مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 21/06/1991

هذا هو يوم عرفة

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

هذا هو يومُ عرفة، هو اليومُ الذي يشكِّلُ بينَ أيّامِ السّنةِ كلِّها ما يشبهُ واسطةَ العقدِ من حبّاتِ العقدِ كلِّه، هو اليومُ الذي أعلنَ فيهِ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في الحديثِ الصّحيحِ أنّهُ: "ما من يومٍ أفضلُ عندَ اللهِ سبحانهُ وتعالى من يومِ عرفة، وخيرُ الدّعاءِ دعاءُ يومِ عرفة" ما من يومٍ يتقبَّلُ اللهُ فيهِ دعاءِ عبادهِ ويرتضي إقبالهم إليهِ بالعبوديّةِ والذّلِّ والدّعاءِ والمسألةِ كما يرضى عنهم في هذا اليوم. وقد روى الإمامُ مالكٌ والبيهقيُّ عن طلحةَ بنِ عبيدِ اللهِ رضيَ اللهُ عنهُ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قال: "ما رؤيَ الشّيطانُ في يومٍ هو فيهِ أصغرُ ولا أدحرُ ولا أحقرُ ولا أغيظُ منهُ في يومِ عرفة، وما ذلكَ إلا لما يرى من تنزِّلِ رحماتِ اللهِ سبحانهُ وتعالى، ومن تجاوزِ اللهِ عن الذّنوبِ العظامِ في هذا اليوم".

وإنَّ أحدَنا ليسألُ وهو يصغي إلى هذهِ المظاهرِ من فضلِ هذا اليومِ المباركِ الجليل: أهيَ فضيلةٌ خاصّةٌ بمن شهدَ الموقفَ في يومِ عرفة؟ أم هيَ فضيلةٌ عامّةٌ تمتدُّ للمؤمنينَ والمسلمينَ جميعاً أينما وُجدوا؟ سواءٌ منهم من أُتيحَ لهُ أن يذهبَ حاجّاً إلى بيتِ اللهِ الحرامِ ويقفَ هذا اليومَ في الموقفِ أو من لم يُتَح لهم ذلك؟ كلامُ المصطفى عليهِ الصّلاةُ والسّلام كلامٌ عامٌّ يشملُ المسلمينَ جميعاً أينما وُجدوا، فهو لم يقيِّد هذهِ الفضيلةَ بموقفٍ مكانيّ، ولا بنُسُكٍ وطاعاتٍ معيّنة. ألم يقل عليهِ الصّلاةُ والسّلام: "خيرُ الدّعاءِ دعاءُ يومِ عرفة، وأفضلُ ما قلتُ أنا والنّبيّونَ من قبلي: لا إلهَ إلا الله". وإذا كانَ خيرُ الدّعاءِ دعاءَ يومِ عرفة، فتلكَ الخيريّةُ عامّةٌ لهذا اليومِ بقطعِ النّظرِ عن طبيعةِ المكان، بقطعِ النّظرِ عن البلدةِ أو القريةِ أو الأرضِ التي يوجدُ فيها الإنسانُ في هذا اليوم، والمهمُّ أينما وُجِدَ هذا الإنسان، المهمُّ أن يُقبِلَ إلى اللهِ سبحانهُ وتعالى، وأن ينتهزَ فرصةَ إقبالِ اللهِ عزَّ وجلَّ على عبادهِ فيُقبِلَ هو أيضاً إلى اللهِ سبحانهُ وتعالى.

وإنّني لأقفُ أمامَ هذهِ الكلماتِ التي يقولُها المصطفى عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ عن الشّيطانِ في هذا اليوم: "ما رؤيَ الشّيطانُ في يومٍ هو فيهِ أصغرُ ولا أدحرُ ولا أحقرُ ولا أغيظُ منهُ في يومِ عرفة". ولقد علمتم أنَّ أشنعَ صفةٍ وصفَ بها اللهُ سبحانهُ وتعالى الشّيطانَ هي الكِبر، كما علمتم أنَّ أوّلَ سببٍ لطردِ اللهِ سبحانهُ وتعالى الشّيطانَ من ساحةِ رحمتهِ إنّما هو تكبّرهُ على اللهِ عزَّ وجلَّ عندما تأبّى على اللهِ ورفضَ أن يطيعَ أمره.

