مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 02/08/1991

الذي أحال قوة المسلمين وغناهم إلى ضعف وفقر

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

طالما تساءَلَ كثيرُ من النّاس -إن بطيبِ قلبٍ أو بنيّةٍ سيّئةٍ -: لماذا نرى المسلمينَ في العالَمِ أذلّة، وغيرُهمُ الأعزّةُ الموقّرون؟ ولماذا نراهمُ الفقراء، وغيرُهمُ الأغنياءُ المترفون؟ ولماذا نراهمُ الضّعفاء، وغيرهمُ الأقوياءُ الذينَ يُرهَبُ جانبهم؟ طالما طُرِحَ هذا السّؤالُ إمّا على سبيلِ الاستشكال، أو من أجلِ إدخالِ ريبةٍ وشكوكٍ في أذهانِ المسلمينَ تجاهَ إيمانهم ويقينهم باللهِ سبحانهُ وتعالى.

ولكن ها هي ذي الأحداثُ تتولّى أبلغَ إجابةٍ عن هذا السّؤال، عندما لم يكن يعي هؤلاءِ السّائلونَ الجوابَ الذي يذكّرهم بهِ كتابُ الله، أو الذي يذكّرهم بهِ علماءُ الشّريعة. ها هي ذي الأحداثُ تأتي لتؤكِّدَ هذا الجوابَ بأبلغِ بيان، وبأوضحِ حجّة.

الباري سبحانهُ وتعالى أعدلُ وأرحمُ من أن يتركَ عبادهُ المسلمينَ فقراءَ وغيرُهم الأغنياءُ المترفون. وهوَ أعدلُ وأرحمُ من أن يجعلهم أذلّةً وغيرُهمُ الأعزّةُ الأقوياءُ وهوَ القائلُ في محكمِ كتابه: ((وللهِ العزّةُ ولرسولهِ وللمؤمنين)). واللهُ سبحانهُ وتعالى أعدلُ وأرحمُ بعبادهِ المسلمينَ من أن يجعلهم همُ المستضعفينَ وغيرهمُ الأقوياءُ المتسلّطون؟

المسلمونَ هم أغنى النّاسِ على وجهِ الأرض، وهم أقوى النّاسِ على وجهِ الأرض، وهم أعزُّ النّاسِ على وجهِ الأرض. ولكنَّ المسلمينَ لـمّا كانوا مؤمنينَ بإسلامهم، متفاعلينَ مع حقائقِ العبوديّةِ لربّهم وخالقهم، التفتوا إلى غناهمُ الذي أكرمهمُ اللهُ بهِ فعرفوا كيفَ يستخدمونه. والتفتوا إلى عزّتهم فعرفوا كيفَ يحصّنونها. ونظروا إلى قوّتهم فعرفوا كيفَ يشكرونَ اللهَ سبحانهُ وتعالى عليها وكيفَ يجعلونَ منها أداةَ دعوةٍ إلى دينِ الله، وإقامةٍ لصرحِ شريعةِ اللهِ سبحانهُ وتعالى. تلكم هيَ سيرةُ الرّعيلِ الأوّل، ومن جاءَ فسارَ على نهجهم من الأجيالِ التي تلتهم من المسلمين.

ثمَّ خَلَفَ من بعدهم خلفٌ عمدوا إلى المالِ الذي أغناهمُ اللهُ سبحانهُ وتعالى بهِ فجعلوا منهُ سَكَراً، وجعلوا منهُ أداةً للطّغيان، وصاغوا منهُ حجاباً صفيقاً حجبهم عن رؤيةِ اللهِ المنعمِ المتفضِّلِ عليهم. وتركوا أموالهم هذهِ تندلقُ إلى أعدائهم وأعداءِ اللهِ سبحانهُ وتعالى. فأيُّ حجّةٍ على اللهِ بعدَ أن فعلَ المسلمونَ بأنفسهم هذا؟

خلفَ من بعدهم خلفٌ عمدوا إلى القوّةِ التي أكرمهمُ اللهُ بها، وما أكرمَ اللهُ عبادهُ المؤمنينَ بقوّةٍ إلا وينبوعُها الوحدة. وما كانت وحدةُ المسلمينَ يوماً إلا ائتلافاً للقلوب، وحبّاً يسري بينَ الأفئدةِ والنّفوس، وشفقةً تتفاعلُ بها المشاعرُ والألباب .. على هذا الأساسِ اتّحدتِ الأمّةُ الإسلاميّة، ومن هذهِ الوحدةِ انقدحت حقائقُ القوّة.

