مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 30/08/1991

الحكمة من المصائب والآلام التي يتأفف منها الناس

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أما بعدُ فيا عبادَ الله:

إذا نظرنا إلى الدنيا في ظواهرها، رأيناها مليئةً بمزيدٍ منَ الخيرِ والشر، وذلكَ هوَ مصداقُ قولِ اللهِ سبحانهُ وتعالى: ﴿ونبلوكم بالشرِّ والخيرِ فتنة وإلينا ترجعون﴾، وهوَ مصداقُ قولِ اللهِ عزَّ وجلَّ أيضاً: ﴿ولنبلونّكم بشيءٍ منَ الخوفِ والجوعِ ونقصٍ منَ الأموالِ والأنفس والثمرات وبشرِ الصابرين﴾.

ولكنَّا إذا دققنا النَّظر، وسبرنا أغوارَ مظاهرِ هذهِ الحياةِ الدنيا، وانتهينا إلى رصيدها ونتائجها، رأينا أنَّ هذهِ الدنيا ليسَ فيها إلّا الخيرُ المصفّى عنِ الشوائب، وليسَ فيها إلّا النِّعم، إلّا أنَّ هذهِ النَّعمَ منها ما هوَ ظاهرٌ جليّ، ومنها ما هوَ باطنٌ خفيّ. وصدقَ اللهُ عزَّ وجلَّ القائلُ في محكمِ كتابه وهوَ يتحدثُ عن نفسه و ذاتهِ العليَّة: ﴿وأسبغَ عليكم نِعمهُ ظاهرةً وباطنة﴾.

وقبلَ أن نقرأَ هذا الكلامُ الربانيَّ يمكننا أن نصنِّفَ الدنيا إلى خيرٍ وشر، وإلى نعمٍ ومصائب، ولكننا عندما نقرأُ هذهِ الآيةَ الجليلة، ونقفُ على ما وصفَ اللهُ عزَّ وجلَّ بهِ ذاتهُ العليَّة: أنهُ أسبغَ علينا النِّعم، ولكنها إما أن تكونَ نعماً ظاهرة، وإما أن تكونَ نعماً باطنة، عندئذٍ ندركُ أنَّ كلَّ ما نراهُ في هذا الكونِ مما يحلو مذاقهُ ويطيبُ التمتعُ به، وممّا لهُ في تصوّرنا مذاقٌ مرٌّ تعافهُ النّفس،كلُّ ذلكَ داخلٌ في النِّعَم، ولكنّها إمّا أن تكونَ نعماً ظاهرةً يدركُها الإنسانُ بمقاييسِ حياتِهِ الطّبيعيّة، وإمّا أن تكونَ نعماً خفيّةً باطنةً يدركُها الإنسانُ من خلالِ معرفتهِ لسننِ اللهِ في عباده، ومن خلال معرفةِ اللهَ بصفةِ الحكمة، في ذاتهِ العليةِ سبحانهُ وتعالى.

ولقد وجهَ إليَّ بعضُ الأخوةِ سؤالاً منذُ أيامٍ يسألونني فيهِ عن الحكمةِ التي تكمنُ وراءَ كثيرٍ منَ المصائبِ والآلامِ والتشوهاتِ وما إلى ذلكَ مما يتأفَّفُ منهُ الناسُ وهيَ صورٌ وأنواعٌ شتَّى، ويكادُ هؤلاءِ السائلونَ يرتابونَ في حكمةِ اللهِ بل في عدالةِ اللهِ سبحانهُ وتعالى.

والحقيقةُ أيها الإخوة: أنها نظرةٌ سطحيةٌ ساذجةٌ من هؤلاءِ الناسِ وأمثالهم إلى الكون. ومصدرُ هذا التصورِ: عدم تدبرِ هؤلاءِ الناسِ لهذهِ المرحلةِ الدنيويةِ التي نعيشُها والتي هي طريقٌ إلى مقر، ولو أنَّ هؤلاءِ الإخوةَ أدركوا قصّةَ هذهِ الدّنيا ومنهاجَ الرحلةِ التي يقفُ الإنسانُ تحتَ سلطانِها ويسيرُ طبقاً لخطّتها الدّقيقة، لما تصورَ هذا التصورَ الخاطئَ ولما سألَ مثلَ هذا السؤالِ أبداً.

هلِ الحياةُ الدنيا التي نعيشها دارُ خلودٍ أيها الإخوة، أم هيَ ممرٌّ كما قلتُ لكم إلى مقر؟ لئن كانت دارَ خلودٍ فإنَّ الحكمةَ تقتضي أن يكونَ كلُّ شيءٍ فيها حسبما يحتاجُ إليهِ الإنسانُ وحسبَ ما يتشهَّى. لأنَّ الإنسانَ إذا اتخذَ إلى نفسهِ مقراً دائماً يحاولُ أن لا يتصورَ وسيلةً من وسائلِ راحتهِ، وأداةً من أداةِ استقرارهِ وطمأنينته ِإلَّا ويحشو بهِ هذا المقرَّ الذي يعلمُ أنهُ لن يتحولَ عنهُ إلى مكانٍ آخر.

