مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 17/01/1992

خوارج اليوم في الميزان

ميزان التعامل مع الخلق (لنا الظاهر والله يتولى السرائر)

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

إنَّ الدّينَ الذي أكرمَ اللهُ سبحانهُ وتعالى بهِ عبادهُ وشرّفهم بهِ عندما ابتعثَ بهِ إلى النّاسِ الرُّسُلَ والأنبياء، هذا الدّينُ لهُ جانبانِ اثنان:

جانبٌ يتمثَّلُ في الأحكامِ الظّاهرةِ التي أمرَ اللهُ عبادَهُ أن يتعاملوا على أساسِها، وهذا الجانبُ هو الذي يسمّى بالشّريعةِ التي أنزلها اللهُ عزَّ وجلَّ على عباده، ومن خلالِ موازينِ الشّريعةِ يتعاملُ النّاسُ بعضُهم مع بعض، ومن خلالِ موازينِ الشّريعةِ يشيعُ فيما بينهم الأمرُ بالمعروفِ والنّهيُ عن المنكر، ومن خلالِ موازينِ الشّريعةِ أيضاً يستقرُّ القضاءُ فيما بينَ النّاسِ طبقَ أوامرِ اللهِ سبحانهُ وتعالى. ويتّسمُ هذا الجانبُ في جملتهِ بأنَّ أحكامهُ ظاهرة، تنطبقُ عليها القاعدةُ القائلة: (لنا الظّاهرُ واللهُ يتولّى السّرائر). وينطبقُ عليها قولُ سيِّدنا عمر لبعضِ المتخاصمينَ إليه: (إنّما نُقاضِيكمُ اليومَ بما ظهرَ لنا منكم). فهذا هو الجانبُ الأوّلُ من الدّين، وهو الجانبُ الذي يسمّى بالشّريعة.

أمّا الجانبُ الآخرُ منهُ فجانبٌ خفيٌّ أخفاهُ اللهُ سبحانهُ وتعالى عن عباده، ومن ثمَّ فهوَ لم يمكِّنهم بأن يتعاملوا فيما بينهم على أساسه، ولم يمكِّنهم بأن يتقاضوا فيما بينهم بموجبه، ولم يعطِهِمُ الصّلاحيةَ في أن يأمروا بمعروفٍ أو ينهوا عن منكرٍ على أساسه. هذا الجانبُ هو الجانبُ المتعلِّقُ ببواطنِ الأمور، وبخفيَّاتِ القضايا، وبما استكنَّ بينَ جوانحِ النّاس، فأسرارُ النّاسِ وبواطنهم ومشاعرهمُ الخفيَّةُ بعضُهم عن بعضٍ إنّما تُحالُ إلى أحكامٍ أخرى ينظرُ فيها اللهُ سبحانهُ وتعالى، ويقاضي بينَ عبادهِ يومَ القيامةِ على أساسها، وهذا الجانبُ الآخرُ هو الجانبُ الباطنيُّ الذي يسمّيهِ العلماءُ: الحقيقة.

فمن خلالِ فهمِ الإنسانِ لشريعةِ اللهِ وانضباطهِ بها يتقيَّدُ بالمنهجِ الذي أمرهُ اللهُ عزَّ وجلَّ بهِ وينهضُ بواجبِ الأمرِ بالمعروفِ والنّهيِ عن المنكر، ومن خلالِ فهمِ هذا الجانبِ الآخرِ الباطنيِّ الخفيِّ يتأدَّبُ الإنسانُ المسلمُ مع عبادِ اللهِ عزَّ وجلَّ جميعاً: يعاملهم طبقَ موازينِ الشّريعةِ الظّاهرة، ويقاضيهم إلى أحكامها الفقهيَّةِ الثّابتة، ويأمرهم بالمعروفِ وينهاهم عن المنكر، فإذا وصلَ إلى حدودِ البواطنِ المظلمةِ الخفيَّةِ عنهُ أحالها إلى محكمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ وقضائه، وأحالها إلى علمِ اللهِ سبحانهُ وتعالى الذي لا تندّ عنهُ خافية، ولا يشردُ عنهُ سرٌّ من الأسرار، بالتزامِ الإنسانِ بالشّريعةِ يقيمُ منهجَ هذا الدّينِ فوقَ الأرض، وبتقديرهِ للحقيقةِ يتأدَّبُ مع عبادِ اللهِ سبحانهُ وتعالى جميعاً.

