مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 24/07/1992

الموت دواء ونعمة .. لكننا عنه غافلون

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

كما أن الإنسان لا يستطيع أن يدرك حقيقة النهار، ولا يستطيع أن يعلم السبيل الأمثل للتعامل معه إلا إذا أدرك أن من بعده ليلاً مظلماً آتيا، وكما أن الإنسان لا يمكن أن يدرك حقيقة الصيف ولا يستطيع أن يتعامل معه التعامل السليم الصحيح المثمر إلا إذا أدرك أن هذا الصيف من بعده شتاء، فكذلكم الحياة التي يعيشها الإنسان لا يستطيع أحدنا أن يدرك حقيقتها ولا أن يصل إلى سرّها ولا أن يتعامل معها إلا إذا علم أن جوهر الحياة إنما يتم إدراكه عن طريق فهم الموت.

فالذين عاشوا حياتهم الدنيوية هذه وتقلبوا في رغدها ونعيمها ولم يحاولوا أن يدركوا أن جوهر هذه الحياة إنما هو أشبه ما يكون بميزان، والميزان لا يمكن أن يتألف إلا من كفتين اثنتين، هؤلاء الذين تعاملوا مع حياتهم الدنيا ونظروا إليها من خلال نظر أحدهم من الميزان إلى كفة واحدة لا يمكن إلا أن تشقيهم هذه الحياة، ولا يمكن إلا أن يقعوا منها في مغبّات مهلكة، وإنها لحقيقة ما أحسب أنها تغيب عن ذهن مفكر، هل هناك إنسان يتعامل مع فصل الصيف تعاملاً حقيقياً إلا على ضوء أن أمامه شتاءً سيقبل إليه عما قريب؟ وهل هناك من يتقلب في ضياء النهار ذاهباً آيباً غادياً رائحاً إلا من خلال فهمه أنه بعد ساعات قليلة سيستقبل ظلام ليل دامس؟ كذلكم هذه الحياة التي نعيشها إنما ينبعث سرها من الموت المرتبط بها، وإنما يستطيع الإنسان أن يقدّر قيمة هذه الحياة تقديراً حقيقاً من خلال فهمه بارتباط الحياة ارتباطاً شديداً بالموت.

فمن عرف أن سر الحياة إنما يتممه الموت كما أن سر الموت إنما تتممه الحياة استطاع أن يتعامل مع الحياة التعامل المسعد، واستطاع أن يعلم كيف يضحي بها عندما يقتضي الأمر، وكيف يكون ضنيناً بها عندما يقتضي الأمر، ومن ثَم فإن هذا الإنسان دون غيره هو الذي يستطيع أن يجعل من حياته جسراً يسعده، جسراً يوصله إلى أحلامه وإلى المآلات التي يحلم بها والتي يشد آماله إليها، وإذا عرفنا هذه الحقيقة أدركنا أن الموت ليس في حقيقته مصيبة؛ بل الموت إنما هو المعنى المتمم لقيمة الحياة التي نعيشها، هل هنالك من يتصور أن إحدى كفتي الميزان مصيبة ضد الكفة الأخرى؟ وهل هنالك من يتصور أن الكفة التي توضع فيها الأثقال إنما هي عدوة للكفة التي توضع فيها الأقوات؟ إن كان هنالك من يتصور هذا فإنه من الجنون بمكان، كذلكم الحياة والموت، وكم يدل على هذا المعنى بوضوح قول الله سبحانه وتعالى: )تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ # الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا(.

معنى الابتلاء لا يمكن أن يتكامل إلا من خلال تمازج الحياة بالموت، ولو أن الحياة استقلت وحدها لما كان للابتلاء معنى، ولو أن الموت كان هو القدر الوحيد الذي يواجه الإنسان لما كان لهذا الابتلاء معنى، إذا عرفنا هذا فلنتصور المنزلقات التي تواجه الإنسان في سلوكه وحياته، التي ترديه وتزجّ به إلى أودية الشقاء، ولنتصور رعونات النفس التي تحفزنا وتدعونا إلى ارتكاب كثيرٍ من المعاصي؛ بل لنتصور العصبية المهلكة التي تتربع في كثيرٍ من الأحيان على عروش نفوسنا وأفئدتنا، ثم تسوقنا لحسابها في كل مهيعٍ وفي كل وادٍ من أودية التيه والضلال، ما الشيء الذي يخلصنا منه؟ لن يخلصنا من آفات المعاصي التي تتسرب إلينا والمنزلقات التي نقع فيها والشهوات أو الأهواء أو العصبيات التي تتحكم بمجامع نفوسنا، لن يعتقنا منها ولن يحررنا منها إلا إذا علمنا الحياة وأدركنا الكوابح التي قيضها الله سبحانه وتعالى مع الحياة، وما هي الكوابح التي ربطها الله ربطاً محكماً بالحياة؟ إنها الموت.

