مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 28/08/1992

دواء المحنة الذي ذهل عنه الكثيرون

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

كلنا نرى محنة المسلمين اليوم، وكلنا نبصر الذل الذي حاق بهم، والمهانة التي أحاطت بهم من حولهم، وكلنا قادرٌ على أن يحلل مظاهر هذه المهانة أبدع تحليل وأن يذهب في تصويرها وفي إيضاح أسبابها بكل دقةٍ وبكل بيانٍ كامل، وهذا ما يفعله كثير من الناس اليوم، وهم يتوهمون أنهم بهذا الكلام يعالجون هذا الذل الذي حاق بهم، وهذه المهانة التي ضربها الله سبحانه وتعالى عليهم. فكأننا إذا صوّرناها أمام الأخيلة والأذهان بشكلٍ بليغٍ بَيِّن، وكأننا إذا استثرنا لواعج النفوس وهَيَّجنا حماسة القلوب نكون بذلك قد ارتفعنا عن المشكلة وتحررنا من وهدة هذا الذل.

ولكن ألا تلاحظون أن هذا كلام لا فائدة منه، وأن هذا اجترارٌ لشيءٍ لا ثمرة من ورائه، ماذا يفيدني أن أجلس فأصف الدواء؟ وأن أعود فأكرر وصفه كلما مللت من تكراره؟ وأن أعود فأبين خطورة الداء؟ وأن أبين آثاره الجسيمة الفتاكة في الجسم؟ ما فائدة هذا العمل وأنا لا أقدم من وراء ذلك دواءً لهذا الداء؟

هذا هو واقع المسلمين اليوم .. فأنا أعلم أن هنالك خطب طنانة رنانة، يتحدث أربابها من خلال هذه الخطب عن محنة الإسلام في كثيرٍ من بقاع الأرض، وعن المآسي التي تفتت القلوب فعلاً، ولكن الناس يصغون ثم يصغون ثم يصغون فلا يجدون حصيلة لهذا الكلام سوى أن يتحول السامع في أحسن الأحوال إلى شواظٍ ولهب، وتخرج هذه الشعل من المسجد دون أن تعلم ماذا تصنع، وما الذي ينبغي أن تفعل؟

بوسعي أن أرسم لكم الدواء كما يرسمون، بوسعي أن أرسم لكم الداء كما يرسمون، وأن أصفه لكم بأبلغ مما يصفون، ولكني مهما فعلت ومهما فعلوا، لن أستطيع ولن يستطيعوا أن يأتوا بوصفٍ لذلك أبلغ مما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلكم يعلم ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح وهو يصف الداء.

الداء: "ستداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلةُ إلى قصعتها. قالوا: أمن قلةٍ نحنُ يا رسول الله يومئذ. قال: لا بل أنتم كثير ولكنكم غثاءٌ كغثاءِ السيل" هذا هو الداء. "وسينزِعَنَّ اللهُ الرهبة من قلوبِ أعدائكم وسيقذِفَنَّ في قلوبكم الوهن" وهذا استمرارٌ أيضاً لبيان الداء, قال أحد الصحابة: ما الوهن يا رسول الله؟ قال: "حبُ الدنيا وكراهيةُ الموت".

مهما أردنا أن نصف أدوائنا التي تَحكمت بنا وبنفوسنا فلن نستطيع أن نقر كلاماً أبلغ مما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا هو الداء. أفلا ينبغي أن نبحث عن الدواء؟ والدواء مرسومٌ في كتابِ الله عز وجل لِمَن أرادَ أن يتأمل ولِمَن أراد أن يَتدبر. الدواءُ موصوفٌ ومكرر ولكن الإنسان الذي يمر على الألفاظ دون أن يتدبرها بفكره لن يشعر بأنه من هذه الآيات أمام دواءٍ ناجح يصفه الله سبحانه وتعالى لهؤلاء الناس.

