مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 17/07/1992

مشكلة كثير من (الجمعيات الخيرية)

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

كلما وقفت على مثل قول الله سبحانه وتعالى: "وآتوهم من مال الله الذي آتاكم".

أو على مثل قول الله سبحانه وتعالى: "وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه".

أو على قوله عز وجل: "من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون".

أو على قوله عز وجل: "وجعلنا بعضكم لبعض فتنةً أتصبرون وكان ربك بصيراً".

أو عندما أمر على مثل قول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إن الله جعل في أموال الأغنياء بالقدر الذي يسع فقرائهم، وإن الفقراء لن يجهدوا إذا جاعوا أو عروا إلا بما يصنع أغنيائهم، وإن الله سائلهم عن ذلك فمحاسبهم حساباً عسيراً" .

كلما وقفت على أمثال تلك الآيات وعلى مثل هذا الحديث النبوي الشريف ازددت يقيناً بالحكمة الربانية عندما خلق الناس متفاوتين في قدراتهم، وعندما خلقهم متفاوتين في درجات الغنى أو الفقر التي ابتلاهم الله عز وجل بها، وتبين لي أن هاهنا يكمن محك العبودية لله عز وجل، وهاهنا يتجلى صدق الصادقين وكذب الكاذبين، فلو كان الناس جميعاً على مستوىً واحدٍ من الكفاية لما كان ثمة أي معناً لقول الله عز وجل: "من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً"، وتبقى أموال الناس في جيوبهم دون أن يحتاجوا إلى أن يقتحموا ما هو شديد على نفوسهم، خطيرٌ على أمزجتهم، مخالفٌ لأهوائهم وغرائزهم.

ولكن لما جعل الله عز وجل هذه الدنيا دار ابتلاء ،كان لا بد أن تتحقق مواد الابتلاء وأسبابها، ومن أهم أسباب الابتلاء أن يفاوت الباري سبحانه وتعالى في القدرات المادية والجسدية والفكرية بين الناس، ثم يغري بعضهم إلى بعض، ثم يأمر الباري سبحانه وتعالى بما أمر به عباده، وعندئذٍ تتجلى حقيقة الصدق وتتميز عن الكذب.

وهذه الحكمة موصولة اتصالاً وثيقاً بالمعنى الذي نلحظه في قول الله عز وجل: "زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث"، فإن قال قائل: لماذا زينها الله عز وجل في قلوبنا فكان من ذلك عقبة وأي عقبة تمنعنا من الانصياع لأمر الله؟

لو لم يزين الباري سبحانه وتعالى المال في عينك وقلبك لكانت قيمته كقيمة التراب سواءً بسواء، ولما كان لك أي فضل في الانصياع لأمر الله عز وجل، ولما كان في هذا الانصياع أي دليل على أنك قد آثرت الله على هوى نفسك، ولكن الله عز وجل غرس جذور محبة الدنيا في قلبك، ثم ابتلاك بأن تقف منها الموقف الذي أمرك الله، ثم ملئ من حولك أناساً هم بأمس الحاجة إلى المعونة، هم بأمس الحاجة إلى الرعاية، هم بأمس الحاجة إلى أن تعطيهم من ذات يدك، وعندئذٍ يتجلى الصادق من الكاذب، وههنا مكمن الوصول إلى الله أو القرب من الله عز وجل.

أما تلك الأعمال التي لا تكلف أصحابها رأسمال، كتلك العبادات التي ما أسرع ما يتعود الجسد عليها، فإنها - والحق أقول - لا يمكن أن تدل وحدها إطلاقاً على أن أصحابها سائرون إلى الله عز وجل أو صادقون في دعوى إيمانهم بالله عز وجل، كلما طرقنا أبواب كثير - ولا أقول كل كثير - من الأغنياء من أجل أن يقدموا يد العون إلى فقراء هم بأمس الحاجة إلى المقومات الأساسية للحياة. قيل لنا: لقد دفعنا الحقوق الإلهية في ذممنا كاملة غير منقوصة دفعنا زكاة مالنا. لمن؟ دفعناها للجمعيات الخيرية.

ولقد كنت أود أن لا أطر إلى أن أعود مرة أخرى إلى الحديث عن هذه الجمعيات، ولكن الضرورة القصوى تلجئني إلى هذا الحديث. الفقراء المنكوبون هم كثر، والذين هم بأمس الحاجة إلى مقومات الحياة الضرورية لا الترفيهية كثر، والأغنياء كثر أيضاً، وعندما نطرق أبواب كثيرٍ من هؤلاء الأغنياء يعتذرون ولهم الحق في هذا العذر أنهم قد وكلوا الجمعيات الخيرية بتقديم الحقوق المترتبة في أموالهم للمستحقين الذين تحدث البيان الإلهي عنهم في كتابه المبين، وعندما نطرق أبواب هذه الجمعيات نجد صمتاً كصمت الموت. بل ماذا نجد؟ نجد تباهياً بالمال الذي جمعوه، جمعوه في غاية الحماسة وفي غاية الاهتمام، وكأن قلوبهم مكلومة تتنزا دماً على الفقراء، بهذا الشكل جمعوا المال، حتى إذا استوثقوا منه وتجمع تحت أيديهم رقدوا على هذا المال رقدة الموت، فإذا جاء الفقراء وقد أحالهم الأغنياء إلى هذه الجمعيات، حتى إذا جاؤوا يطرقون أبواب هذه الجمعيات نظروا إليهم شذراً؛ نظرة فيها كل معاني التأديب وفيها كل معاني التقريع، نظرة فيها كل المعاني التي تجرح الإنسان الكريم، مهما كان بعيداً عن معنى الكرامة، ومهما كان قد اعتاد على أن ينال الصفعة تلو الصفعة.

