اللقاء، إذا المسألة أيها الأخوة من الخطورة بمكان عرف ذلك من عرف وجهله من جهل، المسألة لا تنطوي على غيرة على دين الله معاذ الله، إنما هي الغيرة من وحدة الأمة، إنما هي الحقد على وحدة هذه الأمة، هناك يقظة إسلامية تهدد لابد من كف جماحها، ولابد من ردها على أعقابها كيف السبيل إلى ذلك؟ هناك في المجتمع الغربي لا فائدة؛ بل سيخلق ذلك ردة فعل، السبيل هو أن يمزق شمل المسلمين حيث يتجه أولئك الناس إلى الإسلام، السبيل أن يصبح الإسلام الواحد كما قلت لكم أدياناً متصارعة يأكل بعضها بعضا.
ولقد قرأت تقريراً لإنسان يشتهي ويتمنى أن يرى الإسلام وقد تحول إلى ما يشبه الفرق المتعادية في الغرب للمسيحية التي