مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 09/08/1991

شح الماء ... رسالة تحذير للمستكبرين

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

إنَّ من أعجبِ الأسئلةِ التي طُرحَت عليّ قولُ أحدهم: كيفَ السبيل إلى أن تتخلصَ منَ الكبر؟

هذا السؤال في حقيقتهِ سؤالٌ غريبٌ وعجيبٌ جداً؛ فترجمةُ هذا السؤال تساوي تماماً قولَ هذا الإنسان: كيفَ السبيلُ إلى أن أعرفَ نفسي؟ وهل هنالكَ من صعوبة في سبيلِ أن يعلم الإنسانُ ذاته؟ وهل هنالك حواجز وضعت بينَ الإنسانِ وذاته فهوَ بحاجةٍ إلى أن يخترقها ويمارسَ في سبيلِ ذلكَ مغامرةً وأيَّ مغامرة؟ وإذا لم يعرفِ الإنسانُ نفسه فما الذي يستطيعُ أن يعرفهُ بعدَ ذلك؟

كلُّ من يشكو أنَّ الكبر مهيمنٌ عليه وأنهُ غيرُ قادرٍ على التحرر منه فمعنى ذلكَ أنهُ يشكو من أنهُ لا يعرفُ نفسهُ حقَّ معرفتها، ذلكَ بأنَّ الإنسانَ إذا عرفَ نفسه عرفَ أنهُ لا يملكُ شيئاً قط .. فبمَ يتكبر؟ إذا عرفَ الإنسانُ نفسه عرفَ أنهُ لا يملكُ أيَّ قدرةٍ تتحكمِ بذاته ولا يملكُ أيَّ قدرةٍ تتحكمُ بالأرضِ التي يمشي عليها، ولا بالسماءِ التي تستظلُّهُ ويمشي تحتها. لا يملكُ أيَّ قوةٍ تتحكمُ بشيءٍ من مظاهرِ الكونِ المحيطِ به، بل هوَ لا يملكُ أيَّ قدرةٍ تتحكمُ بذاتهِ هوَ، فإذا عرفَ الإنسانُ هذا من حقيقتهِ فإنَّ التكبرَ يغدو لوناً من أسوءِ ألوانِ السكر، والإنسانُ السكرانُ محجوبٌ عن عقله، ومن ثمَّ فهوَ ليسَ أهلاً للعقاب وللحوارِ وللحديثِ أوِ النقاش.

من أرادَ أن يتخلصَ منَ الكبرِ الذي يهيمنُ عليه فليسَ عليهِ إلا أن يقفَ أمامَ مرآةِ ذاته، ولقد قلتُ أكثرَ من مرة: إنَّ الإنسانَ يتصفُ بالعلم لكنَّ هذا الإنسان ليسَ لهُ أيُّ فضلٍ في غرسِ أيِّ علمٍ منَ العلومِ في عقله، وعما قريب سيذهبُ هذا العلمُ منهُ ويجهلُ بعدَ علمٍ وينسى بعدَ برهة، والإنسانُ حقاً يتصفُ بالقدرة، ولكنَّ الإنسان لم يبدع هذهِ القدرةَ باختراعٍ منه، ولم يحشُ كيانهُ بالقدرةِ بطاقةٍ ذاتيةٍ لديه، وإنما وجدَ القدرةَ تكاملت بالتدريجِ في كيانه، وعما قريبٍ سيجدُ أنَّ هذهِ القدرةَ تودعهُ إلى غيرِ رجعة، وهكذا ككلُّ الصفاتِ التي يتصف بها الإنسان ليسَ لهُ أيُّ دخلٍ في جذبها إليه، ولن يكونُ لهُ أيُّ دخلٍ في إبعادها عنه، والإنسانُ مهما نظرَ إلى الكونِ الخاضعِ له، ومهما أُخذَ بهذا الخضوع، فأسكرهُ هذا التسخيرُ بادئ ذي بدء -مهما أسكرتهُ هذهِ الصورة بأولِ مرة- إن هوَ رجعَ إلى وعيهِ وعقله، رأى أنهُ لا يملكُ أيَّ سبيلِ للتكبرِ على هذا الكونِ الذي سُخِّرَ لهُ أبداً.