خلفَ من بعدهم خلفٌ عمدوا إلى الحبِّ الذي غرسهُ اللهُ عزَّ وجلَّ في أفئدتهم تجاهَ بعضهم بعضاً، اقتلعوا هذا الغرسَ المباركَ وغرسوا في مكانهِ الأحقادَ والضّغائن. عمدوا إلى الشّفقةِ والرّحمةِ التي أكرمهمُ اللهُ عزَّ وجلَّ بها، فاقتلعوا هذهِ المشاعرَ والمعانيَ القدسيّةَ وغرسوا في مكانِها من أفئدتهمُ العداوةَ والبغضاء. أحبَّ اللهُ لهم أن يكونوا متراحمين، ولكنّهم حكموا على أنفسهم أن يكونوا متباغضين.

وهكذا تحوّلت وحدتهم إلى شِقاق، وكانَ لا بدَّ من بعدِ ذلكَ أن تتحوّلَ قوّتهم إلى مهانةٍ وضعف. فأيُّ حجّةٍ تبقى على اللهِ سبحانهُ وتعالى بعدَ أن فعلَ المسلمونَ بأنفسهم هذا؟

خلفَ من بعدهم خلفٌ عمدوا إلى الولايةِ السّاريةِ بينهم عبيداً وبينَ ربّهم مولىً رحيماً مربّياً. عمدوا إلى هذهِ الولايةِ فقّطعوا أوصالها فيما بينهم وبينَ ربّهم. وهانت عليهم كلماتُ اللهُ سبحانهُ وتعالى ((إنَّ وليِّيَ اللهُ)). هانت عليهم كلماتُ اللهِ سبحانهُ وتعالى من مثلِ قولِهِ: ((إنّما وليُّكمُ الله)). هانت عليهم كلماتُ اللهِ سبحانهُ وتعالى من مثلِ قولهِ: (اللهُ وليُّ الذينَ آمنوا يخرجهم من الظُّلُماتِ إلى النّورِ والذينَ كفروا أولياؤهمُ الطّاغوتُ يخرجونهم من النّورِ إلى الظُّلُمات). بعدَ أن أعزّهمُ اللهُ بولايتهِ لهم ورعايتهِ إيّاهم تحتَ مظلّةِ هذهِ الولايةِ أعرضوا عنها، ومدّوا لأنفسهم ولايةً فيما بينهم وبينَ أعداءِ اللهِ سبحانهُ وتعالى، وكانتِ النّتيجةُ أن يتحوَّلَ عزّهم ذلّاً، لأنَّ العزَّ الذي أكرمهمُ اللهُ بهِ إنّما كانَ ينبوعهُ هذهِ الولاية. وإذا استغنى المسلمونَ عن ولايةِ اللهِ لهم، وأعلنوا عن احتياجهم إلى ولايةِ أعداءِ اللهِ لهم، فأيُّ حجّةٍ تبقى على اللهِ لهم إنِ انقلبَ عزُّهم ذلّاً؟ وإن انكفأت قوّتهم ضعفاً؟

المسلمونَ أقوياء، ولكنّهم همُ الذينَ حكموا على أنفسهم أن يعودوا ضعفاء. المسلمونَ أغنياء إلى هذا اليوم، ولكنّهم همُ الذينَ حكموا على أنفسهم أن يعودوا فقراءَ لا يتمتّعونَ بالمالِ الذي أغناهمُ اللهُ عزَّ وجلَّ به. والمسلمونَ أعزّة ولكنّهم همُ الذينَ حكموا على أنفسهم بهذا، وكانَ طبيعيّاً في ميزانِ العدالةِ الإلهيّةِ وقد فعلَ هؤلاءِ المسلمونَ بأنفسهم هذا أن يَكِلَهم إلى ما شاؤوهُ لأنفسهم من المهانةِ والضّعفِ والذُلِّ والفقر.