وهنا أيضاً أقول وأستدرك أنا أستثني قلةً من الجمعيات، ولكنها قلة نادرةٌ جداً، تلك هي المعضلة التي نعاني منها أيها الأخوة.

المعضلة هي أن القناة التي تصل ما بين جيوب الأغنياء وجيوب الفقراء تفصلها عقدة، هذه العقدة تتمثل في الجمعيات الخيرية التي قضى الله أن تكون شؤماً على الأغنياء وعلى الفقراء معاً، ذلك لأنهم لم يكونوا أمناء اتجاه الأغنياء الذين وكلوهم، وكانوا خائنين اتجاه الفقراء الذين لم يؤدوا حقوقهم إليهم. فما العمل؟ ما العمل أيها الأخوة؟ أنا أرسل كثيراً من هؤلاء المحتاجين إلى هذه الجمعيات التي أعلم أن أعضائها يرقدون على ملايين، ولكن هؤلاء الفقراء يُطردون شر طردة، ولتمنيت أن لو فتح الواحد من أعضاء هذه الجمعية محضر تحقيق، أو لو أنهم صرفوهم - كما يقولون - بالتي هي أحسن، ولكن هؤلاء الفقراء ينالون منهم فوق فقرهم التقريع والتأنيب والجرح في الكرامة، وإن الله سبحانه وتعالى ليغار على كرامة عباده أكثر من أن يغار على جيوبهم: "قولٌ معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم"

يحدثني واحدٌ من هؤلاء وقد أحاط به الضر من كل جانب؛ أحاط به الضر من كل جانب؛ ولتخيلت وأنا أقرأ كلامه أن بينه وبين الانتحار حاجزٌ واحد، هو بقايا إيمانه بالله عز وجل: ذهب إلى مسؤول عن هذه الجمعيات له قدمٌ سابقة في الدين، له قدم سابقة في الإيمان، في الحديث عن القرآن، في الحديث عن السنة، بدء يشكو له قصته، ولكن الرجل بخل عليه حتى برفع رأسه لينظر إليه، ظل ينظر في دفاتر حسابه في دفاتره التجارية يقلبها ثم قال له متأففاً دون أن ينظر إليه: اختصر فإن وقتي ضيق، ولما ذكر له القصة بكاملها، صرفه بكلمة هي قول: يعينك الله (الله يعينك).

ولقد وقفت أمام هذه الكلمة، ماذا أقول في التعليق عليها: (الله يعينك)، ماذا لو استقبلك الأغنياء الذين كنت تقفز إلى دكاكينهم واحداً إثر آخر، وأنت تَستدِرُ الرحمة بألسن هؤلاء الفقراء، ماذا لو قال لك الواحد منهم إثر الآخر: (الله يعينك .. الله يعينك) إذاً لنثرت له خطبةً طويلةً عريضة تعلمه فيها الرِقة والرحمة بالفقراء، تعلمه فيها كيف يكون كريماً، ولكن هذا كله تذكرته عندما كنت تجمع المال، حتى إذا اطمأننت أن المال قد جمع، وأنه قد تهيأ تحت يديك، وجاء دور الذين كنت تستدر الرحمات باسمهم، وجاء دور الذين كنت تتكلم بألسنتهم، جاء الواحد من هؤلاء يطالبك بأن تحقق، يطالبك بأن تنظر قبل أن تعطي وقبل أن تصدق. تقول له: انصرف فالله يعينك، تقول له: اختصر فأنا مشغول.

لست مشغولاً عندما تجوب الأسواق من أولها إلى آخرها لتجمع المال باسم الفقراء، ثم إنك تصبح مشغولاً لا تجد أمامك دقيقة واحدة لتصغي بها إلى فقير، ابتلاك الله سبحانه وتعالى به، ثم تطرده شر طرده، وليت أن الواحد من هؤلاء لم يكن متقنعاً بقناع الإسلام، لم يكن متقنعاً بقناع الدين، ولكنهم يتقنعون بمظاهر دينية يتقاصر أمامها مظهر إنسانٍ مثلي، يتظاهرون بأنهم الحفظة لدين الله، وبأنهم السائرون على سنن الله عز وجل، وإنها والله لتجارة فوق تجارة، تجارة الدنيا بعد ذلك أن نركب الدين فنجعله مطية أخرى إلى دنيانا وشهواتنا.

