
العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي


شروط لا بد منها لاغتنام شهر شعبان
الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
أما بعدُ فيا عبادَ الله:
إنكم لتعلمون أن هذا الشهر هو شهر شعبان المبارك، وأنه الشهر الذي كان يحفِل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويهتم لمقدمه. روى النسائي من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما، أنه رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يارسول الله، ما رأيناك تصوم في شهرٍ كما تصوم في شهر شعبان. فقال عليه الصلاة والسلام: "ذلك شهرٌ يغفل عنه الناس وهو شهرٌ ترتفع فيه الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى وأحب أن يرتفع عملي إلى الله عز وجل وأنا صائم". ولقد روى البيهقي بسندٍ جيد عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فصلى فأطال السجود حتى ظننت أنه قد قُبِض، فقمت وحركت اصبع قدمه فتحرك، أي فعلمت أنه صلى الله عليه وسلم بخير، فعدت وسمعته يقول في دعاء سجوده: "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بعافيتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك" فلما انتهى من صلاته قال عليه الصلاة والسلام لعائشة رضي الله عنها: "أظننت أنني أخيس بك؟ أتعلمين أي ليلة هذه" قالت: الله ورسوله أعلم. قال: "إنها ليلة النصف من شعبان، ينزل الله سبحانه وتعالى فيها إلى السماء الدنيا" وليس لنزول الله عز وجل أي كيف، والله أعلم بهذا النزول "فيقول: ألا من مستغفر فأغفر له، ألا من داعٍ فأجيب دعائه، ويؤخر أهل الحقد كما هم" هذا الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاله في هذين الحديثين الشريفين، يدلان على أهمية بالغة لهذا الشهر المبارك، وأحرى الناس بانتهاز فرص الأزمنة المباركة هم المقصرون من أمثالنا في جنب الله سبحانه وتعالى.
فالإنسان الذي وفقه الله سبحانه وتعالى للإقبال إلى الله عز وجل دائماً وفي سائر الأوقات وفي سائر التقلبات قد لا يهمه أن يصطفي وقتاً على وقت، لأنه في كل الساعات مقبلٌ إلى الله عز وجل غير مدبر، ولأنه في كل الأوقات متجه إلى الله عز وجل. ولكن المقصرين من أمثالنا هم أولى الناس بالتقاط هذه الأزمنة الفاضلة حتى يكثفوا الطاعات فيها، وحتى يكثفوا فيها القربات، فلعل طاعةً في وقت مبارك تغطي أوقاتاً كثيرة أخرى، ولعل إقبالاً إلى الله عز وجل من المقصرين والعصاة في وقت مبارك في شهر مبارك كهذا الشهر، يكون شفيعاً لصاحبه تجاه تقصيره في الأوقات الأخرى وفي الأزمنة الباقية الأخرى.
وإن كان الله سبحانه وتعالى إنما يتقبل من عبده العمل الصافي عن الشوائب، والعمل الذي يقصد به الإنسان توبةً لا تنكث وإقبالاً لا رجعة فيه، ولكن الإنسان المقصر دأبه أن ينتهز الفرص فهلا انتهزنا فرصة هذا الشهر المبارك لنصلح فيه ما أفسدنا ولنقوم ما اعوج من سلوكنا؟
شيءٌ آخر ينبغي أن يلفت أنظارنا، انظروا إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتحدث عن فضيلة ليلة النصف من شعبان، ويُبين كيف أن الإقبال على الله سبحانه وتعالى في هذا الشهر بالطاعات والقربات مبرور، وكيف أن الله هو الذي يتعرض لعباده ويذكرهم أن يسألوه فيجيبهم، وأن يستغفروه فيغفر لهم ولكنه مع ذلك قال: "ويؤخر أهل الحقد كما هم" فماذا يعني هذا الكلام؟ يعني هذا الكلام أن محور الطاعات وأن محور سائر القربات من صلاة وصيامٍ وذكرٍ وابتهالٍ ودعاءٍ .. محور ذلك كله إنما هو سلامةُ القلب، إنما هو القلب الخالي من الضغائن، ومن الأحقاد، ومن سوء المعاملة تجاه الأقربين وغير الأقربين. فأما الانسان الذي يُكثر من صلواته وقرباته ودعائه، ولكن له قلباً مليئاً بسواد الأحقاد والكراهية، أو يعامل الناس معاملة سيئة، أو كان عاقاً لأحد أبويه، أو كان قاطعاً لرحم، فإن الله عز وجل يجمّد طاعاته كلها، ولن تفيده تلك الطاعات شروا نقيرٍ أبداً.