ألم يقلِ اللهُ عزَّ وجلَّ في وصفِ المؤمنينَ في أكثرَ من موضعٍ أنّهم رحماءُ فيما بينهم أعزّةٍ على الكافرين؟ ألم يقل: ((يا أيّها الذينَ آمنوا من يرتدَّ منكم عن دينهِ فسوفَ يأتي اللهُ بقومٍ يحبّهم ويحبّونهُ أذلّةٍ على المؤمنينَ أعزّةٍ على الكافرين))؟ ألم يقل: ((محمّدٌ رسولُ اللهِ والذينَ معهُ أشدّاءُ على الكفّارِ رحماءُ بينهم تراهم ركّعاً سُجّداً يبتغونَ فضلاً من اللهِ ورضواناً))؟ أليسَ هذا وصفَ المؤمنين النّخبةِ الصّالحةِ من عبادِ اللهِ عزَّ وجلَّ في كتابه؟ فلماذا سرنا في الطّريقِ المناقضِ لهذا الذي اختارهُ اللهُ لنا من الصّفات؟ شاءَ اللهُ لنا أن نكونَ رحماءَ فيما بيننا فأصبحنا أشدّاءَ فيما بيننا. نتهارجُ من أجلِ أتفهِ الأسباب، يستلبُ الواحدُ منّا من صاحبهِ حقّهُ دونَ أن يذكرَ هذا المعنى العظيمَ الذي شرّفنا اللهُ عزَّ وجلَّ بهِ سمةً ووصفاً. وإذا استلبَ المؤمنُ من صاحبهِ حقّه، جاءَ الآخرُ بدلاً من أن يرعوي إلى وصفِ اللهِ وما أمرهُ بهِ الله، فيكيلُ لهُ الصّاعَ صاعين، ويكيلُ لهُ الظُّلمَ ظلمَين، وإذا بالطّرفينِ يمزّقانِ هذا الوصفَ العظيمَ الذي وصفَ اللهُ بهِ عبادهُ المؤمنين: ((والذينَ معهُ أشدّاءُ على الكفّارِ رحماءُ بينهم)). كيفَ كانَ حالُ المسلمينَ من قبل؟ إذا أخطأَ طرفٌ معَ الطّرفِ الثّاني في مظلمةٍ وسِعَ قلبُ الطّرفِ الثّاني كلَّ ذلكَ برحمةٍ وصفحٍ وغفران، وعادَ الأمرُ بعدَ ذلكَ إلى وئام، وكانَ في صفِّ هذا الطّرفِ الثّاني خيرَ عاملٍ لتوبةِ الطّرفِ الأوّل. ولكن انظروا إلى ما آلَ إليهِ حالُ المسلمينَ اليوم..

أمّا حالُ المسلمينَ مع أعدائهم، فليتَ أنَّ هذهِ الشِّدّةَ التي يعاملُ المسلمُ بها أخاهُ يعاملُ بها أعداءَ اللهِ عزَّ وجلَّ أيضاً، إذاً لقلنا هي شدّةٌ في الطّبعِ لا تعلو ولا تهبطُ مهما كانَ الأمرُ وأيّاً كانَ الظّالم. ولكنّا ناقضنا وصيّةَ ربِّنا سبحانهُ وتعالى؛ بدلاً من أن نكونَ رحماءَ فيما بيننا أصبحنا أشدّاءَ متحاقدينَ متباغضينَ متهارجين، وبدلاً من أن نكونَ أشدّاءَ على الكافرينَ أصبحنا أذلّةً ننظرُ إليهم بعيونٍ كثيرةٍ وبنظراتٍ مهينة، ونرفعُ الأيديَ مستسلمينَ لما يفعلونَ ويقرّرون، ونعلنُ عن امتناننا لهم وشكرنا لهم بكلِّ لسان.