أيها الأخوة تلك هي المشكلة فكيف يكون حلها؟ كيف يكون حلها؟ جمعيات كثيرة ومرة أخرى أستثني قليلاً من هذه الجمعيات، نعم ولكن أكثر هذه الجمعيات هكذا، تمتصّ المال من جيوب الأغنياء ثم تضعه في سدٍ محكم عن أن يصل إلى أيدي الفقراء، فإن وصل فبأي كيفية يصل؟

طوابير من الذل تقف وكلمات تلسع أكباد هؤلاء الفقراء جرحاً لكرامتهم وتمزيقاً لأفئدتهم، في سبيل ماذا؟ في سبيل أن ينال الواحد منهم في كل شهر خمسمائة ليرة أو أقل أو أكثر بقليل، والمال وفير والإنسان الذي يحتاج إلى زواج يتقلب على مثل الغضى، ولا يجد من ينجده، والإنسان المهدد بأن يأوي إلى الشارع فيرقد في الشارع لا يجد من ينجده، والملايين المكدسة مهيأة تقول بلسان الحال: تعال يا صاحب الحاجة فأنا أنتظرك أكثر مما تنتظرني، ولكن هذه الملايين محبوسة، لماذا هي محبوسة؟ لا أدري لا أدري أهي أموالكم؟ أهي ملك آبائكم وأجدادكم؟ كيف وبأي وجهٍ تقابلون رب العالمين غداً؟ عندما يطالبكم الله بالأمانة التي ضيعتموها.

كأني بالواحد من هؤلاء الناس وقد وضع شحّه حكماً بينه وبين هذه الأموال، يرى الملايين المكدسة تجمعت بين يديه فيمنعه الشح من أن ينثرها بين بياض يوم وسواد الليلة التابعة له. كيف ينبغي أن يبقى هذا المال؟ ينبغي أن يبقى هذا المال ربما وسوس إليه الشيطان أن يربي هذا المال بمشاريع وكذا وكذا ، لا والله لا مشاريع تقام ولا هذه الأموال تسري إلى أيدي أصحابها، الكلمة الوحيدة التي يخيل إلي أن الله سيجعل منها حلاً لهذه المشكلة هي أن أقول لكم: أيها الأخوة من كان يرى أن في عنقه ذمةً اتجاه الله عز وجل قد ارتبطت بماله فليؤدها إلى الفقراء مباشرة، وليبعد هذه الجمعيات عما بينه وبين أولئك الفقراء، فذلك أرضى لله أولاً، وذلك أجزل للمثوبة لكم ثانياً، وذلك أضمن لقلوبكم ثالثاً.

وإذا علم الواحد منكم أن هذه الأموال لن تصل إلى منتهاها الذي شاءه الله عز وجل فإنكم مسؤولون إذاً، لا يجوز أن أوكل إنساناً في إنفاذ زكاة مالي إلى محتاج، إلا بعد أن أثق أنه أمين لن يخون، وإذا عرفنا أن الأمر على النقيض من ذلك، فسيروا إلى الله عز وجل بأجرين اثنين: الأجر الأول البحث عن المحتاجين الحقيقيين، ثانياً أن تدفعوا حقوقهم إليهم مباشرة. فذلك أحرى أن يحفظ الله سبحانه وتعالى لكم الأجر العظيم والوفير.

وأنا أعلم أيها الأخوة أنني عندما أقول مثل هذا الكلام سأسمع تأففاً بعد حين من هؤلاء الذين اتجهت اليهم كلماتي بالنقد والتذكير والعتاب، أنا أعلم أنهم سيتأففون، ولقد تأففوا كثيراً، وأعلم أن فيهم من يتساءل أليس هنالك مشكلات أخرى يمكن أن تتحدث عنها كما قلت لكم منذ أسبوع أو أسبوعين: علينا أن نتسلى جميعاً بجهة واحدة ننقلها، ولقد عرفناها وعرفنا جميعاً إنها القادة والحكام، علينا أن نتسلى جميعاً بالحديث عنها وبنقدها، حتى يكون لنا من ذلك ما يشغلنا عن هؤلاء الذين يعبثون ويعيثون في أرض الله فساداً، أليست هنالك مشكلات أخرى تتحدث عنها، بلى بقيت مشكلة واحدة أن نتحدث وأن نتسلى مع القادة عن أخطائهم.

ولكن الله عز وجل قال: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " كما تكونوا يولَّ عليكم"، ولم أعلم أبداً أنه قال كما يُول عليكم تكونون، فلماذا لا نشم رائحة أكفنا؟ لماذا لا نضع أنفسنا مع الآخرين على قدم المساواة؟

كلنا ينبغي أن نقبل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بدءاً من أعلى قمة في القيادة إلى كل فئات الناس كلنا ينبغي أن نخضع لقدسية التذكرة لقدسية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مقياس واحد نتمسك به، أن ننظر إذا كان هذا الكلام حقاً طأطأنا الرؤوس لهذا الكلام، وإذا رأيناه كلاماً بعيداً عن الصواب فلكلٍ منا أن ينقضه ويرد عليه.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يصلح أحوالنا وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يقينا شح أنفسنا في أموال غيرنا قبل أن يقينا شح أنفسنا في أموالنا أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم .

تحميل



تشغيل

صوتي