مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 03/01/1992

نعمة أم سبب هلاك

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

إنَّ الإنسانَ الذي حُجِبَ عن المكوِّنِ للأكوان، وحُجِبَ عن الخالقِ العظيمِ المدبّرِ للمخلوقاتِ المتناثرةِ التي يراها من حوله: من شأنهِ أن يربطَ أملهُ بها عندما يجدُ فيها بوارقَ الآمال، ومن شأنهِ أن يضطربَ ويتفجَّرَ في كيانهِ اليأسُ عندما يرى فيها مخاوفَ الإهلاكِ والوعيدِ والإنذار، فهو لا يرى الخيرَ إلا من هذهِ الأكوان، ولا يرى الشَّرَّ إلّا منها. وذلكَ هو شأنُ الإنسانِ الذي حُجِبَ عن رؤيةِ خالقهِ ومولاهُ عزَّ وجلّ، فأخذَ يُؤَلِّهُ هذهِ الـمُكَوَّناتِ والمخلوقاتِ وما يسمّونها بالطّبيعةِ التي من حوله.

وأمّا الإنسانُ المتبصِّرُ المدركُ بأنَّ هذهِ الأكوانَ إنّما تتحرَّكُ بيدِ مكوِّنِها، وبأنَّ هذه المخلوقاتِ إنّما هيَ مسخّرةٌ بيدِ خالقِها سبحانهُ وتعالى، فهوَ لا يربطُ كيانهُ بها لا على وجهِ الأملِ ولا على وجهِ الخوفِ والوعيد، مثلُ هذا الإنسان لا يقفُ عندَ هذهِ المكوَّناتِ بأيِّ تأثّر، فإن رأى فيها بوارقَ الخيرِ لم تخدعهُ هذهِ البوارقُ عن مخافةِ اللهِ عزَّ وجلّ، وإن رأى فيها بوادرَ الشّرِّ لم تحجزهُ هذهِ البوارقُ عن التّأمُّلِ برحمةِ اللهِ سبحانهُ وتعالى وفضله.

كثيرونَ هم الذينَ إذا نظروا إلى كرمِ اللهِ سبحانهُ وتعالى الفيّاضِ من السّماء المتمثِّلِ في هذهِ الأمطارِ السّخيّةِ الوافدةِ ركنَ إلى السّرور، وركنَ إلى الأمل، وركنَ إلى يقينٍ لأنّهُ قد أصبحَ محفوفاً بالرّعاية وأنَّ أمامهُ خيراً كبيراً يقبلُ إليه، ونسيَ فاعليّةَ اللهِ سبحانهُ وتعالى، مع أنَّ هذا الإنسانَ لو تأمَّلَ وتدبَّرَ لعلمَ أنَّ المخافةَ من اللهِ عزَّ وجلَّ تكمنُ في كلِّ شيء، ولعلمَ أنَّ هذا الإلهَ القاهرَ الذي بيدهِ كلُّ شيءٍ وبيدهِ تصريفُ كلِّ أمرٍ يستطيعُ أن يجعلَ من أسبابِ الرّحمةِ أسباباً للهلاكِ والدّمار، ويستطيعُ أن يجعلَ من أسبابِ الدّمارِ التي تبدو لنا كذلكَ أسباباً للرّحمةِ والسّعادة، والأمرُ عائدٌ إلى اللهِ سبحانهُ وتعالى.

فمنِ الذي جعلَ الرّياحَ السّاريةَ أداةً لتجديدِ الحياةِ في كيانِ الإنسان؟ إنّما هو اللهُ عزَّ وجلَّ.

ومن الذي إذا شاءَ جعلها سبباً للدّمارِ والهلاك؟ إنّما هو اللهُ عزَّ وجلّ.

ومن الذي جعلَ الأرضَ مهاداً تحتَ أقدامِنا؛ ترعَانا بمزيدٍ من رحمةِ اللهِ سبحانهُ وتعالى وفضلهِ عن طريقِ ما في داخلِها من ذُخرٍ وما يتفجَّرُ على ظاهرِها من خير؟ إنّما هو اللهُ سبحانهُ وتعالى.

