مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 03/07/1992

عبرتان من ذكرى الهجرة

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

يحتفلُ العالمُ الإسلاميُّ كلّهُ في هذه الأيّام بعامٍ هجريٍّ جديدٍ أقبلَ يذكّرهم بمعلمةٍ من معالمِ الإسلام، وبمشهدٍ عظيمٍ خطيرٍ من مشاهدِ السّيرةِ النّبويّةِ المعطّرة، ونحنُ في مثلِ هذه المناسبات لا بدَّ أن نذكّر بأننا لسنا من الاحتفالات الشّكليّةِ بتاريخنا بشيء، فهنالك أناسٌ يحتفلون بذكرياتهم الدّينيّةِ أو التّاريخيّة باحتفالاتٍ تقليديّة، ولكنّنا لسنا من هذا المنهجِ في شيء، ذلك لأننا إذا احتفلنا بشيءٍ من هذه الذّكريات فإنما نفعلُ ذلك تقرّباً إلى اللهِ سبحانهُ وتعالى وسيراً إلى مرضاته، ولقد علمتم أنَّ اللهَ عزَّ وجلّ لا يقيمُ وزناً لهذه الشّؤونِ والأعمالِ التّقليديّة، وسمعتم مراراً وتكراراً قولَ سيّدنا رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلّم: "إنَّ اللهَ لا ينظرُ إلى صوركم ولا إلى أجسادكم ولكن ينظرُ إلى قلوبكم".

ولكن في الوقتِ الذي ننكر ونحذّر من أن ننهجَ هذا التّقليديَّ في الاحتفالِ بذكرياتنا ومشاهدِ تاريخنا العظيمِ الأغرّ، فإننا في الوقتِ ذاته نهيب لضرورةِ أن نقفَ أمامَ هذه الذّكريات، لا وقفةً تقليديّةً لا معنى ولا قيمةَ لها، وإنما علينا أن نقفَ أمامها لنأخذَ منها الدّروسَ والعبر، ثمَّ لنبادر فنتّخذَ من هذه الدّروسِ والعبر منهجاً عمليّاً وسلوكيّاً في حياتنا، نقوّمُ بهذا المنهج المنحرفَ في سلوكنا، ونصلحُ بهذا المنهج الفاسدَ من تصوّراتنا وأعمالنا، وعندئذٍ نكونُ قد سلكنا مع تاريخنا، وفي صلتنا بنبيّنا سيّدنا محمّدٍ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم النّهجَ الذي يرضي اللهَ عزَّ وجلّ والذي يرضي رسولهُ عليهِ الصّلاةُ والسّلام.

أريدُ أن أوضحَ لكم باختصارٍ أيها الإخوة أنَّ هجرةَ سيّدنا رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلّم من مكّةَ إلى المدينة تتضمّنُ فيما تتضمّن معنيينِ عظيمين ينبغي أن نتنبّهَ إليهما، لأنَّ لهما علاقةً وأيَّ علاقةٍ بواقعنا اليوم.

المعنى الأوّل، يتّصلُ بشخصيّةِ سيّدنا رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلّم ويلقي الضّوءَ على هويّته ويؤكّدُ نبوّتهُ ورسالتهُ التي تنزّلت عليه وحياً من عندِ اللهِ سبحانهُ وتعالى.

وإنّكم لتعلمون أو ينبغي أن تعلموا أنّهُ لم يكن هناك خلالَ التّاريخِ المنصرم، عبرَ الأجيالِ التي انقرضت، لم يكن هنالكَ من يفسّرُ نبوّةَ سيّدنا رسولِ الله صلى اللهُ عليهِ وسلّم بأنّها رسالةٌ قوميّةٌ أخذها المصطفى صلى اللهُ عليهِ وسلّم ورضعَ لبانها من قومه، وأخذّ وحيها من جماعته في مكّة، لم يكن هنالكَ في الأجيالِ السّابقةِ من يفسّرُ النّبوّةَ هذا التّفسيرَ المفترى حتّى جاء هذا العصر، فرأينا لأوّلِ مرّة من يزعم بأنَّ سيّدنا محمّداً صلى اللهُ عليهِ وسلّم إنما كانت رسالتهُ انعكاساً لآمالٍ وترّهاتٍ كانت تفور وتصولُ بينَ جوانحِ قومهِ وإخوانهِ في مكّة، انعكست هذه الآمالُ والتّرّهاتُ على شخصِ المصطفى صلى اللهُ عليهِ وسلّم فكانت رسالتهُ تعبيراً عن أمانيّهم ورغائبهم.

