مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 01/02/1991

لماذا لا ينصر الله عباده المؤمنين؟

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

إنَّ من شأنِ الفتنِ التي قد يبتلي اللهُ سبحانهُ وتعالى بها عباده أنّها تزيدُ المؤمنينَ باللهِ إيماناً، وتزيدُ التّائهينَ والضّالّينَ عن صراطِ اللهِ سبحانهُ وتعالى حيرةً وشروداً.

أمّا المؤمنونَ باللهِ عزَّ وجلّ، المطّلعونَ على سننِ اللهِ وقوانينهِ في عباده، فإنَّ الفتنَ مهما كَثُرت وادلهمّت لا تزيدهم إلا يقيناً باللهِ سبحانهُ وتعالى. بل إنَّ من شأنِها أن تضاعفَ إيمانهم. وأمّا أولئكَ التّائهونَ الذينَ لم يسبق لهم أنِ التفتوا إلى سننِ اللهِ في عباده، ولم يصغوا إلى قوانينهِ التي يأخذهم بها، فإنَّ هذهِ الفتنَ تزيدُهم ضلالاً كما قالَ اللهُ سبحانهُ وتعالى: (وما يُضِلُّ بهِ إلا الفاسقين).

للهِ سبحانهُ وتعالى سننٌ في عبادهِ لا يلحقُها خلف ولا يتسرّبُ إليها شذوذ. هذهِ الأرضُ للهِ سبحانهُ وتعالى، ولكن من الذي يرثُها؟ منِ الذي يهيمنُ عليها؟ يأتي البيانُ الإلهيُّ مجيباً ليقول: (ولقد كتبنا في الزّبورِ من بعدِ الذّكرِ أنَّ الأرضَ للهِ يرثُها عباديَ الصّالحونَ إنَّ في هذا لبلاغة لقومٍ عابدين). هكذا يقولُ اللهُ سبحانهُ وتعالى. ويقولُ أيضاً: (وقالَ الذينَ كفروا لرسلهم لنخرجنّكم من أرضنا أو لتعودنَّ في ملّتنا فأوحى إليهم ربّهم لنهلكنَّ الظّالمين ولنسكننّكمُ الأرضَ من بعدهم). ثمَّ قال: (ذلكَ لمن خافَ مقامي وخافَ وعيد * واستَفتَحُوا وخابَ كلُّ جبّارٍ عنيد).

هذهِ سننُ اللهِ في عباده، ولا يلحقُها خلف. انظروا ماذا يقولُ الله: (وقالَ الذينَ كفروا لرسلهم)، وقد استبدَّ بهمُ الطّغيانُ واستشرى الكِبر: (لنخرجنّكم من أرضِنا أو لتعودنَّ في ملّتنا). هكذا قالَ الذينَ كفروا لرسلهم ولمن اتّبعهم من المؤمنينَ والصّالحين. فماذا كانَ جوابُ اللهِ لهم؟ (فأوحى إليهُم ربّهم لنهلكنَّ الظّالمينَ ولنسكننّكمُ الأرضَ من بعدهم).

وهذا قانون، ولم يكن أمراً عشوائيّاً أو حدثاً عارضاً، ولذلك قالَ من بعد: (ذلك...)، أي هذا المنطقُ يتكرّرُ (لمن خافَ مقامي وخافَ وعيد). كلّما وُجِدَ أمامَ الظّالمين أناسٌ أو قومٌ أو أمّةٌ آمنوا باللهِ عزَّ وجلَّ وأحيَوا إيمانهم بالخوفِ من مقامِ اللهِ عزَّ وجلَّ، بالخوفِ من وقوفهم بينَ يديِ اللهِ سبحانهُ وتعالى، والخوفِ من وعيده. وضعوا ذلكَ كلّهُ من حياتِهم موضعَ الفاعليّةِ والتّنفيذ، قانونَ اللهِ الذي لا يتبدّل: أنّهُ يهلكُ الظّالمينَ الذينَ يجابهونهُم ويجعلُ الأرضَ ميراثاً لهؤلاءِ الذينَ يخافونَ مقام اللهِ ويخافونَ وعيده.

ولكن إذا لم يوجد أمامَ الظّالمينَ من يكونونَ على هذهِ الشّاكلة، فإنَّ اللهَ ليسَ من شأنهِ أن يهلكَ الظّالمينَ هكذا، لا بدَّ أن تبقى الحياةُ مستمرّةً إلى أن يأتيَ الميقاتُ المحدّدُ لإقامةِ السّاعة. لا بدَّ أن تسريَ الحياةُ على طبيعتِها، فإمّا أن تكونَ الأرضُ ميراثاً لهؤلاءِ الذينَ آمنوا وخافوا مقامَ اللهِ وخافوا وعيده. أو لا يوجدُ هؤلاءِ النّاس، فإنَّ اللهَ يسلّمُ الأرضَ عندئذٍ لأسوأِ عباده، هكذا يقولُ اللهُ سبحانهُ وتعالى.