أرأيتم إلى عربة تساق دون كوابح؟ لو فقدت الكوابح إذاً لهوت هذه العربة بأصحابها ولأهلكتهم خلال دقائق، ومن هنا تدرك أن الكوابح التي في العربة هي سر رعاية من يركبها؛ بل هي سر الوقاية، وإن بدت أنها تعارض سير العربة في كثير من الأحيان، كذلكم الحياة إذا شبهناها بعربة فالكوابح التي يجب أن تكون لهذه العربة إنما هي كوابح الموت، عن طريق كوابح الموت إذا تذكرناها، وإذا عرفناها نتخلص من المنزلقات فلا نقع فيها ولا تهوي بنا إلى أسفل أودية التيه والضلال، بواسطة هذه الكوابح نستطيع أن نتحرر من رعوناتنا ونستطيع أن نتحرر من وساوس شياطيننا فنشد أنفسنا سيراً على صراط الله سبحانه وتعالى، بواسطة كوابح الموت التي ينبغي أن نكون على ذكرٍ منها دائماً نستطيع أن نتحرر من عصبيتنا التي تجعلنا كثيراً من الأحيان نتخادع، والتي تجعل كثيراً منها يلبّس على صاحبه باسم الدين وباسم النقاش بالإسلام وباسم كثيرٍ من الأمور والشؤون المختلفة.

أرأيتم كيف أن الموت نعمة ولكنها نعمة باطنة غير ظاهرة، وإنما يستطيع التعامل مع هذه النعمة من وضعها في فكره دائماً، ومن تعامل مع هذا الموت بالانتظار والتذكر والتدبر، وإن كان يتقلب في رغد العيش وفي نعيم الحياة، هذا هو الذي يدرك نعمة الموت ويدرك معنى الكوابح التي جعلها الله سبحانه وتعالى كامنةً في نعمة الموت.

أما الإنسان الذي استغرق في حمأة هذه الدنيا وشهواتها، والذي أخذ يتقلب منها في نعيمٍ أطبق عليه من أطرافه، فكان كمن يتعامل مع الميزان بكفة واحدة فقط، أو كان كمن استهوته تلك العربة التي لا كوابح لها ظناً منه بأنها تستطيع أن تطير به أنى شاء، أما هذا الإنسان الذي استهوته الدنيا وشهواتها وأهواؤها فأنا أعلم يقيناً أنه يكره الموت؛ بل يكره من يذكره بالموت وهو شيء نعرفه جميعاً ولكن فليعد هذا الإنسان إلى نفسه وليضحك من غبائه وليتساءل ماذا يفيده أن يكره الموت!! بل ماذا يفيده أن يكره من يذكره بالموت إذا كانت هذه الكراهة لا تحصنه ضد الموت! بل ماذا يفيده أن يفر هارباً من الموت وليتقلب من الدنيا بألوان من الرغد والنعيم الذي فيها، ماذا يفيده أن يفر من الموت! ألم يسمع كلام الله خالق الموت والحياة ) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (، لكن ما أيسر أن يعلم الإنسان أن الدواء الشافي لكثير من رعونات الحياة وعصبياتها وأهوائها ومنزلقاتها والشرور التي تعلمون مما يعدي الناس بعضهم ببعض بهذه الشرور الدواء الوحيد أن يشدنا الموت بالذكرى، وأن نعيش مع الموت بالانتظار، وأن نكون كما قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أكثروا من ذكر هادم اللذات ومفرق الجماعات، فإنه ما ذكر في قليلٍ إلا كثره – أي من الطاعات والقربات – وما ذكر في كثيرٍ – أي من الإقبال إلى الشهوات والأهواء - إلا قلله".