إنَّ الإنسانَ قد يمشي وهوَ يضربُ بقدميهِ الأرض، إشعاراً وتعبيراً عن أنهُ امتلكَ ناصيةَ هذهِ الأرض وامتلكَ كلَّ ما فيها من حبٍّ وخير، وأنهُ قادرٌ على التصرفِ بها كما يتصرفُ لاعبُ الكرةِ بالكرة، ولكن لو تأملَ في الحقيقة لوجدَ أنهُ سكران يهذي في هذا التصور، ولو أعجزهُ أن يعلمَ هذهِ الحقيقة فإنَّ آياتٍ في كتابِ اللهِ تذكرهُ بها، قالَ اللهُ عزَّ وجل: ﴿هوَ الذي جعلَ لكمُ الأرضَ ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقهِ وإليهِ النشور﴾.

وما أحسبُ الإنسانَ المتكبر والذي يلتفتُ بينَ الحين والحينِ إلى شيءٍ من كتابِ اللهِ، ما أحسبهُ إلا وقد وقفَ عندَ هذهِ الآية وامتصَّ منها عواملَ سكرهِ وكفره؛ إذ وقفَ عندَ هذهِ الآية ولم يتابع: ﴿هوَ الذي جعلَ لكمُ الأرضَ ذلولاً﴾، لماذا لا أتكبرُ على الأرض التي ذلّلت تحتَ قدميّ؟ ﴿فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقهِ وإليهِ النشور﴾. ولكن لماذا لا تتابع ولماذا لا تصغي إلى الكلامِ الذي يليه الذي جاءَ إيقاظاً للسكرانِ الذي يشبهُ سكرك؟ ﴿ءأمنتم من في السماء أن يخسفَ بكمُ الأرضَ فإذا هيَ تمور * أم أمنتم من في السماءِ أن يرسلَ عليكم حاصباً فستعلمونَ كيفَ نذير﴾. فإذا سكرَ المتكبر من أجلِ أنَّ اللهَ سخرَ لهُ الأرض بتجاويفها الداخلية وبخيراتها الظاهرة فليستدرك وليتابع وليقرأ ما بعدَ ذلكَ من بيانِ اللهِ سبحانهُ وتعالى، فهوَ خيرُ ما ينقذهُ من سكره وحمقه: ﴿ءأمنتم من في السماء﴾؟ ءأمنتم هذا الإله العظيم الذي ذللَ لكمُ الأرض أن يخسفَ بكمُ الأرضَ فإذا هيَ تمور؟ صحيحٌ أنَّ اللهَ تعالى ذللها لكم، لكن منِ الذي أعطاكَ الضمانة أنَّ هذهِ الأرض ستبقى مطواعةً لك ما أصدرتَ إليها أوامركَ البشرية؟ منِ الذي قالَ لكَ هذا؟ ومنِ الذي أمنكَ ضدَّ أن تتفتحَ الأرض أفواهاً فاغرةً فتبتلعَ و تبتلعَ الملايينَ من أمثالك؟ ﴿ءأمنتم من في السماءِ أن يخسفَ بكمُ الأرضَ فإذا هيَ تمور﴾؟ إذا بها تهتزُّ ذاهبةً آيبةً، وإذا بكلِّ الأبنيةِ التي فوقها، وإذا بكلِّ المؤسساتِ العلميةِ الشامخةِ من فوقها تحولت إلى لعبِ أطفال ٍتحطمت يميناً وشمالاً وذرتها الرّياح.

لماذا لا يضيفُ الإنسانُ إلى تمتعه بنعمةِ اللهِ تعرّفهُ على قدرةِ الله؟ ومن ثَمَّ تعرّفَهُ على عجزهِ؟ لماذا ينظرُ الإنسانُ إلى ينابيعِ الأرضِ وهي تفورُ بالماءِ العذبِ الفراتِ فلا يتذكرُ إلا طَـوفَتَهُ يومَ بحثَ عنِ الأرضِ و نبشَ دخائلها؟ ولا يعلمُ طاقتهُ إلا يومَ تعلَّمَ هندسةَ الرّيّ؟ لماذا لم يتذكرْ أنّ اللهَ هو الذي أعطاهُ هذهِ المقاييس؟ ولماذا لم يتذكرْ أنّ اللهَ عزّ وجلّ هو الذي فجّرَ الأرضَ مياهـاً وأنهاراً وكساها خضرةً ورياحين؟ لماذا وهي تتمةُ العلمِ الذي يتعلّمه؟ لماذا تعلّـم من العلمِ خمسَ مسائلَ وأعرضَ عن مئاتٍ من المسائلِ الأخرى؟ لماذا؟