والمؤمنونَ في الظّاهرِ والمسلمونَ في هذهِ الأيّامِ كثير، كثيرٌ جدّاً. ولو نظرَ الإنسانُ إليهم نظرةً سطحيّةً لعجبَ من سياسةِ اللهِ في عباده، ولربّما داخلهُ الرّيبُ وتساءل: لماذا يهملُ اللهُ عبادهُ المؤمنينَ هؤلاء؟ ولكن لو أنَّ هذا المتسائلَ المرتابَ تأمّلَ في دينِ اللهِ، ووقفَ عندَ بعضٍ من كلامِ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم، وأصغى إلى رسولِ اللهِ وهو يصفُ هؤلاءِ المؤمنينَ المسلمينَ الكُثُر في هذا الوقت، يصفهم بماذا؟ يصفهم بأنّهم غثاءٌ كغثاءِ السّيل. عندئذٍ نعلمُ السّرّ، وندركُ أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ لا يتعاملُ مع عبادهِ بالكمِّ العدديِّ ولكنّهُ يتعاملُ معهم بناءً على ما استقرَّ في قلوبهم من الإيمانِ الحقيقيِّ بالله. ثمَّ من هذينِ الأمرينِ اللَّذَينِ هما من صفةِ كلِّ مؤمن، ينظرُ إلى من خافَ مقامَ اللهِ سبحانهُ وتعالى غداً وخافَ وعيده. ليكونوا قلّة؛ ينصرُهمُ اللهُ سبحانهُ وتعالى ويعطيهم مقاليدَ الأمر، (وكم من فئةٍ قليلةٍ غلبت فئةً كثيرةً بإذنِ الله). ولكن ماذا تفيدُ الكثرةُ عندما تكونُ غثاءً كغثاءِ السّيل؟ ولعلّكم جميعاً وعيتُم أو سمعتم هذا الحديثَ النّبويَّ العظيم: (ستداعى عليكمُ الأممُ -من كلِّ فئة- كما تداعى الأكلةُ إلى قصعتها). قالوا: أمن قلّةٍ نحنُ يا رسولَ اللهِ يومئذٍ؟ قالَ: (بل أنتم كثير، ولكنّكم غثاءٌ كغثاءِ السّيل. وسينزعنَّ اللهُ الرّهبةَ منكم من قلوبِ أعدائكم. وسيقذفنَّ في قلوبكمُ الوهن). قالَ أحدهم: ما الوهنُ يا رسولَ الله؟ قالَ: (حبُّ الدّنيا وكراهيةُ الموت). حبُّ المال، حبُّ الشّهوات، حبُّ الزّينة، حبُّ الأهواء.

هذا الحبُّ إذا استولى على النفوسِ لا يعلمُ أصحابُ هذهِ النّفوسِ طريقاً يؤدّيهم للالتجاءِ إلى اللهِ عندَ الضَّرّاء، ولا يعلمونَ مهما ضاقت بهمُ المحنُ وتهدّدتهمُ الفتن، لا يعلمونَ سبيلاً للعودةِ إلى اللهِ والالتجاءِ إلى اللهِ سبحانهُ وتعالى. ذلكَ لأنَّ الشّهواتِ أسرت أفئدتهم، ولأنَّ حبَّ الدّنيا وحبَّ المالِ هيمنَ على مشاعرهم، إن ضافت بهم فتنة أو رأَوا أنفسهم أمامَ فتنة: التجؤوا إلى أميركا قبلَ الالتجاءِ إلى الله. والباري سبحانهُ وتعالى - مرّةً أخرى أقول -: لا ينظرُ إلى عبادهِ عدّاً، ولا يتعاملُ معهم على أساسٍ من الكمّ. ولكنّهُ يتعاملُ معهم على أساسٍ من الصّدقِ أو عدمِ الصّدق. والصّدقُ يظهرُ في القلب، ولهُ دلائل في الظاهر، لا بدَّ أن يمتحنَ اللهُ عباده.

