مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 26/06/1992

الوازع الديني سبيلنا إلى التخلص من التخلف

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

أما أننا نحن المسلمون في هذا العصر قضي علينا بالتخلف، فإنها لحقيقة ثابتة لا مجال للريب فيها، وأما أنَّ علينا أن نعود إلى دراسة هذا التخلف والتنقيب عن أسبابه للتخلص منه، فتلك أيضاً حقيقة لا مجال للريب فيها. ولكن الأمر الذي يثير للعجب إلى درجة من الدهشة البالغة، أننا نرى أناساً دأبهم أن يعكفو على الحديث عن التخلف الذي تعاني منه هذه الأمة الإسلامية، ثم عن التنقيب عن أسباب هذا التخلف، ولكنهم لا يجدون سبباً لذلك إلا بقايا إنتماء هذه الأمة إلى الإسلام، فكأن السبب الأوحد الذي جعل هذه الأمة تعاني من تخلفها المذموم، أنها لا تزال تركن إلى بقية باقية من إسلامها، ولا تزال تعتز بصلة ما إلى تراثها كما يقولون، وإلى إيمانها وحضارتها الباسقة والمعروفة لنا جميعاً في التاريخ.

وما رأيت واحداً من هؤلاء الباحثين الذين يؤرقهم - بحسب الظاهر - واقع هذه الأمة تبينوا لهذه التخلف سبباً آخر، والأعجب من هذا أن أسباب التخلف واضحة للعيان يتبينها لا أولوا البصائر فقط بل يتبينها أولوا الأبصار أيضاً.

هذا هو الأمر العجيب الذي لا أعده إلا مظهراً هو الأخر من مظاهر التخلف في هذه الأمة، عندما منيت هذه الأمة ذات يومٍ بما يسمى الاستعمار، ثم أنقذها الله سبحانه وتعالى من براثن ذلك البلاء، جاء من رجال هذه الأمة من تصوّروا أن الانعتاق من آثار ذلك الاستعمار وأن التحرر من عقابيله إنما يتثمل ذلك كله بفتح الشوارع العريضة وإقامة الأبنية الباسقة ونبذها عن يمين وشمال بخطوطٍ وميول، والسير بالناس ذكوراً وإناثاً على النهج الذي كان يسير عليه ذلك العدو المستعمر، وقام هؤلاء الذين تصوروا الأمر على هذا النسق، وخُيّل إليهم أن سلم التقدم تحصر درجاته فقط في هذه الأمور.

عكفوا على ذلك وأتيح لهم فعلاً أن يفتحوا الشوارع العريضة وأن يرفعوا الأبنية الباسقة وأن يجعلوا الساحات والميادين تتلألأ بالأضواء الساطعة واستطاعوا أن يجعلوا الشوارع هنا تشبه الشوارع هناك ،وأن الغادين والرائحين والغاديات والرائحات هنا يشبهون ويشبهن أولئك الناس في تلك الفجاج الأخرى، ثم عادوا إلى بيوتهم وأماكنهم مطمئنين أنهم قد تخلصوا من التخلف، ثم نظروا بعد ذلك يميناً وشمالاً وإذا هم لا يزالون يعانون من بلاء ذلك التخلف، بل نظروا وإذا هم قد غرقوا في مزيدٍ من حمأة ذلك التخلف.

إذاً لم تستطع تلك الشوارع ولا تلك الأبنية ولا تلك المظاهر أن تخلصهم من ذلك البلاء، بل إن القوة التي تتمثل في العتاد هو الآخر لم يستطع أن يخلصهم من ذلك التخلف، لقد أتيح لهم أن يحققوا كل ما كانوا يحلمون به، وأتيح لهم أن يقلدوا تلك المجتمعات النائية حذو القذة بالقذة كما يقول المثل العربي فعلوا كل ما يحلمون به دون يتخلصوا من ذلك التخلف. هذه حقيقة ساطعة وواضحة نعلمها جميعاً. أما ينبغي أن ترشدنا هذه الحقيقة الواضحة إلى البلاء إلى السبب الأطم الذي يصفدنا في الأغلال، هب أن قوة من العتاد ضاهت لدنيا قوة أولئك الأعداء من هم الذين سيستخدمون هذه القوة.