ولكن من الذي يجعلُها أداةً للهلاكِ إذا شاءَ عندما تتحرَّكُ وتضطربُ تحتَ أقدامِنا، بل عندما تتحوَّلُ إلى أفواهٍ فاغرةٍ تبتلعُنا؟ إنّما هو اللهُ عزَّ وجلّ.

ومن الذي جعلَ من الماءِ أداةً للحياةِ كما قالَ عزَّ وجلَّ في محكمِ كتابه: (وجعلنا من الماءِ كلَّ شيءٍ حيّ)؟ إنّما هو اللهُ عزَّ وجلّ.

ولكن من الذي يجعلُ إذا شاءَ من الماءِ أداةً للإغراقِ والإهلاكِ والطّوفان؟ هو اللهُ عزَّ وجلّ.

فيا عجباً لإنسانٍ يقفُ أمامَ جنودِ اللهِ عزَّ وجلَّ يتأمّلُ فيها الخيرَ أو يخافُ منها الشَّرَّ ولا ينظرُ إلى ربِّ هذهِ الجنودِ وإلى مسخِّرِ هذهِ الجنود، وهو اللهُ سبحانهُ وتعالى.

انظروا وتأمّلوا يا عبادَ اللهِ في الأسبابِ التي أهلكَ اللهُ عزَّ وجلَّ بها أمماً سابقةً من قبلِنا: هل كانت تلكَ الأسبابُ إلا أسبابَ السّعادةِ والخيرِ فيما نتصوّرهُ اليومَ في حياتِنا وفيما يتصوّرهُ سائرُ النّاس؟ وسائل الطّبيعةِ كما يقولون، التي هيَ مناطُ آمالِ النّاسِ فوقَ هذهِ الأرض، هي التي جعلها اللهُ عزَّ وجلَّ عندما شاءَ أسبابَ هلاكٍ لتلكَ الأمم. انظروا إلى قولِ اللهِ عزَّ وجلّ: (فكلّاً أخذنا بذنبهِ فمنهم من أرسلنا عليهِ حاصباً ومنهم من أخذتهُ الصّيحةُ ومنهم من خسفنا بهِ الأرضَ ومنهم من أغرقنا)، هكذا يقولُ اللهُ سبحانهُ وتعالى.

يرينا وينبِّهُنا أنَّ الوسائلَ التي هيَ في أصلِها وسائلُ لحياةِ الإنسانِ ورغدِ عيشه، جعلها اللهُ عندما شاءَ وسائلَ لإهلاكِ من شاءَ اللهُ عزَّ وجلَّ أن يهلكهم. الصّيحةُ التي تطرب هي ذاتها الصّيحةُ التي تهلك، والأمرُ لا يحتاجُ إلا إلى أمرٍ من اللهِ عزَّ وجلَّ يصدرُ لهذا الذي خَلَقَهُ وبثَّهُ في المكوَّناتِ التي من حولِنا. وعندما خُدِعَ قومُ عادٍ بمظاهرِ الطّبيعةِ كما يُخدَعُ كثيرٌ من النّاسِ اليومَ نبّههمُ اللهُ سبحانهُ وتعالى إلى هذهِ الحقيقةِ التي أقولُها، ولكنّهم لم يتنبَّهوا إلا بعدَ فواتِ الأوان، رأوا سُحُباً عارضةً تستقبلُ أوديتهم، فظنّوا فيها الخيرَ لأنّها هي السنّةٌ الربّانيّة في الكون: إذا رأى النّاسُ سحابةً وافدةً بعدَ طولِ محل وبعدَ طولِ جدبٍ تأمّلوا فيها الخير، ولكنَّ اللهَ نبّههم إلى أنَّ الأمرَ ليسَ بيدِ السّحاب، ولكنَ الأمرَ بيدِ مسيِّرِ السّحاب، وانظروا إلى قولِ اللهِ عزَّ وجلّ: ((فلمّا رأوهُ عارضاً مستقبِلَ أوديتهم قالوا هذا عارضٌ ممطرُنا بل هو ما استعجلتم بهِ ريحٌ فيها عذابٌ أليم * تدمِّرُ كلَّ شيءٍ بأمرِ ربِّها فأصبحوا لا يُرى إلا مساكنُهم)).