في عصرنا اليوم رأينا من يتواقح ويفسّر نبوّةَ رسولِ الله بهذا الشّكل، وإنّهم ليعلمون كما تعلمون أنّهم كاذبونَ في هذا التّصوّر، ويشاءُ الباري سبحانهُ وتعالى بحكمته الباهرة وبعلمهِ الذي يتّسعُ للغيب، للماضي والحاضرِ والمستقبلِ كلّه، أن يجعلَ من هجرةِ سيّدنا رسولِ الله صلى اللهُ عليهِ وسلّم أداةً تقطعُ ألسنةَ هؤلاءِ المتخرصين، وتمزّقُ هذه الفِريَةَ على لسانهم أو في الأوراقِ التي يكتبونها وينشرونها في العالمِ الذي من حولهم.

لماذا يهاجرُ المصطفى عليهِ الصّلاةُ والسّلام إن كانت دعوتهُ انسجاماً مع آمالِ قومهِ في مكّة؟ لماذا يضطرُّ إلى أن يهاجر مكّة المكرّمة بعدَ مضيَّ ثلاثةَ عشرَ عاماً من المحاولة ومن المصاولة ومن المحاورة؟ لماذا جاءت جهوده كلّها كجهودِ معولٍ صدئ يحاولُ صاحبهُ أن يحطّمَ به صخرةً عاتية؟ لو أنَّ دعوةَ سيّدنا رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلّم إنما انبثقت من أرضِ مكّة ولم تنزل إليهِ وحياً من سمائها، إذاً لما احتاجَ لأن يهاجر، ولرأى في أهل مكّة خيرَ من يستجيبُ لدعوته وينسجمُ مع رسالته، ولكنَّ اللهَ العليَّ العظيم أثبت لهؤلاء المفترين أنَّ سيّدنا رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلّم إنما تلقى هذه الرّسالةَ وحياً من ربّه ولم تتفجّر من تحتِ قدمهِ من أذهانِ قومه وأصحابهِ من حوله، وآيةُ ذلك أنَّ النّصرَ الذي جاءه وأنَّ الانسجامَ الذي تلقّاهُ مع دعوته ورسالته إنما جاءه من هناك، من صقعٍ بعيدٍ ناءٍ لم يكن يتوقّعُ سيّدنا رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلّم أن ينبتَ لهُ النّصرُ من هناك.

وهكذا فقد كانت هجرةُ المصطفى صلى اللهُ عليهِ وسلّم التي اضطرَّ إليها فعلاً، من مكّةَ إلى المدينة تكذيباً تاريخيّاً قضى اللهُ عزَّ وجلّ به قبلَ أربعةَ عشرَ قرناً من ولادةِ هذه الفِرْيَةْ التي يكذبُ بها أصحابها على اللهِ وعلى رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلّم.

وأمّا الحكمةُ الثّانية والمتعلّقةُ هي الأخرى بحياتنا اليوم، فهي أنَّ اللهَ عزَّ وجلّ شاءَ أن يجعلَ في عملِ سيّدنا رسولِ الله صلى اللهُ عليهِ وسلّم وفي عملِ أصحابهِ من حوله درساً وبياناً لنا نحنُ المسلمين، يقولُ بلسانِ الحالِ الذي هو أفصحُ كثيراً من لسانِ المقال: إنَّ الإيمانَ أو الإسلامَ ليسَ بالتّمنّي ولا بالتحلّي ولا بالكلامِ الفارغِ الذي لا يكلّفُ صاحبهُ شيئاً، وإنما يصدقُ المسلمُ في إسلامهِ عندما يذكر قيمةَ هذا الإسلامِ الذي يصدقُ به تضحيةً، إنما يثبتُ صدقُ هذا الإنسانِ المسلم عندما يجدُ أمامهُ تضاريسَ الشّهوات والأهواء واقفةً كالعقبةِ الكؤودِ أمامه، إما أن يقفَ دونها فيضحّي بإيمانه المزعوم، وإما أن يتجاوزَ هذه العقبات ويحطّمها فيضحّيَ عندئذٍ بشهواته وأهوائه في سبيلِ إيمانه وإسلامهِ للهِ سبحانهُ وتعالى، هكذا يثبت المسلمون صدقَ إسلامهم أو لا، فإنهم لا شكَّ يعبّرونَ عن كذبهم في دعوى هذا الإيمانِ والإسلام، ماذا كلّفت الهجرةُ رسولَ اللهِ وأصحابه؟ كلّفتهُ أن يترك الوطن، والوطنُ حبيبٌ إلى نفوسِ أصحابه، كلّفتهُ وكلّفتهم أن يتركوا في مكّةَ الأموال والمدّخرات والذّخر الوفير والعقارات، والبساتين والحدائق والدور، أن ينفضوا أيديهم من ذلك كلّه، وأن يرحلوا إلى اللهِ عراةً إلا من الإيمانِ به.