هذا كلامٌ ينبغي أن يسترعي انتباهنا وما أكثر ما يُذَكرنا به رسولنا صلى الله عليه وسلم، بل يذكرنا به كتاب الله سبحانه وتعالى، والناس عن هذا معرضون.
كثيرون هم الذين يُصَلون كثيراً، ويصومون كثيراً، ويحضرون دروس الموعظة والعلم الشرعي في كثيرٍ من الأحيان، ولكن معاملاتهم لإخوانهم أو للأقربين أو لأرحامهم معاملة سيئة تنم عن قلب مريض، أتتصورون أن طاعات هؤلاء الناس تفيدهم شروا نقير؟ لن تفيدهم أبداً. الشاب الذي رضي أن يكون عاقاً لأحد أبويه؛ لوالده أو لوالدته، يأمره أحدهما فلا يصغي، يوصيه أحدهما فَيُعرض، يتعرض الواحد منهما له بأن يذكره بالبر وأن يذكره بالإحسان الذي أمر الله عز وجل به فيلوي رأسه يميناً أو يساراً مستكبراً معانداً، ثم إنه يركض إلى المساجد يصلي أو ليحضر الدروس أو لينثر المواعظ بين الناس كإنسان مثلي.
ترى أيهما أبلغ تأثيراً في ميزان الله حسناته الشكلية هذه أم إسائته العملية تلك، هذه الحسنات من الطاعات من القربات من الأذكار إنما جعلها الله خادماً لتطهير القلب، إنما جعلها الله سبحانه وتعالى وسيلة لحسن المعاملة، فإذا كان الإنسانُ مسيئاً في معاملته للأقربين أو للأبعدين من الناس، فلا يمكن لطاعاته أن تفيده شروا نقير، ولا يمكن لقرباته حتى ولو كانت في ليلة النصف من شعبان - كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن تفيده شيئاً.
وكيف أكون صادقاً مع الله عز وجل وأنا أعلم أن الله سبحانه وتعالى يأمرني في كتابه قائلاً: "وقضى ربُك ألا تعبدوا إلا إِيّاه وبالوالدينِ إحساناً إما يَبلُغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفٍ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً (23) واخفض لهما جناحَ الذلِ من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيراً". كيف أكون صادقاً مع الله عز وجل إذ أصغي إلى كلامه هذا ثم أعرض عنه، فأعامل أبويّ أو أحداً منهما بالعقوق، وأحطم هذه الوصية الربانية ثم أغطي عقوقي مع الله ومع أبويّ بكثرة صلاة أو بإقبال إلى الدروس، أو بكثرة صيام، أو بكثرة حج، أو بكثرة صدقة. هذا العمل الطيب لن يغطي ذلك العمل السيء، وهذا الشكل من الطاعات لا يمكن أن يكون شفيعاً لذلك المضمون من السيئات.
وكما قلت لكم: إن الله ما تعبدنا بما تعبدنا به من عقائد ومن قربات وطاعات ظاهرة، إلا ليكون ذلك كله سبيلاً إلى غسل أفئدتنا من السواد المتمثل في الكراهية أو في الحقد أو في الضغائن، ثم ليكون بعد ذلك كله سبيلاً إلى أن تمتدد شبكة المودة وشبكة المحبة في الدائرة الصغيرة التي تتمثل في الأسرة، ثم في الدائرة الكبيرة التي تتمثل في المجتمع، بحيث يشيع حسن التعامل بين الناس بدلاً من سوء التعامل، وبحيث تشيع الثقة فيما بينهم بدلاً من نقيضها.
الدين الذي ابتعث الله عز وجل به الرسل والأنبياء، إنما جعله الله سبحانه وتعالى أداةً لتصعيد الأخلاق ولرفع مستوى الطبائع إلى المستوى اللائق الذي ارتضاه الله سبحانه وتعالى لعباده.
ومرة أخرى ينبغي أن نقف ولا ننس أمام هذه الكلمة المخيفة العجيبة التي قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي ترويه عائشة إذ قال: "أتدرين يا عائشة أي ليلة هذه" قالت: الله ورسوله أعلم. قال: "إنها ليلة النصف من شعبان ينزل الله فيها إلى السماء الدنيا فيقول: ألا هل من مستغفرٍ فأغفر له ألا هل من داعٍ فأجيب دعائه ويؤخر أهل الحقد كما هم". أي وإن دعوا وإن استغفروا وإن صلوا وإن صاموا وإن أقبلوا إلى الله بصور الطاعات، لأن طاعة تستبطن عقوقاً ليست بطاعة صحيحة أبداً، وهي أشبه بالنفاق منها بحسن التعامل مع الله عز وجل.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.