اقرأوا مثلاً قول الله عز وجل في هذه الآية القصيرة الوجيزة: "يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئةً فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون". فاثبتوا. كأن قائلاً يقول: ما دواء الثبَات وكيف نستطيع أن نثبت؟ يأتي بيان الدواء جواباً على هذا السؤال في بيان الله قائلاً: "واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون"، ما أكثر الناس الذين يمرّون على هذا الكلام مرّ الكرام؛ ببلاهة وبدون أي وعي، لا تستوقفهم هذه الكلمة أبداً "واذكروا الله كثيراً".

بل إنني أقول لكم شيئاً آخر: ما أكثر الذين إذا ذُكِّروا بهذا الدواء استخفوا به واستهانوا به وأعرضوا عنه وعمن يصفه لهم، فإذا أرادوا أن يناقشوا وأن يُعَبِّروا عن ما في أنفسهم قالوا: إن هذا الدواء إنما تستعمله العامة، أما الخاصة من المسلمين الذين ينبغي أن يُخَطِطوا وينشطوا ويفعلوا ويتحركوا فإنما يبحثون عن دواءٍ آخر، ولا عجب أنهم يقفون كثيراً عند قول الله عز وجل: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل تُرهبون به عدو الله وعدوكم" ويتفننون في تحليل هذا الكلام وفي ملاحقة أبعاده، ولكني ما رأيت واحداً وقف أمام هذا الكلام الآخر: "يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون" . فكانت العاقبة أنهم لا جمعوا العدة الكافية التي أمر الله بجمعها، ولم يجتمعوا حولها، ولا ذكروا الله سبحانه وتعالى كما أمر في الآية الأخرى، أعرضوا عن الدواءين معاً. لماذا؟

لأن إعداد العدة إنما هي ثمرةٌ ونتيجةٌ للإكثارِ من ذكر الله سبحانه وتعالى، فالقلب الخالي عن ذكر الله هذا القلب لا بد أن يُصبح خالياً عن الخوف من الله، ومن ثَم لابد أن يصبح خالياً عن تعظيم حرمات الله، ومن ثَم لابد أن يصبح خالياً عن محبة الله عز وجل، وإذا خلا القلب عن هذا كله فقد أصبح وعاءً فارغاً ليستقبل حب الدنيا حب الشهوات حب الأهواء حب الزعامة حب الرئاسة حب المنافسة على طريق الحكم وكراسيّه، وإذا أصبح وعاء القلب مليئاً بهذه الأشياء فماذا عسى أن تجدي العدة؟! وماذا عسى أن يجدي العدد؟ وماذا عسى أن تجدي الخطب النارية أيها الأخوة؟

أصلُ المسألة تبدأ من هنا، تبدأ من القلب، من ذكر الله عز وجل، والباري عز وجل حكيم وكلكم يعلم أن من صفات الله سبحانه وتعالى دقةُ حِكمته. لماذا ربط بين مواجهة الفئة المعادية لنا والمتربصة بنا وبين الإكثار من ذكر الله عز وجل؟ ذلك لأن هذا العدو يعتمد على سلاحين اثنين سلاحٌ منظور هو ثانويٌ جداً، وسلاح خفي هو الأساسي الذي يعتمد عليه.

هذا السلاح الخفي الذي يعتمد عليه هو البحثُ عن ثغراتٍ في صفوف المسلمين، هو البحث عن شهوات المسلمين المتجهة إلى الأرض، المتجهة إلى المال، المتجهة إلى الزعامات المتجهة إلى الأهواء والغرائز ونحو ذلك .. عندئذٍ يُقبِل هذا العدو ليستغلَّ هذه الثغرات وليستثمرها، عن طريق هذه الغرائز يُقَسِّم المسلمين بضعاً وفئات متناحرة متخاصمة، يُقسِّم المسلمين فئاتٍ متدابرة. وما أيسر أن يتقسموا عندما يجد أن مهوى قلوبهم المال، عندما يجد أن مهوى قلوبهم الزعامة .. الاستكبار .. الشهوات الخفية، عدونا درس هذا كله هذا هو السلاح الخفي الأول الذي يعتمد عليه العدو.