إن الذين سيستخدمونها بنجاح إنما هم جندٌ آمنوا بحقهم الذي وضعوا حياتهم في سبيله، وضحّوا في سبيل هذا الحق بكل شهواتهم وأهوائهم، ولكن كيف السبيل إلى ذلك من ذا الذي يضحي بشهواته وأهوائه في سبيل الحق الذي آمن به، ها هنا تكمن المشكلة.

لا سبيل أبداً لجعل هذا الحق هو القيم على السلوك ولجعل الشهوات والأهواء هي الخادم الذي يوضع تحت الأقدام إلا عن طريق واحد، ألا وهو التربية الإنسانية المثلى، ولن تتحقق التربية الإنسانية المثلى إلا عن طريق الوازع الإيماني بالله سبحانه وتعالى. هذا الوازع الإيماني هو الذي يجعل الجندي قادراً أن يرقى إلى مستوى العتاد الذي أمكنته المادة منه، هذا الوزاع الإيماني هو الذي يجعل في البنيان الشامخ سرّه، وهو الذي يضع في الشوارع العريضة روحانيتها، هذا الوازع الإيماني هو الذي يجعل في المؤسسات التعليمية أو العلمية إشعاعها النابض، وسرها المنتشر إلى العقول والقلوب، هذا الوازع الديني هو الذي يجعل الطبيب إذا بات في مستشفاه يعلم كيف يخدم أمته ولا يجعل من ذلك فرصةً نادرةً للعكوف ليلاً على شهواته وأهوائه، هذا الوازع الديني الذي غاب من حياتنا هو السر في تخلفنا.

ولودت لو أن غبياً من هؤلاء الأغبياء الذي يكتبون عن أسباب التخلف تخلص من غباءه ساعةً واحدة، وتنبه إلى الحقيقة المثلى الساطعة أمام كل بصر وأمام كل بصيرة، لوددت أن يعلم ذلك لا بالرجوع إلى سنن الله في عباده المنثورة في كتابه، له أن لا يقرأ، ولودت أن يرجع أن يعلم هذا بالرجوع إلى مظاهر الكون الساطعة أمامه. أما نحن فمنذ قليل وقفنا عند قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}العنكبوت69.

عرفنا كيف يكون الجهاد عرفنا روح الجهاد وعرفنا خطواته وعرفنا أن خطوات الجهاد لن تأتي بقائم إلا إذا استقامت هذه الخطوات على روحه وما روح الجهاد إلا هذا {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ }العنكبوت69 {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}النحل97 أي لنعتقنه من تخلفه الذي يعاني منه.

يا عباد الله كلكم يعلم أن دولة من الدول العربية والإسلامية القريبة منا، امتلكت ذات يوم مظاهر القوة امتلكت مفاعلاً نووياً، وامتلكت ترسانة من القوة ارعبت العدو القريب والعدو النائيَ البعيد، ومع ذلك فإلى ما آل حال هذا كله؟ إلى ما آل حال ذلك المفاعل الباسق وتلك الترسانة القوية المخيفة؟؟

لقد تهاوى ذلك كله في جنح ليلة سوداء حالكة. ترى لماذا تهاوى؟ إن أردنا أن نفهم التقدم والتخلف بمظاهره المادية، فها هو جاء التقدم تماماً طبقاً للتقدم الآخر بل تحقق.

إذا أردنا أن نعتمد على المقايس المادية وحده، ولكن هذا التقدم الظاهري الذي يدغدغ مشاعر الأغبياء الذين يتكلمون عن التخلف والتقدم بمنئاً عن حقيقة هذا الدين العظيم. هذا التقدم لم يغنِ أصحابه شيئاً، بل تهاوى كما قلت لكم تحت سلطان مكيدة رخيصة؛ ذلك لأن هذه القوة أقيمت في العراء ذلك لأن هذا التقدم أقيم بعيداً عن أي حصن من الحصون، وما الحصن الذي يقف في وجه التقدم؟ الحصن كامن في ذاتي .. الحصن كامن في تربيتي .. الحصن كامن في كينونتي الإنسانية عندما تتوج بتاج الإيمان بالله سبحانه وتعالى. هذا الحصن لم يكن موجوداً، ومن ثم فقد كان سهلاً جداً على العدو القريب، وعلى العدو النائي البعيد أن يأتي كل منهما إلى مظاهر تلك القوة فيركلها بقدمه كما قد وقع فعلاً.