هذا المعنى الذي نبّهنا اللهُ عزَّ وجلَّ إليهِ على سبيلِ العِظة، وهذا المعنى الذي يتجسَّدُ في واقعِ أممٍ قد خلت من قبلِ، يجبُ أن نعتبرَ بهِ يا عبادَ الله، ويجبُ ألا نُخدَعَ بظواهرِ الطّبيعةِ عن مسيِّرِها وعن خالِقِها وعن مجندها لإرادتهِ في مكوَّناتِهِ وفي عباده.

كثيرونَ هم الذينَ ينظرونَ إلى هذهِ الأمطارِ السّخيّةِ المتسلسلةِ المتواصلةِ فينتعشونَ بآمالٍ عظيمةٍ في تصوّرهم، ويتصوّرونها رحمةً وافدةً إليهم، هذا في بابِ الأملِ برحمةِ اللهِ حسنٌ وعظيم. ولكنَّهُ في تصوّرِ الطّبيعةِ وأحكامِها أمرٌ مهلك. على الإنسانِ إذا رأى أيَّ بارقةٍ من بوارقِ الطّبيعةِ أن يقدِّرَ أنَّ فيها خيراً إذا شاءهُ اللهُ، وفيها سببٌ للدّمارِ إذا شاءهُ اللهُ عزَّ وجلّ.

والعبدُ الحقيقيُّ للمولى والخالق، هوَ ذلكَ الذي إذا رأى نعمةَ اللهِ تهوي من سمائهِ شكرَ اللهَ بلسانهِ وسألَ اللهَ سبحانهُ وتعالى أن يصرفَ عنهُ السّوء. سوءَ هذهِ المطرِ بلسانهِ أيضاً.

الإنسانُ الذي وحَّدَ اللهَ بعقلهِ وعواطفهِ ومشاعرهِ: هو ذلكَ الذي إذا رأى جنودَ اللهِ سبحانهُ وتعالى المتمثّلةِ في هذهِ السّننِ الكونيّةِ التي نراها، رمقَ بطرفهِ إلى المكوِّنِ وتساءَلَ في نفسه: ترى أهوَ استدراجٌ يستدرجُنا بهِ اللهُ عزَّ وجلَّ أم هيَ رحمة؟ ترى ما هيَ عاقبةُ هذهِ الأمطارِ والرّياح؟ أهيَ خيرٌ لهذهِ الأمّةِ ساقتهُ رحمةٌ من اللهِ عزَّ وجلَّ أم هو هلاكٌ وتدمير؟ هذا ممكنٌ وهذا ممكن..

والعبد: ذلكَ الذي يلجأُ إلى اللهِ سبحانهُ وتعالى رَغَباً ورهباً. ألم تسمعوا قولَ اللهِ سبحانهُ وتعالى في محكمِ كتابه: ((هو الذي يريكمُ البرقَ خوفاً وطمعاً))؟، هكذا يقولُ اللهُ سبحانهُ وتعالى، فالبرقُ ظاهرةٌ من الظّواهرِ الكونيّةِ لكَ أن تتصوَّرَ فيها الخيرَ هيَ فعلاً أداةُ خير، ولكَ أن تتصوَّرَ فيها الشّرَّ هيَ فعلاً أداةُ شرّ، ولكن من الذي يوجِّهُ هذهِ البوارقَ وهذهِ الصّواعقَ وهذهِ الأمطار؟ من الذي يوجِّهُها للخيرِ إن شاءَ أو للشَّرِّ إن شاء؟ هو اللهُ سبحانهُ وتعالى.

نسألُ اللهَ سبحانهُ وتعالى أن يرزقَنا الإيمانَ بهِ في حالةِ السّرّاءِ والضّرّاء، وأن يجعلَنا نعيشُ في توحيدهِ في عقولِنا ومشاعرِنا في كلِّ الأحوال، ونسألهُ سبحانهُ وتعالى أن يملأَ أفئدَتَنا يقيناً بأنَّ الخيرَ لا يفدُ إلا من عندهِ وبأنَّ الشَّرَّ لا يفدُ إلا من عندهِ أيضاً، ونسألُ اللهَ سبحانهُ وتعالى العفوَ والعافيةَ دائماً، أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيم...

تحميل



تشغيل

صوتي