هكذا شاءت الأقدار، وهكذا وضعهم اللهُ سبحانهُ وتعالى أمامَ هذه العقبات، ثمَّ إنَّ اللهَ أعلنَ لنا ونبّهنا إلى كيفيّةِ الصدق. صدقوا ما عاهدوا اللهَ عليه، وآثروا الباقيَ على الفاني، تركَ أولئكَ الذينَ هاجروا مع رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلّم كلَّ ما يملكون لأنّهم اضطرّوا كما تعلمونَ إلى ذلك.

ولعلّكم تعلمون أنَّ صهيباً الرّوميّ، وكانَ قد تزوّجَ في مكّة هاجرَ هو الآخرَ إلى رسولِ الله ومعهُ حفنة يسيرةٌ من المالِ وزوجته، فخرجَ لهُ كمينٌ من المشركينَ في الطّريق فقالوا: (جئتَ إلينا صعلوكاً لا مالَ لك ولا زوجة، فتزوّجتَ من عندنا وجمعتَ هذا المال لدينا، أفتريدُ ان تمضيَ بذلكَ كلّه إلى صاحبك)؟ جرّدوهُ من الزّوجة، وجرّدوهُ من المال، ولكنَّ صهيباً رضيَ بذلكَ كلّه ورحلَ وهو قريرُ العينِ والقلبِ إلى اللهِ عزَّ وجلّ، عارياً إلا من أغلى ما يغني الإنسان، ألا وهو إيمانهُ باللهِ وإيمانهُ برسولِ الله.

هكذا يعلّمنا اللهُ ويعلّمُ أجيالَ الدّعاة بل أجيالَ المدّعينَ أنّهم مسلمون، أنَّ الإسلامَ هكذا يكون، ومن كانَ سائراً على هذا النّهج فبوسعهِ أن يقولَ أنّهُ مسلمٌ صادق، وإلا فليعلم بأنّه مدّعٍ، أقولُ إنَّ هذه الفائدة أو هذا المعنى الثاني مما يخصنا نحنُ المسلمين اليوم، لأنَّ أكثرَ المسلمينَ في هذا اليوم التقطوا من الإسلامِ ما لا يكلّفهم شروى نقير، تعملوا من الإسلام مع الألفاظِ والشّعاراتِ والكلماتِ الفارغة، حتى إذا رأوا أنفسهم أمام ما يكلّفهم شططاً أو قريباً من الشّطط، أعرضوا وتجاهلوا وتناسوا واكتفوا بالادّعاءاتِ والكلماتِ التي لا تكلّفهم رأسَ مال، هذا هو واقعُ أكثر ولا أقولُ كلّ المسلمينَ في عصرنا اليوم، فأينَ هي صلتنا بجيلِ الهجرة؟ أين هي صلتنا برسولِ الهجرةِ سيّدنا محمّدٍ عليهِ الصّلاةُ والسّلام، لقد أثمرت الهجرة بسبب هذا المعنى الذي قلتهُ لكم ثماراً عجيبةً وغريبة، أبدلهم اللهُ بدلاً من الوطنِ الذي تركوهُ فعلاً أوطاناً كثيرة، أبدلهم اللهُ عزَّ وجلّ بدلاً من المال اليسير كنوزاً من الخيراتِ سيقت إليهم من بلاد الرّومِ والفرس، أبدلهم اللهُ عزَّ وجلَّ بدلاً من ذلك الشّتات قوّةً ووحدةً وتضامناً، أمّا نحنُ الذينَ وُضعنا على رأسِ هذا الطّريق، ولكنّا آثرنا الشّهواتِ والأهواء، فليسَ لنا أن نسألَ الله ثماراً كتلكَ الثّمار التي أكرمَ اللهُ بها جيلَ الهجرة، ليسَ لنا أبداً أن نقول: إننا مستضعفونَ فأينَ هو نصرُ الله منّا؟ ليسَ لنا أبداً أن نقولَ: إننا أذلّاء فأينَ هو إعزازُ اللهِ عزَّ وجلّ لنا؟ ما الذي أعطيتموهُ ربَّكم لتمدّوا أيديكم إليه فتطالبوهُ بهذا كلّه؟