فإذا استعمل هذا السلاح، ونظر إلينا فرأى كيف أنّا قد أصبحنا فئات متناحرة متخاصمة، ورأى أن ذلك المعنى الوحدوي الجامع لأشتات هذه الأمة قد زال يوم زال الدواء الذي أمرنا الله عز وجل به، عاد فاستعمل السلاح الثانوي الثاني. فماذا عسى أن يستفيد المسلمون بعد هذا مهما تداعوا؟

إنهم يتنادون وهم متباعدون في أوديةٍ قَصيّة كل وادٍ بعيد عن الواد الآخر، وبين الواد الواحد والثاني حواجز من الشهوات من الأنانيات من الحزازات من حب الدنيا إلى آخر ما تعلمون من هذه الأمور ..

من هنا رسم الله سبحانه وتعالى لعباده الدواء، ذِكر الله عز وجل. وأُعيذُكم أن تفهموا كلمة الذكر التي أقولها بالمعنى التقليدي المعروف، لا، المرادُ بذكر الله عز وجل أن يظل القلب ذاكراً مولاه وخالقه، أن يظل هذا القلب دائماً متجهاً إلى مراقبة قيّوم السموات والأرض؛ يُراقبه من خلال أنه الحي القيوم، يُراقبه من خلال أنه الرازق الذي لا رازق سواه، وأنه النافع الذي لا نافع سواه، وأنه الضار الذي لا ضار سواه، وأنه المُدبِّر الذي لا مُدبّر سواه، وأنه الخالق الذي لا خالق سواه، وأنه الناصر الذي لا ناصر سواه. هذا ما أعنيه بذكر الله عز وجل.

فإذا أهَّلت الأمة نفسها بهذا الذكر المستمر، وربط كل واحد منهم أحداث الكون بِمُحدِثها، تقلبات الدنيا بمقلبها، ربط النعمة بمنعمها، فإن هذا القلب سرعان ما يتجه بالحب إلى هذا الإله الواحد الأحد، فإذا اتجه القلب بالحب إليه، نبع من هذا الحب التعظيم، وأثمر هذا الحب وهذا التعظيم الرهبة والمخافة من الله، وعندئذٍ تتساقط من هذا القلب محبة الأغيار، محبة الدنيا محبة الشهوات التنافس على الزعامة التنافس على الرئاسة كل هذا يتساقط. وإذا تم هذا الأمر تحقق الدواء، واتحد المسلمون وتهيئوا عندئذٍ لمجابهة عدوهم الذي يأمر الله سبحانه وتعالى المسلمين بالثبات أمامه إذا جابههم. "يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئةً فاثبتوا". لكن لا والله لا نستطيع أن نثبت وإن قلوبنا مشدودة إلى أهوائنا، إنما يكون الثبات بعد هذا الدواء الذي أقوله لكم.

ولقد قلت البارحة: إنني دُعيت في بلدة من هذه البلاد الأجنبية البعيدة النائية إلى إلقاء محاضرة وفاجأتُ القوم عندما قلت لهم: سيكون موضوع محاضرتي "ذكرَ الله ذلك الجانب المنسي من حياة المسلمين"

كانت هذه الكلمة وهذا العنوان مفاجئة لهؤلاء الناس. فلماذا كان هذا العنوان مفاجئةً؟ لأنه لم يكونوا يتصورون أن أحدثهم وهم المثقفون وهم الفكريون وهم الحركيون عن موضوعٍ كهذا الموضوع، ذكر الله الجانب المنسي في حياة المسلمين اليوم. ورأيت وقع المفاجأة على النفوس. قلتُ لهم: هذا هو الدواء الذي أنتم بأمسِّ الحاجة إليه، والدليل على ذلك تُعجُبكم من هذا الموضوع، والدليل على ذلك هذه المفاجأة التي رأيتُها في نفوسِكم. ألا تقرأون كتاب الله؟! ألا تلاحظون كم يدعوكم الله إلى أن تعالجوا أدوائكم وأمراضكم وكل ما قد يحيق بكم من مهانة وذل بهذا الذكر؟ هذا هو الدواءُ أيها الأخوة.

فإن عزَّ عليكم أن تفهموا هذا الكلام أو أن تستوعبوه، فانظروا إلى ما قد أحاط بنا اليوم، هذا الذي أحاط بنا اليوم يتمثل في بلاءين اثنين.