لو أنّهُ تعلّمَ العلمَ كلَّه ولم يقفْ عندَ أرباعِه أو أقلّ من أرباعِه لَتخلّص من كِبرِه، و لتخلّص من فجورِهِ و عنادِه، ولكنّ في الناس من لا يعلمون الحقيقةَ إلا بعدَ أن يأخذَهمُ اللهُ بسياطِ التأديب، إلا بعدَ أن يأخذهمُ اللهُ عزّ وجلّ بسياطِ المصائبِ، إنّ في الناسِ من لا يتخلّصونَ من كِبريائهِم إلا بعدَ أن تمتدّ ألسنتهُم يلهثونَ بها من عطشٍ وظمأ، يبحثونَ عن المياهِ الغائرةِ فلا يكادونَ يلحقونها، يبحثونَ عن الأنهرِ الّتي جفّت فلا يكادون يجدونَ في تجاويفها و شقوقِها جرعةَ ماءٍ أو شراب، في الناسِ من لا يتأدّبون إلا إذا أخذهمُ الله عزّ و جلّ بسياطِ التأديب، هذا الإنسانُ الذي يتكبرُ تحتَ سماءِ الله عزّ وجلَّ وقدِ اطمأنّ إلى أن الكونَ كلّه مسخرٌ له، الغلافُ الجويّ يحيطه بحصنٍ دائبٍ دائمٍ ضدّ كلّ شرّ، وما وراء ذلكَ .. إن هو إلّا مخلوقاتٌ تسرحُ لخدمةِ هذا الإنسان. يسيرُ مطمئنّاً، يتكبّرُ بقدميهِ إذ يضربُ بهما الأرضَ ساعةً، ويتكبّرُ على السّماءِ برأسهِ إذ يشمخُ به ساعةً أخرى. ألا يذكرُ هذا الإنسانُ قرارَ اللهِ سبحانهُ وتعالى إذ يقول: ﴿أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصباً فستعلمون كيف نذير﴾؟ تعلّمت أن الغلافَ الجويَّ وقايةٌ لكَ من النّيازك، فهلّا تعلّمتَ أنَّ ربَّ هذا الغلافِ الجوّيِّ والنّيازكِ عندما يشاءُ يجعلُ هذه النيازكَ تخترقُ هذا الغلافَ الجوّيَّ إلى هذا الكوكب؟! لماذا لم تتعلّم حقيقةَ العلم؟ لماذا؟

الإنسانُ الذي يتباهى بقدرتهِ إمّا أنّه يتباهى بطاقةٍ مكتنَزَةٍ في كيانه معرضاً عن معرفةِ جذورِ هذهِ الطّاقة. وإمّا أنّهُ يتباهى بجندٍ يسوقهم كما يشاء، ويقودهم كما يريد. وإمّا أنّهُ يتباهى بأحلافٍ ينتمي إليها، بقوىً أجنبيّةٍ أو عالميّةٍ أعانتهُ ذاتَ يوم، وأخرجتهُ من كمين، ونفضت عنهُ الغبار، فأخذَ يتكبّرُ فوقَ الأرض، ويتصوّرُ أنّهُ القويُّ الذي لا يدركُ قوّتهُ بعد.

هلّا تابعَ هذا الإنسانُ المعرفة؟ وهلّا تابعَ السّعيَ إلى معرفةِ ذاته؟ وهلّا تابعَ تلاوة هذهِ الآياتِ العظيمةِ فأصغى إلى سؤالِ اللهِ ليجيب: ﴿أمّن هذا الذي هو جندٌ لكم ينصركم من دونِ الرّحمنِ إنِ الكافرونَ إلا في غرور﴾؟! سؤالٌ يُطرَح، وعلى العالمِ المتكبّرِ بعلمهِ أن يجيب: ﴿أمن هذا الذي هو جندٌ لكم﴾؟ سواءٌ كانَ هذا الجندُ القوّةَ المكتنزة بينَ جوانحك، وسواءٌ كانَ هذا الجندُ الجندَ الذي تسوقهُ إلى ما تريد، وسواءٌ كانَ هذا الجندُ أحلافاً من أممٍ ودولٍ تتباهى بانتمائكَ إليها وعبوديّتكَ لها.