إنَّ فينا من يضيقُ ذرعاً حتّى بالنُّصحِ أيّها الإخوة، فكيفَ نتصوّر أنَّ لنا أن ننطقَ بألسنةٍ تطلبُ من اللهِ سبحانهُ وتعالى مالم يحقّقهُ لنا كما حقّقهُ لتلكَ الأجيال؟ منذُ أسبوعين أو ثلاثةِ أسابيع تحدّثتُ عن التّجّار الذينَ آثروا أن ينسوا أوامرَ الله وأخلاقَ الإسلام في نطاقِ دعايتهم التي يعكفون عليها لتجاراتهم، آثروا أن يحققوا هذه الدعاية ولو كانت على حسابِ الأخلاق، ولقد بلغني أنَّ في هؤلاءِ التّجّار من ضاقوا ذرعاً بهذه النّصيحة، من ضاقوا ذرعاً بهذا المعروفِ الذي أمرتهم به وذلك المنكرِ الذي حذّرتهم منه، ولقد قيلَ لي إنَّ منهم من قال: أليسَ لهُ شيءٌ يتحدّثُ عنهُ إلا هذا الموضوع؟ إذا كان تجارنا المسلمون يضيقون ذرعاً بالنّصح، يضيقونَ ذرعاً بالأمرِ بالمعروفِ والنّهيِ عن المنكر، فضلاً عن أن يسمعوه فضلاً عن أن يطبّقوه، ففيمَ نطالبُ اللهَ عزَّ وجلّ بشيءٍ لم ندفع ثمنه؟ فيمَ نطالبُ اللهَ عزَّ وجلّ بأن يرفعَ عن كواهلنا هذا القسط من الذّل ونحنُ لم ندفع شيئاً من قيمةِ العزّةِ التي نطمحُ إليها بشكلٍ من الأشكال؟ قلتُ لنفسي: إذا كانت كلُّ شريحةٍ من الناسِ تضيقُ ذرعاً بالمنكرِ الذي أذكّرها به، هذه تضيقُ ذرعاً بالمنكرِ الذي تلبّست به وتقولُ أو ترسلُ إليَّ كلاماً مفادهُ أليسَ لكَ شيءٌ آخرُ تتحدّثُ عنه، والشّريحةُ الثّانيةُ هكذا، والثّالثةُ هكذا، والرّابعةُ هكذا، إذاً فمن هم الذي نأمرهم بالمعروفِ وننهاهم عن المنكر والكلُّ يضيقُ ذرعاً؟

بقيت شريحة واحدة، ألا وهي شريحةُ القادةِ والحكّام، إذا تحدّثتُ عنهم صفّقَ الجميع، وإذا ذكّرتُ النّاس بالانجرافاتِ أو المنكراتِ التي قد ينحطُّ فيها بعضهم أو كلّهم صرتُ بطلاً في أعينِ وقلوبِ الجميع، أفهذا هو الصّدقُ مع الله؟ ألا نرجعُ إلى أنفسنا لنتّهمها: لماذا أضيقُ ذرعاً بأن يشارَ إليَّ بالبنان بلطفٍ وبتذكرةٍ محبّة؟ لماذا أضيقُ ذرعاً بأمرٍ بمعروفٍ ونهيٍ عن منكر؟ وقد أمرنا اللهُ عزَّ وجلّ بذلك.

عندما يكونُ هذا واقعنا فلنعلم أنّهُ ليسَ لنا أن نطالبَ اللهَ بشيء، تعاملنا مع اللهِ بالشّعارات وهو يتعاملُ معنا أيضاً مع الشعارات، فخذوا من الشّعاراتِ ما طابَ لكم واعتصروا من الشّعاراتِ ما يمكنُ أن تجعلوا منهُ مصدرَ عزٍّ لكم، واعتصروا منها ما يمكنُ أن يكونَ مصدرَ وحدةٍ لكم، أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيم...

تحميل



تشغيل

صوتي