فهلِ الدنيا التي نعيشها دارُ خلود؟ لو كانت دارَ خلودٍ لكانَ لنا أن نحتجَّ على اللهِ عزَّ وجل كلما رأينا فيها شيئاً منَ المنغِّصاتِ والآلامِ والأكدار.

ولكنَّكم تعلمونَ أيها الإخوةُ أنَّ هذهِ الدنيا ممر، إنما هيَ طريقٌ إلى المستقرِّ الأبديِّ النهائيّ، ولا داعيَ إلى أن ندلِّلَ أو نبرهنَ على ذلك، فتعالوا لنفترض: لو جعلَ اللهُ هذا الممرُّ مليئاً بالمتع، مليئاً بأسبابِ السرور، بعيداً عن سائرِ المنغصات، وما يشتهي الإنسانُ شيئاً في هذا الممرِّ إلَّا ورآه، وما يتقزّزُ وتشمئزُّ نفسهُ من شيءٍ في هذهِ الدنيا إلَّا وأبعدهُ اللهُ عزَّ وجلَّ عنه. إذاً كيفَ يكونُ لكَ حالٌ تقبلُ بها على ذلكَ المقرِّ الذي ستتجاوزُ هذا الممرَّ إليه؟ كيفَ تقتلعُ نفسكَ من هذا الممرِّ الذي طابَ لكَ كلُّ شيءٍ فيه، وتراقصتِ المتعُ الصَّافيةُ منَ الأكدارِ جميعاً عن يمينكَ وشمالكَ ومن فوقكَ وتحتك؟

إذا دعاكَ الداعي إلى الرحيل، أليسَ هذا الرحيلُ من هذهِ المتعِ الصافيةِ هيَ قمةُ المصائب؟ أليسَ هذا الرَّحيل منَ الدنيا التي جعلها اللهُ عزَّ وجلَّ متعةً صافيةً عنِ الشوائبِ والأكدارِ أعظمَ مصيبةٍ منَ المصائبِ التي يبتلي اللهُ عزَّ وجلَّ بها الإنسان؟ وما قيمةُ تزهيدِ اللهِ عزَّ وجلَّ لكَ في الدنيا إذا كانَ يربطكَ بها من حيثُ النعم ومن حيثُ المتع التي يربطكَ اللهُ سبحانهُ وتعالى بها؟ ما معنى قولُ اللهِ عزَّ وجلَّ: ﴿لا يغرنَّكَ تقلبُ الذينَ كفروا في البلاد متاعٌ قليلٌ ثمَّ مأواهم جهنمَ وبئس المهاد﴾؟ بل كيفَ تنسِّقُ بينَ هذا الذي يقولهُ اللهُ لك وبينَ ما يحشو به الدنيا من لذائذكَ وشهواتكَ ومتعكَ بعيداً عن سائرِ الأكدارِ؟

إن اللهَ عزَّ وجلَّ حكيم، إن الله عزَّ وجلَّ رحيمٌ بكَ لـمّا قضى أن تكونَ هذه الدنيا طريقاً تتجاوزهُ إلى ذلك المقرِّ الأبديّ، أودعَ في هذا الطريق معناه تزهيداً لكَ في هذا الطريق، تزهيداً لك في هذه الدنيا، واسمع ما يقوله ابن عطاءِ اللهِ السكندريِّ في حكمهِ: (إنما جعلها مقراً للأغيار، ومنبعاً للأكدار، تزهيداً لكَ فيها). جعل اللهُ سبحانهُ وتعالى هذه الدار مليئة بالأغيارِ التي لا تتفقُ مع رغائبك، بل منبعاً للأكدارِ التي لا تروق لكَ من أجلِ أن يكونَ لك عوناً على زهدكَ فيها، من أجلِ أن يرى نداؤهُ لكَ -إذا حانَ رحيلكَ عن هذهِ الدنيا- من أجلِ أن يرى هذا النِّداءُ استجابةً بينَ جوانحكَ.