قل لي: من هو هذا الجندُ أيّاً كانَ نوعهُ الذي يستطيعُ أن ينصركَ إذا حجبَ اللهُ عنكَ الماء؟ سؤالٌ يفيضُ بالتّحدّي، موجّهٌ إلى كلِّ من يعانونَ من التّكبّر، بل كلِّ من يسعدونَ بكبريائهم. ﴿أمّن هذا الذي هو جندٌ لكم ينصركم من دونِ الرّحمن﴾؟ عندما يحجبُ اللهُ عنكَ نصرهُ لا توجدُ قوّةٌ مهما امتلأت بها الأرضُ ومهما فاضت بها السّماءُ تستطيعُ أن تنصركَ يومئذ، وليجرّب من شاءَ أن يخالفَ هذهِ الآية. وليمدَّ من شاءَ من النّاسِ يدهُ إلى من شاءَ من الأمم، وإلى من شاءَ من القوى، وإلى ما شاءَ من القوى، ناسياً الباريَ سبحانهُ وتعالى، ناسياً من بيدهِ الملكُ كلُّه، ثمَّ ليُرني كيفَ سيأتيهِ النّصرُ المحتوم؟ بل كيفَ سيتحقّقُ المحالُ الذي لا يمكنُ أن يتحقّق؟

تتباهى بغناك، تتباهى بأنّكَ تملكُ ما لا يُحصى من المال، وما لا يُحصى من القيَمِ والمنافع، من الذي أعطاك؟ ومن الذي ضمنَ لكَ أن يبقى هذا المالُ محصّناً في كيانكَ أو في جذوركَ أو في جيشك؟ ومن الذي أنبأكَ أنّكَ لن تبيتَ ليلتكَ هذهِ لتصبحَ وأنتَ فقيرٌ مُدعِق؟ إن كنتَ في شكّ، فهلّا وقفتَ عندَ تتمّةِ هذهِ الآية: ﴿أمّن هذا الذي يرزقكم إن أمسكَ رزقهُ بل لجّو في عتوٍّ ونفور﴾؟

كيفَ يشكو الإنسانُ أنّهُ غيرُ قادرٍ على التّخلّصِ من كبرهِ وهو لم يقف عند مرآةِ ذاته لحظةً واحدة، لنفضَ عن كاهلهِ غبارَ كبريائهِ كما ينتفضُ العصفورُ من بقايا قُذُراتٍ علقت بجناحه بلحظةٍ واحدة.

لو أدركَ الإنسانُ حقيقةَ ذاتهِ وحقيقةَ الكونِ المسخّرِ له، لمرّغَ وجههُ ورأسهُ على أعتابِ العبوديّةِ للهِ سبحانهُ وتعالى، ولعاشَ وهوَ يستغفرُ من بقايا أوهامِ كبريائه. ولكن لماذا لا نستعينُ على هذا بقراءةِ كتابِ الله؟ سورةُ الملكِ من المنجياتِ التي وردت فيها أحاديثُ كثيرة. لقد كانَ المصطفى صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ إذا أوى إلى فراشهِ لم يغمض عينيهِ حتّى يتلوَ هذهِ السّورة، يتأمّلُها، ويتدبّرُها، ويملأُ قلبهُ ونفسهُ بما شاءَ من معانيها، ثمَّ يسلمُ بعدَ ذلكَ عينيهِ للرّقاد.

أينَ نحنُ من سنّةِ رسولِ الله؟ أينَ نحنُ من الاصطباغِ بهذا الذي كانَ يصطبغُ بهِ رسولُ الله؟ لو فعلنا ذلكَ إذاً لتخلّصنا من الكبر، ولعشنا سعداءَ لا أقولُ بالتّواضعِ، بل سعداء بالوقفةِ الذليلةِ المهينة على أعتابِ الله.

أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيم..

تحميل



تشغيل

صوتي