أرأيتم كيف يصور لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الموت بهذا الكابح الذي حدثتكم عنه؟ من منا يشك إذاً في أن الموت نعمة، نعمة تأتي في ميقاتها، نعمة يتعامل معها الإنسان حسب النظام المرصود، تماما كالدواء إذا أخذته منه جراعات طبق ما أوصاك به الطبيب كان خيراً لك من الغذاء الذي تتناوله، ولكنك إذا أخذت منه بشكل كيفي دون نظام تحول بلا شك إلى بلاء ؛ بل إلى سمٍ ناقع مهلك وكذلكم الموت.

إنني عندما أنظر إلى هذه المجتمعات النائية عنا أو القريبة منا، وأنظر إلى واقع المسلمين وقد استشرت في حياتهم الأدواء المهلكة، وأعرضوا عن ديَّان السموات والأرض بما أسكروا أنفسهم من الأهواء والشهوات، وعندما أنظر إلى شرائح المسلمين أو الجماعات الإسلامية وقد تحول عملهم الذي كان ينتظر منهم إلى تهارج وتخاصم وتعادٍ تسوقهم إلى ذلك كله عصبيات رعناء تفوح رائحتها إلى أبعاد كثيرة، عندما أنظر إلى هذه الفتن والمصائب التي تحدق بنا، وأتأمل بحثاً عن العلاج الذي يخلصنا بسرعة من هذه الأدواء والله لا أجدني إلا أمام علاج واحد، هو أن نضع الموت أمام بصائرنا إن لم يكن يتسنى أن يوضع أمام أبصارنا، وأن نتبين أنه قد حان ميعاده وأنه قد طرق بابنا، إن لم يطرق اليوم فكأن قد.

دواؤنا الوحيد للتخلص من رعوناتنا أهوائنا تعشقنا للدنيا، إعراضنا عن الله، العصبيات الجاهلية التي استحكمت بنفوسنا ثم غطيناها بأردية الإسلام والعمل للإسلام، ثم تهارجنا بهذا السلاح وتقاتلنا، وجعلنا أعداءنا يصفقون لنا لأننا بهذا نتشرذم أكثر مما يحلم به أولئك الأعداء، والله لا علاج لذلك كله إلا أن نعلم أن كفة الحياة التي نتقلب فيها إنما هي ناظرة إلى كفة الموت الذي يتربص بنا، فمن مزج مشاعر حياته بمشاعر الموت الذي ينتظره سار على صراط الله، واستطاع أن يتمسك بزمام الوسطية الذي أمره الله سبحانه وتعالى بالتمسك به ولم تستطع الدنيا أن تسكره ولا الشهوات أن تأخذ بمجامع نفسه، ولا العصبية الرعناء أن تحمله على مخادعة الآخرين، وليتصور كلٌ منكم مصداق ما أقول في المشهد الذي أفترضه والذي نحن كلنا على موعد معه، أرأيتم لو أن الواحد من هؤلاء وجد نفسه وجهاً لوجهٍ أمام الموت، دنى إليه ملك الموت وأعلن أن قد حانت ساعة رحلته من هذه الحياة إلى لقاء ربه عزَّ وجل، إلى ما تؤل حال هذه الرعونات كلها، وأين تختفي أصوات هذه العصبية أجمع؟ وكيف تصبح حاله وهو الذي كان سكيِّراً بشهواته وأهوائه؟ سيتحرر آنذاك عن ذلك كله، ولسوف تصفو نفسه عن هذه الشوائب كلها.

هذا الدواء فلماذا لا نستعمله جرعة إثر جرعة ونحن نتقلب في رغدٍ من حياتنا التي نعيشها، لماذا نبتعد عن هذه القارورة المليئة بالدواء لكي نستعملها في لحظة واحدة عند الموت ثم نأخذها جرعة واحدة! وعندئذٍ سنشعر بمرار الدواء ولكننا لن نشعر أبداً بأي فائدة من هذا الدواء.

فائدة الموت أيها الإخوة أعظم بها من فائدة، ودواء الموت هو الدواء الأجل الأقدس، ولكن بمقدار ما أن هذا الدواء دواء ناجع عظيم بمقدار ما أن الناس معرضون كل الإعراض عن هذا الدواء.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل خيال الموت مغروساً في ألبابنا وعقولنا، ونسأل الله عزَّ وجل أن ندرك بكل سهولة أن الموت رحمة، وأنه كابح وأي كابح لحقائق الحياة وأخطارها، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا السير على صراطه، والتمسك بمنهج الوسطية عن طريق اللجوء إلى هذا العلاج.

تحميل



تشغيل

صوتي