وانظروا إلى هذين الجانبينِ كيفَ يبرزانِ ظاهرَينِ متميّزينِ في قولِ اللهِ سبحانهُ وتعالى: ((نصيبُ برحمتِنا من نشاءُ ولا نضيعُ أجرَ المحسنين)). أمّا قولهُ عزَّ وجلّ: ((نصيبُ برحمتِنا من نشاء))، فإنّهُ بيانٌ للحقيقةِ الخفيّةِ عنّا، من هم الذينَ يستأهلونَ غداً رحمةَ اللهِ عزَّ وجلّ؟ ومن همُ الذينَ يُخرَجونَ عنها؟ هذا شيءٌ لا نعرفهُ هذا اليوم، ومهما رأيتَ إنساناً ملتزماً في ظاهرهِ بأوامرِ الشّرع، منصاعاً إلى أوامرِ الله، فلن تستطيعَ أبداً أن تتألّى على اللهِ بموجِبِ هذا الظّاهرِ فتقولَ: إنَّ هذا ممّن ستشملهم رحمةُ اللهِ غداً، لقد رأيتَ جانباً من الدّينِ في ظاهرهِ وخفيَ عنكَ جانب، تنظر إلى واقعهِ الذي تراه، بموجبِ هذا الواقعِ تأمرهُ بمعروف: لكَ ذلك. تنهاهُ عن منكر: لكَ ذلك. تقاضيهِ وتقضي لهُ بما تعرفهُ من أحكامِ الشّرع: لكَ ذلك. ولكنّكَ لا تستطيعُ أبداً أن تحكمَ على ظاهرهِ بالجذورِ التي لا يعرفُها إلا اللهُ عزَّ وجلّ، وبما سينتهي إليهِ حالهُ عندَ اللهِ سبحانهُ وتعالى، وهذا معنى قولهِ عزَّ وجلّ: ((نصيبُ برحمتِنا من نشاء))، ما هو قانونُ هذهِ المشيئة؟ أخفى اللهُ عنكَ ذلك، من همُ الذينَ يصيبهمُ اللهُ برحمته؟ لا نعلم .. ثمَّ قال: ((ولا نضيعُ أجرَ المحسنين))، هذا هو الجانبُ الشّرعيّ. والميزانُ هو الإحسان، فكلُّ من أحسنَ معَ اللهِ عزَّ وجلَّ فسارَ على الصّراطِ الذي أمرهُ اللهُ عزَّ وجلَّ بهِ والتزمَ بالأوامرِ وابتعدَ عن النّواهي وتمسَّكَ بحبلِ اللهِ عزَّ وجلّ، فإنَّ اللهَ سبحانهُ وتعالى قد التزم، ألزمَ ذاتهُ العليَّةَ ولا مُلزِمَ لهُ أنّهُ لن يضيعَ مثوبته ولن يُضيعَ أجرهُ كما قالَ عزَّ وجلَّ في آيةٍ أخرى: ((إنّا لا نضيعُ أجرَ من أحسنَ عملاً))، هذا هو الميزانُ الشّرعيُّ الذي نتعاملُ في دارِ الدّنيا على أساسه، ولكنَّ اللهَ أخفى عنّا جانباً آخرَ لا نعرفُهُ ولا ندركُ مقاييسهُ وموازينه، وللهِ في ذلكَ حكمةٌ وأيُّ حكمة. وانظروا إلى هذينِ الميزانينِ أيضاً أو إلى هذينِ الجانبينِ أيضاً كيفَ يتجلّيانِ في قولِ اللهِ عزَّ وجلّ: ((اللهُ يجتبي إليهِ من يشاءُ ويهدي إليهِ من ينيب)). أمّا الجزءُ الأوّلُ من هذهِ الآيةِ فرسمٌ وبيانٌ للحقيقةِ الخفيّةِ عنّا: ((اللهُ يجتبي - أي يجذبُ إليهِ - من يشاء))، من هم؟ لا نعلم. وكيف؟ لا نعلم. بماذا استحقّوا هذا الاجتباء؟ لا نعلم. لعلَّ حبّاً سرى من ربِّ العالمينَ لطائفةٍ من عبادهِ لسببٍ من الأسبابِ لا نعرفُه، فكانَ هذا الحبُّ السّاري سبباً لاجتباءِ هؤلاءِ العبيد. هذا شيءٌ يتعلَّقُ بالحقيقةِ الخفيّةِ عنّا، لا نتعاملُ معها ونكلُ الأمرَ في ذلكَ إلى اللهِ عزَّ وجلّ، ثمَّ قال: ((ويهدي إليهِ من ينيب))، ميزانُ الشّرعِ ها هنا واضح، ألزمَ ذاتهُ العليّةَ أن يهديَ كلَّ إنسانٍ التفتَ إلى الله، التفتَ إلى اللهِ بعقلهِ الحرّ، بقصدهِ الخالصِ من شوائبِ الكبرِ والعناد، التفتَ إلى اللهِ لا بسلوك فالسّلوكُ بقدرةٍ من الله، لا بِخُطىً فالخُطى يُوَفِّقُكَ إليها الله، ولكنّهُ التفتَ إلى اللهِ بقصده، بعزمه، بإرادته، هذا هو ميزانُ الشّرع، يضعُنا الباري عزَّ وجلَّ إذاً بينَ موازينَ شرعيّةٍ نتعاملُ فيما بيننا على أساسِها ونحكمُ ونتقاضى بموجبِها.