ألم يعد حالُ المسلمينَ إلى هذا الأمر؟ واللهُ يقول: (محمّدٌ رسولُ اللهِ والذينَ معه). (والذينَ معه) فهل نحنُ مع رسولِ اللهِ بعدَ هذا؟ هل بقيَ جسرٌ يصلُ ما بيننا وبينَ رسولِ اللهِ وقد عكسنا بشكلٍ حادٍّ وصيّةَ اللهِ سبحانهُ وتعالى؟ يستلبُ منّا العدوُّ الأرعنُ -اليهودُ الذينَ هم شرُّ أمّةٍ في مقياسِ كتابِ اللهِ عزَّ وجلّ- أقدسَ أرضٍ ويطردونَ منها أهلها، فلا تتحرّكُ منّا قوّةٌ، ولا ينعصرُ منّا شعور، ولا نستعملُ شيئاً من الشّدّةِ التي نتمتّعُ بها اليومَ في معاملةِ بعضِنا لبعض، إن هيَ إلا كلماتٌ وشعاراتٌ نغطّي بها مهانتنا. وتمرُّ السّنواتُ تلوَ السّنواتِ ونحنُ نرى استلابَ أولئكَ الأعداءِ لأرضِنا وتمزيقهم لأوصالِنا وتعذيبَهم لإخواننِا، ثمَّ لا تطرفُ منّا عين.

فإذا جاءَ من يستلبُ منّا أرضَنا من المسلمين، أو يوقعُ بنا مَظلَمَةً منَ المسلمين، والظّلمُ ظلمٌ من أيِّ جهةٍ جاء. تحوَّلَت مهانَتُنا إلى شدّة، وتحوَّلَ ضعفُنا واستخزاؤنا إلى عزّة، وتحوَّلَ ضعفُنا إلى قوّة، وأخذنا نستكثر، وأخذنا نجمّعُ لاستكثارنا أهلَ الشّرقِ والغربِ من أعداءِ اللهِ سبحانهُ وتعالى. وكأنّنا نعلِنُها صريحةً أنّنا على نقيضِ ما يقولهُ الله، وإن كانَ البيانُ الإلهيُّ يقول: ((محمّدٌ رسولُ اللهِ والذينَ معهُ أشدّاءُ على الكفّارِ رحماءُ بينهم))، فليعلمِ اللهُ أنّنا أشدّاءُ على أنفسِنا رحماءُ مع الكافرين. كأنَّ لسانَ حالِنا يقولُ هذا الكلام.

إذاً أيُّها الإخوة: ألا ترونَ فيما نفعلهُ بأنفسِنا وفيما قضينا باختيارِنا على أنفسِنا خيرَ جوابٍ لهذا السّؤالِ الذي كانَ ولا يزالُ يتطارحهُ بعضُ النّاس: لماذا جعلنا اللهُ نحنُ المسلمينَ فقراءَ وتركَ الغِنى لأعداءِ الإسلام؟ لماذا جعلَنا اللهُ أذلّةً وتركَ العزّةَ لأولئك؟ ألا ترونَ فيما فعلناهُ بأنفسِنا خيرَ جوابٍ على هذا السّؤال؟

حصنُنا موجود، غنانا موجود، عزّتُنا موجودة، أرائك العزِّ لا تزالُ تنادينا وتشدُّنا إلى ذلكَ الصّعيدِ العالي الذي كنّا نتبوّؤهُ من قبل، ولكنّا حكمنا على أنفسِنا بالمهانة. حكمنا على أنفسِنا بالمهانةِ فكنّا جديرينَ بها، كنّا جديرينَ بالمهانةِ تماماً، كنّا جديرينَ بالضّعف، كنّا جديرينَ بالتّمزّق. وأسألُ اللهَ سبحانهُ وتعالى أن يجعلَ من الأحداثِ التي يربّي بها عبادهُ خيرَ ما يوقظهم من سباتهم، أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيم...

تحميل



تشغيل

صوتي