لما قضى اللهُ سبحانهُ وتعالى أن تكونَ هذه الحياةُ مزيجاً من الأكدارِ، ومن الصفاءِ، من المتعِ، ومن المصائبِ، ولما جعلَ اللهُ عزَّ وجلَّ منهاجَ الحياةِ يبدأُ بطفولةٍ لا تعي شيئاً، ثم بطفولةٍ لاهيةٍ ترى المتعةَ كلَّ المتعة، والحياة كلَّ الحياة في هذه اللعبِ الصغيرةِ التي يَركَنُ إليها الطفل، ثم جعلَ الشبابَ مزداناً بمتعٍ أخرى يَركَنُ إليها الإنسان، كان من حكمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ إذا دنا الرحيلُ وإذا دنت ساعةُ التجاوزِ من هذهِ الدنيا إلى ذلك المقرّ كانت حكمةُ اللهِ، بل كانت رحمةُ الله عزَّ وجلَّ تقتضي أن يتقلَّصَ عنكَ الشباب، وأن يتسلَّلَ إليكَ المشيب، وأن يتسلَّلَ إليكَ معَ المشيبِ كثيرٌ منَ الأمراضِ وكثيرٌ منَ الآلامِ حتى تتبرَّمَ من هذهِ الدنيا، وحتَّى تشعرَ أنكَ قد مللتَ منها، وحتى يصفوَ لكَ الاتجاه إلى ذلكَ المقرَّ الذي آنَ أو أوشكَ أن يناديكَ إليهِ الباري سبحانهُ وتعالى.

أترى إذاً أن هذهِ الأكدارِ التي تفيضُ بها هذهِ الدنيا مظهرُ رحمةٍ منَ اللهِ عزَّ وجلَّ بك، أم هوَ مظهرُ انتقامٍ منَ اللهِ سبحانهُ وتعالى ينتقمُ بهِ منك؟ كلنا يعلمُ الجواب، لوِ انطلقنا من إيمانٍ باللهِ عزَّ وجل، ومن معرفةٍ لقصةِ هذهِ الرحلةِ الدنيوية، ذلكَ مظهرٌ من مظاهرِ رحمةِ الله، مظهرٌ من مظاهرِ حكمةِ اللهِ سبحانهُ وتعالى.

عندما يدعو الداعي إلى مفارقتكَ لهذهِ الدنيا، منَ الرحمةِ الإلهية أن تنظرَ إليها وأنتَ تعافها، أن تنظرَ إليها وأنتَ تقولُ لها بلسانِ حالك: ها إني سأفارقكِ إلى غيرِ عودةٍ؛ لأتمتعَ بالنعيمِ الصافي، لأتمتعَ بالسعادةِ التي ليست فيها مكدَّرات. من ذا الذي يجهلُ هذهِ الحقيقةَ التي أقولها أيها الإخوة؟

لقد رأيتُ بعيني إنسانةً وقد تمددت على فراشِ الموتِ، ولقد كانت تعيشُ أيامَ صحتها وعافيتها تعيشُ في متع، تعيشُ في نعيم، ولكنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ بحكمتهِ شاءَ أن يبتليها ببعضِ المصائبِ حتى يكونَ لها من هذهِ المصائبِ حجابٌ يبعدها عن ذكرياتِ تلكَ الملاذ، يبعدها عن ذكريات تلكَ المتع، كانت تجلسُ إليها قريباتها وفيهنَّ من يقولُ لها: غداً ستعودُ إليكِ العافية، غداً ستعودُ إليكِ الصحة، غداً سنعودُ إلى بهجتنا التي كنا نتقلبُ فيها. هكذا كنَّ يقلنَ لها، فماذا كانَ جوابُ هذهِ الفتاة؟ ماذا كانَ جوابُ هذهِ الإنسانةِ التي قلَّبها اللهُ من مظاهرِ هذا البؤس في نعيمٍ بل في نعمةٍ خفية؟ كانت تقولُ لهن: ما قيمةُ هذهِ الدنيا؟ إنَّ المتعةَ هناك، إنَّ السعادةَ هناك، إنَّ الخيرَ هناك، فليُمَنِّ بعضنا بعضاً بذلكَ النعيم، لا بهذا النعيمِ الفاني الذي لا معنى له. تُرى لو أنَّ هذهِ الإنسانةَ وأمثالها وكلنا أمثالٌ لها، لو شاءَ اللهُ أن يقتلعنا من دنيانا هذهِ وتربتها كلها نِعم، وكلها مُتع، وكلها صفاءٌ لا كدورةَ فيها، هل يمكنُ أن يدورَ في خيالنا هذا المعنى؟ هل يمكن أن ننظرَ إلى هذه الحياةِ نظرةَ تبرمٍ واشمئزاز؟ لا يمكن، بشكلٍ منَ الأشكال، اللهمَّ إنَّ نعمكَ ظاهرةٌ وباطنة، ولقد أيقنّا وعلمنا أنكَ لا تعاملُ عبادكَ إلا بالنعم، ولكنها إما أن تكونَ نعماً ظاهرة، وإما أن تكونَ نعماً خفية. اللهمَّ أوزعنا أن نشكرَ نعمكَ الظاهرةَ والخفية، شكراً يرضيكَ عنا يا ربَّ العالمين. أقولُ قولي هذا وأستغفرَ اللهَ العظيم...

تحميل



تشغيل

صوتي