البلاء الأول: وهو البلاء الأعظم هو تصدع المسلمين، وتحولهم إلى شيعٍ وفئات متناكرة متخاصمة، وإن لم تكن متخاصمة في الظاهر فهي متخاصمة في الباطن. هذا البلاء الأعظم يتمثل بعد هذا في أننا بمقدار ما تناكرنا وبمقدار ما أصبحنا شيعاً وفئات متخاصمة، بمقدار ما امتدت منا الأيدي والقلوب لموالاة أولئك الأعداء، ألا تعلمون الأدلة ألا تعلمون الشوارع الجديدة وأسمائها، ألا تعلمون المواليد الجديدة، ألا تعلمون العواطف التي لا يمكن أن يُخمدها أي قرار أو أي كلام أو أي تذكرة، هذا في الوقت الذي نلاحظ فنجد أن هذه الأمة المسلمة بالنسبة لنفسها قد تحولت إلى فئاتٍ متخاصمةٍ متهارجة متباعدة، وكلكم يقرأ كلام الله وكلكم يقرأ قوله: "ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليه وفي العذاب هم خالدون، ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليهم لما اتخذوهم أولياء" هذا كلام الله سبحانه وتعالى. فهذا هو البلاءُ الأول.

البلاء الثاني: تلك النيران التي تشتعل هناك، هذا البلاء الثاني جاء فرعاً عن البلاء الأول، فمن أراد أن يتألم للفرع، عليه قبل كل شيء أن يتألم للأصل، ومن أراد أن يتساءل ماذا نصنع لأخوة لنا مسلمين يُذَبّحون هناك وهناك. فليتساءل من الذي يبارك ذلك التذبيح من الذي يصفق لذلك التذبيح، أو من الذين يناورون من أجل ذلك التذبيح، إنهم أولئك الذين ظننا أنهم انتصروا لنا هنا، هم أنفسهم. أفلا نعي أفلا ندرك الأمور وأبعادها؟

وأعود فأقول هذا هو الداء، ولا أريد أن أسير وراء الناس لأصف الداء وأضع في القلوب ناراً لا تُخمد، إنما الذي يعنيني أن أضع أمامكم الدواء أيها الأخوة، الدواء هو توجيه القلب إلى الرب، تطهير القلب من شوائب الدنيا، ولا والله يكون ذلك إلا بالإكثار من ذكر الله عز وجل على المستويات كلها.

والمعاصي نوعان اثنان أيها الأخوة: معاصٍ قلبية ومعاصٍ تبتلى بها الجوارح، أهون بمعاصي الجوارح أمام معاصي القلب، معاصي القلب المتمثلة في الكبر المتمثلة في الأنا المتمثلة في الهوى المتمثلة في التنافس ابتغاء الانتصار للذات، تلك هي المعاصي المُهلكة.

وانظروا .. إنّ آدم عصا ربه إذ أكل من الشجرة ولكن سرعان ما تاب الله عز وجل عليه، ولكن معصية إبليس لا تزال إلى اليوم معصيةً أغضبت الرب عليه؛ ذلك لأن معصية آدم - إن اعتبرناها معصية وهي معصية لغوية آنذاك - هي معصية جوارح معصية إرادةٍ ضَعُفَت عن الثبات أمام شهوةٍ من الشهوات، أما معصية إبليس فهي معصية استكبار؛ معصية قلب. تلك هي المعصية التي لم تجد باباً مفتحاً للتوبة أمامها.

نحن ابتلينا أيها الأخوة بمعاصي القلوب .. زُرِعت محبة الدنيا في قلوبنا بدلاً من محبة الله، زُرِعت مهابة الناس - وأي ناس - في أفئدتنا بدلاً من مهابة الله سبحانه وتعالى، فإذا وجدنا نتائج ما قد وقعنا فيه فما ينبغي أن نَتعجّب، وإذا وجدنا آثار أخطائِنا القلبية فما ينبغي أن نَندُب إسلامنا. ولماذا لا ينتصر لنا إسلامنا؟ متى كان الإسلام ينتصر لأعدائه متى كان الإسلام ينتصر لمن يستغله مطايا؟

تحميل



تشغيل

صوتي