ولكن علينا ألّا نتجاوزَ هذا الحدّ، وألّا نتألّى على الله، وألّا نجعلَ من موازينِ الشّرعِ المتعلّقةِ بالأمورِ الظّاهرةِ قوانينَ تتعلَّقُ بالخفايا الباطنةِ التي استلبَ اللهُ عزَّ وجلَّ منّا صلاحيةَ القضاءِ فيها، واستلبَ منّا اللهُ عزَّ وجلَّ صلاحيةَ الحكمِ بموجبِها، ما الحكمةُ من ذلك؟ الحكمة: أن يظلَّ الإنسانُ مهما طبَّقَ أوامرَ اللهِ عزَّ وجلَّ بينَ الخوفِ والرّجاء، لعلَّ الموازينَ الخفيّةَ قضت بشقائه، وإن كانتِ الموازينُ الظّاهرةُ فيما يبدو تقضي بسعادته، الحكمةُ من ذلكَ أن يتأدَّبَ أحدُنا مع ربِّ العالمينَ سبحانهُ وتعالى، ويتأدَّبَ مع عبادهِ الآخرين، فأنا آمرُكَ بالمعروفِ وأنهاكَ عن المنكر، وأذكركَ باللهِ ولا أزيدُ على ذلك، ومهما رأيتُكَ جانحاً، لا أتألّى على اللهِ وأحكمُ أنَّكَ من أهلِ الضّلال، لعلَّ سرّاً خفيّاً يجتذبُكَ اللهُ بهِ إليه، لعلَّكَ أنتَ واحدٌ ممّن قالَ اللهُ عنهم: ((اللهُ يجتبي إليهِ من يشاء))، لعلّكَ واحدٌ ممّن قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ عنهم: ((نصيبُ برحمتِنا من نشاء)).

الحكمة: أنَّ الإنسانَ الذي عرفَ هذينِ الجانبينِ من دينِ اللهِ سبحانهُ وتعالى مهما أظمأَ نهارهُ صائماً، ومهما قامَ ليلهُ متعبّداً متهجّداً، ومهما التزمَ الأذكارَ والأورادَ والتّسبيحَ والاستغفار، يبقى في خوفٍ ووجلٍ من اللهِ عزَّ وجلّ، لأنّهُ أمسكَ من الدّينِ بميزانهِ الظّاهر، وخفيَ عنهُ ميزانهُ الباطن، ويقفُ هذا الإنسانُ أمامَ الحكمةِ الباهرةِ التي يقولُها ابنُ عطاءِ اللهِ السّكندريّ: (إذا أردتَ أن يُفتَحَ لكَ بابُ الرّجاء، فاشهد ما منهُ إليك. وإذا أردتَ أن يُفتَحَ لكَ بابُ الخوف، فاشهد ما منكَ إليه). إذا أردتَ أن يُفتحَ أمامكَ أبوابُ الأملِ بمغفرةِ اللهِ عريضاً، فانظر إلى الرّحماتِ الواسعةِ الكثيرةِ التي تفدُ إليكَ منَ اللهِ دونَ أن يقابلكَ اللهُ سبحانهُ وتعالى باستحقاقكَ وآثامك، هذا الميزانُ دليلٌ على أنَّ اللهَ يغفرُ لعبادهِ جميعاً. ولكنّكَ إذا أردتَ أن تشهدَ الخوفَ من مقتِ اللهِ عزَّ وجلَّ وعذابهِ فانظر ما يسري منكَ إلى الله، انظر إلى تقصيرِكَ في جنبِ الله، انظر إلى إساءَتِكَ إلى الله، انظر إلى استكبارِكَ على الله، انظر إلى ابتعادكَ عن اللهِ عزَّ وجلَّ منعماً والتزامكَ ووقوفِكَ أمامَ الأشباحِ والصّورِ التي تنسبُ إليها كلَّ فضلٍ وتنسبُ إليها كلَّ نعمة.

هذهِ الحقيقةُ أيُّها الإخوة يجبُ أن نلتزمها، وينبغي أن نعلمَ أنَّ دينَ اللهِ كلٌّ مكوّنٌ من هذينِ الطّرفين، فمن وعى الشّريعةَ فقط لا يؤمَنُ أن يهويَ في ضلالٍ وتيهٍ من تألّيهِ على اللهِ سبحانهُ وتعالى، ومن نظرَ إلى الجانبِ الخفيِّ لا يؤمنُ عليهِ أن يتيهَ ويتركَ الشّرائعَ ويتيهَ عن الانضباطِ بها.

فاللهمَّ اجعلنا ممّنِ اتّبعوا شريعتك، وممّن آمنوا بالحقيقةِ الخفيّةِ التي أخفيتَها عنّا، ونسألكُ اللهمَّ أن ترزقَنا كمالَ الأدبِ معكَ وصدقَ الأدبِ مع عبادك، فاستغفروا اللهَ يغفر لكم...

تحميل



تشغيل

صوتي