وإذا كانَ هذا هو أهمَّ صفاتِ الشّيطانِ التي اقتضت طردَهُ من رحمةِ للهِ سبحانهُ وتعالى، فإنَّ هذا اليوم - يومَ عرفة - ليومٌ عجيبٌ حقّاً من عمرِ الدّهر، عندما يستطيعُ هذا اليومُ بما فيهِ من أسرارٍ وبما فيهِ من مظاهرِ التّجلّي الإلهيِّ على عباده، عندما يستطيعُ هذا اليومُ بأسرارهِ هذهِ أن يُفرِغَ هذهِ المعاني - معانيَ الكبرياء - من باطنِ الشّيطان، وأن يحيلَهُ في هذا اليوم بل يحيلُهُ هذا اليومُ ذاتهُ بما فيهِ من أسرار من ذلكَ المخلوقِ المتعجرفِ المتكبّرِ المتأبّي لا على عبادِ الله، بل على اللهِ سبحانهُ وتعالى ذاتِه. إنّهُ ليومٌ عظيمٌ من الدّهر، هذا اليومُ الذي استطاعَ أن يُفرِغَ الشّيطانَ من عظمتهِ وكبريائهِ وعجرفتهِ وتعاظُمه، وإذا هو بسرِّ هذا اليومِ أصغرُ وأدحرُ وأحقرُ وأغيظُ ما ترى.

وإذا كانَ أثرُ هذا اليومِ على الشّيطانِ هكذا، إذاً كيفَ ينبغي أن يكونَ أثرُ هذا اليومِ على عبادِ اللهِ عزَّ وجلّ؟ كيفَ ينبغي أن يكونَ أثرُ هذا اليومِ على أولئكَ الذينَ طُرِدَ الشّيطانُ من رحمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ من أجلهم؟ ينبغي أن يكونَ لهذا اليومِ سلطانٌ وأيُّ سلطانٍ على نفوسِنا، ينبغي أن تنبعثَ من نفوسِ المسلمينَ نشوةٌ عارمة، وسعادةٌ باسقة، ولذّةٌ لا تعدلُها لذّةٌ عندما يجدُ نفسَهُ قريباً إلى الله، مكلوءاً برحمةِ اللهِ عزَّ وجلّ، تفيضُ تجلّياتُ اللهِ سبحانهُ وتعالى عليهِ من أنحائه، وشرُّ النّاسِ في هذا اليومِ من كانَ شأنهُ شأنَ هذا الشّيطانِ الذي لم يمرَّ عليهِ يومٌ كهذا اليومِ وهو في حالةٍ من الصّغارِ والمهانةِ والذّلِّ والحقارةِ والاندحارِ كما يقولُ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم.

إنَّ العجبَ كلَّ العجبِ أيُّها الإخوةُ من أن يمرَّ بالإنسانِ هذا اليومُ المباركُ الذي يصفهُ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بهذا الوصفِ ويصفُ حالةَ الشّيطانِ فيهِ بهذهِ الشّاكلة، العجبُ العُجابُ من إنسانٍ يمرُّ بهِ هذا اليومُ وهوَ لا يلتفتُ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ ليعودَ إليهِ بالاصطلاح، وهو عاكفٌ على إعراضهِ ونسيانهِ وذهوله، لا ذهولهِ عن اللهِ عزَّ وجلَّ بل ذهولهِ عن نفسه.

وإن أنسى فإنّي لا أنسى أبداً ذلكَ المشهدَ الذي حدّثتكم عنهُ مرّةً والذي يتكرّرُ في الذّهنِ كلّما تكرّرت تلاوةُ كتابِ اللهِ سبحانهُ وتعالى عندما يقولُ اللهُ سبحانهُ وتعالى مصوِّراً هذا المشهد: ((وإذ قلنا للملائكةِ اسجدوا لآدمَ فسجدوا إلا إبليسَ كانَ من الجنِّ ففسقَ عن أمرِ ربّهِ أفتتّخذونهُ وذرّيّتهُ أولياءَ من دوني وهم لكم عدوٌّ بئسَ للظّالمينَ بدلاً)).

ما تأمّلتُ في هذا الكلامِ الرّبّانيِّ مرّةً إلا وشعرتُ أنَّ الخجلَ ينبغي أن يخنُقَ الإنسانَ وينبغي أن يجتاحهُ كلّيّاً من فرقهِ إلى قدمهِ من اللهِ سبحانهُ وتعالى. أرأيتم إلى هذا الكلامِ العجيب، يحدِّثُنا ربُّنا عزَّ وجلَّ عن تكريمهِ العظيمِ للإنسان، وذلكَ عندما أمرَ هذا الشّيطانَ الذي يتحدّثُ عنهُ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وعن حالهِ في هذا اليوم، عندما أمرهُ بالسّجودِ لآدمَ سجودَ تكريمٍ وتبجيلٍ وتقدير، وإنّهُ في الحقيقةِ سجودٌ لهذهِ الخليقةِ كلِّها متمثّلةً في أبي الأنبياءِ وأبي البشرِ آدمَ عليِ الصّلاةُ والسّلام، كرّمكَ اللهُ يا ابنَ آدمَ إذ أمرَ الشّيطانَ بالسّجودِ لك. ولكنَّ الشّيطانَ استكبرَ وكانَ من الفاسقين، ورفضَ أن يكرِّمَ هذا الإنسانَ الذي كرّمهُ الله، ورفضَ أن يبجِّلَ هذا الإنسانَ الذي بجّلهُ الله، واهتاجتِ الكبرياءُ بينَ جوانحه، بل اهتاجتِ العداوةُ والبغضاءُ لهذا الإنسانِ بينَ جوانحِ ذلكَ الشّيطان.

وهنا يُسائِلُ البيانُ الإلهيُّ الإنسانَ قائلاً: ((أفتتّخذونهُ وذرّيّتهُ أولياءَ من دوني وهم لكم عدوّ))؟! أنا الذي كرّمتكم وأمرتُ هذا الشّيطانَ بالسّجودِ لكم فاستكبرَ واهتاجتِ العداوةُ بينَ جوانحهِ لكم، ومعَ هذا تعرضونَ عن الإلهِ الذي كرّمكم وتقبلونَ بالولاءِ إلى هذا الشّيطانِ الذي عاداكم؟! كيفَ هذا؟ ((أفتتّخذونهُ وذرّيّتهُ أولياءَ من دوني وهم لكم عدوٌّ بئسَ للظّالمينَ بدلاً)). بئسَ أن يستبدلَ الإنسانُ الظّالمُ ولايةَ الشّيطانِ بولايةِ اللهِ سبحانهُ وتعالى، بئسَ أن يستبدلَ الإنسانُ الظّالم، الظّالمُ لمن؟ لنفسه، بئسَ أن يستبدلَ هذا الإنسانُ الظّالمُ بولايةِ اللهِ الذي أحبَّه، بولايةِ اللهِ الذي كرَّمه، بولايةِ اللهِ الذي رفعَ مقامه، يستبدلُ بهذهِ الولايةِ ولايةَ الشّيطانِ الذي أعلنَ العدوانَ له، أعلنَ الكبرياءَ عليه، أعلنَ أنّهُ سيقفُ لهم على صراطِ اللهِ المستقيم، وآلى على نفسهِ أنّهُ سيبذلُ كلَّ جهدٍ في سبيلِ ألّا يجدَ ربُّنا سبحانهُ وتعالى واحداً من عبادهِ لهُ شاكراً.

كلَّما تلوتُ هذهِ الآياتِ استبدَّ بيَ الحزن، وفاضَ في كياني شعورٌ من الخزيِ والألمِ والخجلِ من اللهِ سبحانهُ وتعالى، وهل هنالكَ شرٌّ من هذا اللّؤم: أن يحسنَ إليكَ اللهُ فتعرضَ عنه؟ وأن يلطمكَ الشّيطانُ بلطمةِ عدوانهِ فتقبِلَ إليهِ وتواريَهُ وتُقَبِّلُ منهُ اليدَ والرِّجْلَ والكيان؟

ومع ذلكَ فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يدعو عبادهُ بينَ كلِّ يومٍ وآخرَ أن يستيقظوا من رُقادهم، وأن ينفضوا غاشيةَ هذهِ الغفلةِ وهذا الغباءِ عن عقولهم وكيانهم فيقبلوا إلى اللهِ سبحانهُ وتعالى، إذا كانَ الشّيطانُ في هذا اليومِ قد تصاغرَ وتضاءَلَ وتضاءلَ ذلّاً وغيظاً من رحمةِ اللهِ التي تتدفّقُ لعامّةِ عباده، إذاً كيفَ ينبغي أن يكونَ أثرُ هذا اليومِ علينا؟ كيفَ ينبغي أن يكونَ أثرُ هذا اليومِ علينا إقبالاً إلى الله؟ وإنابةً إليه؟ وعوداً إلى صراطه؟ واصطلاحاً معهُ وتطهيراً للقلوبِ من كلِّ الأدرانِ التي كانت تحجبُنا عنهُ وعن رؤيته؟ ثم نملأُ وعاءَ قلوبِنا الطّاهرِ بمحبّةِ هذا الإله، بتعظيمِ هذا الإله، بالخشيةِ من هذا الإله، ثمَّ نبرهنُ على صدقِ مشاعرِنا هذهِ بالسّيرِ على صراطه، بالالتزامِ بأوامره، بالتّمسُّكِ بوصاياه، بالابتعادِ عن النّواهي التي نهانا عنها ونحنُ واثقونَ متأكِّدونَ أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ ما أمرنا بما أمرَ إلّا لأنَّ في ذلكَ سعادتَنا، وما نهانا عمّا نهى إلّا لأنَّ في ارتكابِ تلكَ النّواهي شقاءنا الوبيل. هكذا، هكذا ينبغي أن يكونَ أثرُ هذا اليوم -يومِ عرفة- على عبادِ اللهِ المؤمنينَ به، أو الذينَ يدّعونَ أنّهم مؤمنونَ به.

أسألُ اللهَ سبحانهُ وتعالى ألّا يحرمنا من أجرِ هذا اليوم، ومن فضيلةِ هذهِ السّاعاتِ المباركة، وأن يكتبَنا في هذا اليومِ من المرحومينَ ومن المغفورِ لهم، وأن يعتقنا اللهُ سبحانهُ وتعالى من آثامِنا ومن شرورِ أنفسِنا، أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيم...

تحميل



تشغيل

صوتي