أليس في ذلك كله عبرةٌ لمن يريد أن يفهم الأمور على حقيقتها؟ أليس في عبر الدهر القديمة والحديثة ما يجعلنا ندرك هذه القضية التي لم تعد معقدة، ولا بأس من أن نأخذ العبر من واقع أعدائنا ومن واقع الأمم الأخرى، فالحكمة كانت ولا تزال كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ضالة المؤمن.

لقد فوجئت أمريكا ذات يوم بأنها متخلفة عن منافستها آن ذاك في غزو الفضاء وأعماله، فعاد المسؤولون هناك ينقبون عن سبب هذا التخلف، عن سبب هذه الثغرة. هل بحثو عن ذلك في تقنية ناقصة؟ هل بحثو عن ذلك من خلال قوة مادية غير متوفرة؟ أبداً ..إنما بحثو عن هذه الثغرة في التربية بحثوا عن هذه الثغرة في التربية السلوكية وفي الأخلاق التي ينبغي أن تتوفر ولقد تبينوا أنها هي النقيصة التي كانوا يعانون منها.

ولا يقولن قائل: ولكن كيف أتيح لهم أن يتبينوا الأسرار التي أعتقتهم من التقدم وهم غير مؤمنين، ولم يتح لنا أن نتبين هذه الأسرار ونحن مؤمنين؟ لا يقولن قائل هذا الكلام الباطل الأجوف الذي غدا ثقيل على الآذان وممجوجاً في القلوب والنفوس. لو كنا مؤمنين بالله حقاً، ولو أننا درسنا أسباب تخلفنا على الطريقة التي يدرسها أولئك الناس لأمكننا الله سبحانه وتعالى من التفوق عليهم، ولمد الله سبحانه وتعالى زمام حضارتنا الخالدة إلى أن تقع في أيدينا نحن، ولرأينا أن تقدم تلك الأمم قد تهاوى بكل مظاهره، ولكن لما آل أمرنا لما أقول لكم أن فينا من المسلمين من يريد أن يعالج التخلف فلا يجد إلا سبب واحد للتخلف هو بقايا انتماء المسلمين إلى إسلامهم، عندما آل أمر المسلمين إلى هذه الحال، وعندما آل دينهم إلى مظاهر شكلية، وعندما أمكنهم الله من قوى يتمتعون بها ومن غنى جعل الله أراضيهم صندوقاً له، ومن مال وفير لا تأكله النيران ثم تركوا ذلك كله في العراء، تركوا ذلك كله في ساحة من ساحات البعد والعهر والترك لأوامر الله سبحانه تعالى، وكلَهَمُ الله عز وجل إلى شأنهم وطبّق عليهم الباري سبحانه وتعالى قانونه الذي ما كان ليشذ في يوم من الأيام.

أيها الناس هذه العبرة العظمى لو أننا أخذنا أنفسنا فيها لكانت المنعطف الأوحد إلى إعتاق الله إيانا من كل مظهر من مظاهر التخلف، منعطف واحد لا ثاني له، ألا وهو أن نعلم أن العلوم المادية التقنية ونحوها، وأن مظاهر التقدم المادي كل ذلك جنود تنفيذية، وقيادة هذه الجنود لا يمكن أن تكون إلا بالتربية الإنسانية المثلى. والتربية الإنسانية المثلى لا يمكن أن تستوي على سوقها وأن تبقى على الأسس الثابتة الراسخة لها، إلا إذا توّجت بحقيقة الإيمان بالله عز وجل، وشُدت النفوس إلى معنى العبودية إلى الله عز وجل، عندئذ يتآلف الشاردون وعندئذ يضحي كلٌ منا بشهواته وأهوائه في سبيل مصلحة أمته، وانظروا بعد ذلك كيف يحقق الله عز وجل فينا معنى قوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}

أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي