مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 29/03/1991

فضيلة ليلة النصف من شعبان لا تعم ذي قلب حاقد

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

لقد صحَّ عن النّبيِّ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنّهُ لم يكن يعظّمُ شهراً من الشّهورِ ويحتفي بهِ بعدَ شهرِ رمضانَ المباركِ كما يعظّمُ ويحتفي بشهرِ شعبان.

ولقد روى النّسائيُّ من حديثِ أسامةَ بنِ زيدٍ رضيَ اللهُ عنهما أنّهُ قالَ لرسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم: يا رسولَ الله، ما نراكَ تصومُ شهراً كما تصومُ في شهرِ شعبان -أي ما نراكَ تكثرُ الصّومَ في شهرٍ كما تكثرهُ في شهرِ شعبان- فقالَ عليهِ الصّلاةُ والسّلام: "ذلكَ شهرٌ يغفلُ عنهُ النّاس بينَ رجبَ ورمضان، وهو شهرٌ ترتفعُ فيهِ الأعمالُ إلى اللهِ سبحانهُ وتعالى، فأحبُّ أن يرتفعَ عملي إلى اللهِ عزَّ وجلَّ وأنا صائم".

ولقد روى الإمامُ أحمد عن عبدِ اللهِ بنِ عمروٍ رضيَ اللهُ عنهُ أنَّ رسولَ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قال: "يطّلعُ اللهُ على عبادهِ ليلةَ النّصفِ من شعبان: فيستغفرُ للمستغفرين ويسترحمُ المسترحمين، إلا صاحبَ شحناءٍ وقاتلَ نفس". -أي إلا من كانَ ينطوي قلبهُ على غلٍّ وضغينة، وقاتل نفسٍ لغيرِ حقّ.

وقد روت عائشةُ رضيَ اللهُ عنها فيما رواهُ البيهقيُّ أنّها قالت: قامَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ ليلةً فصلّى فأكثرَ من الصّلاةِ وسجدَ فأطالَ في سجودهِ حتّى ظننتُ أنّهُ قد قُبض. فقمتُ فحرّكتُ إبهامهُ فتحرّكَ فرجعت، فسمعتهُ يقولُ في سجوده: "اللهمَّ إنّي أعوذُ بعفوكَ من عقابك، وأعوذُ برضاكَ من سخطك، وأعوذُ بكَ منك، لا أحصي ثناءً عليك أنتَ كما أثنيتَ على نفسك". فلمّا قامَ من سجودهِ وانتهى من صلاتهِ التفتَ إليَّ قائلاً: "يا عائشة أظننتِ أنَّ النّبيَّ -صلّى اللهُ عليهِ وسلّم- قد خاسَ بكِ"؟ فقالت: لا يا رسولَ الله، ولكنّني ظننتُ أنّكَ قد قُبضتَ من طولِ سجودك. فقالَ لها: "أتعلمينَ أيُّ ليلةٍ هذه؟ إنّها ليلةُ النّصفِ من شعبان، يطّلعُ اللهُ عزَّ وجلَّ فيها على عباده، فيغفرُ للمستغفرين، ويسترحمُ المسترحمين، ويؤخّرُ أهلَ الحقدِ كما هم".

هذه الأحاديثُ تدلُّنا على أمرينِ اثنين:

أوّلُهُما: فضيلةُ هذا الشّهرِ عموماً. ثانيهِما: فضيلةُ ليلةِ النّصفِ من شعبانَ خصوصاً.

كما يدلُّ هذا الذي يقولهُ لنا رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ على أمرٍ آخرَ أجلَّ وأخطر، لو تنبّهْنا إليهِ وتأمّلناه. يدلُّنا كلامُ المصطفى عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ في هذه الأحاديثِ وغيرِها على أنَّ هنالكَ تفاعلاً وتداخلاً تامّاً، بل وحدةً كاملةً بينَ العباداتِ التي نتصوّرُها هي وحدها عباداتٍ يُتَقَرَّبُ بها إلى اللهِ عزَّ وجلّ، وبينَ الواجباتِ الإنسانيّةِ والخدماتِ الإنسانيّةِ التي ندبَ اللهُ سبحانهُ وتعالى إليها عباده.

كلامُ المصطفى عليهِ الصّلاةُ والسّلام في هذهِ الأحاديثِ وغيرِها ينبّهنا إلى أنَّ العبادةَ التي خلقَ اللهُ الإنسانَ لممارستِها ليست عبارةً عن الشّعاراتِ المحصورةِ المعدودةِ ممّا يسمّيهِ العوامُّ عبادات. وإنّما العبادة: هي أن يتقرّبَ الإنسانُ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ بكلِّ عملٍ إنسانيٍّ يُصلحُ حالَ المسلمينَ ويبعدهم عن الفسادِ وأسبابِه. فمهما أقبلَ الإنسانُ إلى الأعمالِ الإنسانيّةِ يرعاها من أجلِ رضى اللهِ سبحانهُ وتعالى، ومهما كانَ حارساً على المجتمعِ الإنسانيِّ لإبعادهِ عن المفاسدِ ولتحقيقِ وجوهِ المصلحةِ فيه، ومهما كانَ الإنسانُ مقبلاً إلى إخوانهِ بقلبٍ سليمٍ من الضّغائن، سليمٍ من الأحقاد، فهو متعبّدٌ متبتّلٌ للهِ سبحانهُ وتعالى. ومهما كانَ الإنسانُ منبتّاً عن مجتمعهِ، قد حصرَ نفسهُ من حياتهِ التي أقامهُ اللهُ فيها ببضعٍ من الشّعائرِ يظنُّها الجسرَ الوحيدَ بينهُ وبينَ الجنّة، من صلاةٍ أو صيامٍ أو نسكٍ وغيرِ ذلك، حتّى إذا حانَ لهُ التّعاملُ مع عبادِ اللهِ تعاملَ معهم على أساسٍ من رغباتهِ ورعوناتِهِ وأنانيّتهِ وحظوظِ نفسه، وإذا ذُكِّرَ قالَ إنَّ الدّنيا مكوّنةٌ من شطرين:

الشّطرُ الأوّل: محرابٌ يتعبّدُ الإنسانُ فيهِ ربّه. والشّطرُ الثّاني: سوقٌ يقبلُ الإنسانُ فيها إلى مصالحهِ ودنياه.

هذا تصوّرٌ بشع، وتصوّرٌ مناقضٌ لما جاءَ بهِ الرّسلُ والأنبياء، ولما أوحى اللهُ عزَّ وجلَّ بهِ إلى نبيّهِ محمّدٍ عليهِ الصّلاةُ والسّلام، ولما نقرَؤُهُ في كتابِ اللهِ سبحانه. ألم تقرؤوا قولَ اللهِ عزَّ وجلّ: ((ومن النّاسِ من يعجبُكَ قولهُ في الحياةِ الدّنيا ويُشهِدُ اللهَ على ما في قلبه وهو ألدُّ الخصام وإذا تولّى سعى في الأرضِ ليفسدَ فيها ويهلكَ الحرثَ والنّسلَ واللهُ لا يحبُّ الفساد)). هذا الإنسانُ الذي ينعى عليهِ اللهُ سبحانهُ وتعالى دعواهُ العريضةَ أنّهُ مؤمنٌ وأنّهُ متعبّدٌ وأنّهُ متبتّل. يردُّ اللهُ سبحانهُ وتعالى عليهِ دعواهُ هذهِ ببرهانٍ لا من العباداتِ التي تؤدّى في المحاريبِ والمساجد. ولكن يردُّ عليهِ برهانهُ بسعيهِ في مناكبِ الأرضِ عندما يفسدُ ما هوَ صالح، وعندما يسيءُ إلى إخوانه، وعندما يشيعُ العبثَ في المجتمعِ أيّاً كانَ نوعُ هذا العبث.

هذا الدّليلُ القويُّ الذي يوضحُ أنَّ دعواهُ باطلة، وأنّهُ مُفْتَئِتٌ على اللهِ سبحانهُ وتعالى.

وانظروا وتأمّلوا مرّةً أخرى في هذا البيانِ الإلهيّ: (ومن النّاسِ من يُعجبُكَ قولهُ في الحياةِ الدّنيا). ربّما كانَ كثيرَ ذكرٍ وأوراد، وربّما كانَ كلامهُ مصبوغاً بكلامِ اللهِ وكلامِ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم. (ومنَ النّاسِ من يُعجبُكَ قولهُ في الحياةِ الدّنيا ويُشهِدُ اللهَ على ما في قلبِهِ وهو ألدُّ الخصام وإذا تولّى)، هذا هو الدّليلُ على صدقهِ أو كذبه: (وإذا تولّى سعى في الأرضِ ليفسدَ فيها ويهلكَ الحرثَ والنّسلَ واللهُ لا يحبُّ الفساد).

هذا الذي يقولهُ لنا رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عن فضيلةِ شعبانَ وفضيلةِ ليلةِ النّصفِ من شعبانَ يوضحُ لنا التّمازجَ والتّداخلَ بينَ تعاملِ الإنسانِ مع أخيهِ الإنسان، وبين الإقبالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ متبتّلاً، تبتّلكَ سبيلٌ إلى التّعاونِ الإنسانيِّ ما بينكَ وبينَ أخيك. صلاتُكَ ونُسُكُكَ وصيامكَ وحجُّكَ وزكاتُكْ، كلُّ ذلكَ غذاءٌ لتطهيرِ القلبِ من الشّوائبِ حتّى تستطيعَ أن تتعاملَ مع إخوانكَ معاملةً أخويّةً صافيةً عن كدوراتِ الأحقادِ والضّغائن. فلئن كانَ الإنسانُ متعبِّداً لربّهِ في الظّاهرِ ولكنَّ قلبَهُ مليءٌ بالأحقادِ على عبادِ الله، ماذا عسى أن تفيدَهُ عباداتُه؟ وماذا عسى أن يفيدَهُ نسكُه؟ ولذلكَ أعلنَ المصطفى عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ أنَّ الإنسانَ مهما بلغَ في عبادتهِ ومهما بلغَ في نُسُكهِ وصلاتهِ وصيامه، ومهما التقطَ الفرص، ومهما أقبلَ إلى اللهِ في مواسمِ العبادةِ كهذا الشّهرِ مثلاً أو كليلةِ النّصفِ من شعبانَ ولكنَّ قلبهُ كانَ منطوياً على بغضاء، كانَ منطوياً على حقد، كانَ منطوياً على أنانيّةٍ أو مكرٍ بعبادِ اللهِ عزَّ وجلَّ من إخوانهِ فإنَّ اللهَ لا يقبلُ صيامهُ ولا زكاته، ولا ينظرُ إليه، ولا يستجيبُ لهُ دعاءَه، ويؤخّرهُ ويجمّدُ دعواهُ إلى أن يصلحَ حاله، وإلى أن يعودَ إلى إخوانهِ الذينَ أساءَ إليهم للإصلاحِ والمسامحة. ذلكَ لأنَّ دينَ اللهِ عزَّ وجلَّ قائمٌ في كلِّ مبادئهِ الفكريّةِ الاعتقاديّةِ والسّلوكيّةِ العباديّةِ قائمٌ على الأسبابِ التي تصلحُ حالَ المسلمين وتجمعُ أمرهم وتلمُّ شعثهم وتزيلُ أسبابَ البغضاءِ وتذيبُها ممّا بينهم.

على هذا المحورِ يدورُ محورُ دينُ اللهِ عزَّ وجلّ. وأسألُ اللهَ سبحانهُ أن يجعلنا ممّن يتأمّلُ في كلامِ المصطفى ليصلَ إلى الشّغافِ الذي يقفُ عندهُ في بيانهِ ووصاياهُ وإرشاداتهِ لنا.

أمّا صيامُ يومِ النّصفِ من شعبان أيُّها الإخوةُ فلم نجد دليلاً خاصّاً على استحبابِ صيامِ هذا اليومِ بالذّات، نعم صيامهُ يدخلُ في عمومِ ما تحدَّثَ عنهُ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ من فضيلةِ صيامِ هذا الشّهرِ والإكثارِ من الصّومِ فيه. مع العلمِ بأنَّ الإنسانَ لا يجوزُ لهُ أن يبدأَ صياماً في هذا الشّهرِ بعدَ دخولِ النّصفِ الثّاني منه، فإن أرادَ فليبدأِ الصّيامَ قبلَ ذلك.

أسألُ اللهَ سبحانهُ وتعالى أن يجعلنا من عبادهِ المرحومينَ إذا استرحموا، وأن يجعلنا من عبادهِ المغفورينَ إذا استغفروا، وأن يجعلنا من المجابينَ إذا دعوا وطلبوا، أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيم...

تحميل



تشغيل

صوتي