انظروا، انظروا إلى طالوتَ الذي اختارهُ اللهُ سبحانهُ وتعالى قائداً ليقودَ أصحابهُ إلى قتالِ ذلكَ الطّاغية. كيفَ كانَ النّصر؟ وبما ابتلى اللهُ سبحانهُ وتعالى طالوتَ وقومه؟ (ولـمّا فصلَ طالوتُ بالجنود)، هكذا يقولُ اللهُ سبحانهُ وتعالى: (قالَ إنَّ اللهَ مبتليكم بنهرٍ فمن شربَ منهُ فليسَ منّي ومن لم يطعمهُ فإنّهُ منّي إلا من اغترفَ غرفةً بيدهِ فشربوا منهُ إلا قليلاً منهم). ابتلاهمُ اللهُ بشيء، قد يقولُ أحدُنا: ما سرُّ هذا الابتلاء؟ وما فائدته؟ أو ما الضّررُ فيه؟ ابتلاهمُ اللهُ بنهرٍ وهم على ظمأ، وجاءَ الأمرُ الإلهيُّ يقول: (فمن شربَ منهُ فليسَ منّي). ترى ماذا سيصنعُ الجند؟ الأمرُ ليسَ أمرَ شربٍ أو عدمَ شرب، إنّما الأمرُ عبارةٌ عن طواعيةٍ وخضوعٍ لأمرِ اللهِ أو عدمِ خضوعٍ لأمرِ الله. المسألةُ عبارةٌ عن استخراجِ هذهِ الحقيقةِ من القلب وإبرازِها أمراً واضحاً في السّلوك، (ذلكَ لمن خافَ مقامي وخافَ وعيد).

(فمن شربَ منهُ فليسَ منّي). ووصلوا إلى النّهر، فكانتِ النّتيجةُ انَّ أكثرهم شربَ منَ النّهر. لم يكن هنالكَ خوفٌ من مقامِ الله، ولا خوفٌ من وعيدِ الله. بقيت قلّةٌ لم تشرب، تلكَ القلّةُ هي التي اصطفاها الله، وهيَ التي كانت السّند، ومن ثمَّ قالَ اللهُ سبحانهُ وتعالى: (وكم من فئةٍ قليلةٍ غلبت فئةً كثيرةً بإذنِ الله واللهُ مع الصّابرين). كذا يقولُ اللهُ سبحانهُ وتعالى.

الباري عزَّ وجلَّ يمتحنُ عباده، وهوَ يعلمُ ما استقرَّ في بواطنهم وفي أفئدتهم. ولكنَّ اللهَ من شأنهِ أن يُظهرَ هذا الذي خفيَ في أفئدتهم ليكونَ واضحاً في علانيتهم، على هذهِ العلانيةِ يعاملهم إن بالنّصرِ وإن بأتونه. وإن كانت هذهِ هيَ سنّةُ اللهِ في عبادهِ فتعالوا فانظروا: هل استأهلنا النّصرَ حقيقةً؟ هل استأهلنا أن نكونَ ممّن قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ عنهم: (ولقد كتبنا في الزّبورِ من بعدِ الذّكرِ أنَّ الأرضَ للهِ يرثُها عباديَ الصّالحون). هل نحنُ من عبادهِ الصّالحين؟ هل لو كنّا ممّن ابتلاهمُ اللهُ بهذا النَّهَرِ ونحنُ على ظمأٍ لا نشربُ من هذا الماءِ ونؤثرُ الظّمأَ القتّالَ على الرّيِّ في هذهِ الحال؟ وشربُ الماءِ من المباحاتِ إذا كنّا نرتكبُ المحرّماتِ جهراً. وإذا كنّا نتعاملُ مع الخمرِ أكثرَ ممّا نتعاملُ مع الماء. في بعضِ بلادِنا العربيّة: الخمورُ منتشرةٌ في الأسواقِ والأماكنِ والشّوارعِ العامّةِ أكثرَ ممّا ينتشرُ الماء، ولعلّكم تعلمونَ البلدةَ التي أعني. ومنَ المحرّماتِ شهواتُنا الدّاعرة، أهواؤنا المستبدّة، ماذا أبقت من الفوارقِ بيننا وبينَ أميركا وأوروبّا؟

عاد الأمرُ سواءٌ بسواء، تحطّمت الحواجز، وهل الحواجزُ إلا البنيان؟ وهلِ الحواجزُ إلا تقوى اللهِ سبحانهُ وتعالى؟

في ليلةِ رأسِ السّنةِ الميلاديّة، أيُّ فرقٍ بقيَ بينَ بلدةٍ مسلمةٍ وبلدةٍ غيرِ مسلمةٍ؟ والمقياسُ هذا (الرّائي) الذي يراهُ كلٌّ منكم في داره. أنا أسألُ وعلى كلٍّ منّا أن يجيب: ماذا بقيَ من الفرقٍ في تلكَ الليلةِ بينَ شوارعِنا الإسلاميّةِ وأنديتنا وملاهينا، إن صحَّ أن نقول: الملاهي الإسلاميّة. وتلكَ الشّوارعِ والملاهي الأخرى؟ أيُّ فرقٍ بقي؟

في البلادِ التي طافت بها المحنُ وطافت بها هذهِ الفتنة، ماذا جرى في تلكَ الليلة؟ وهم بينَ شقّيِّ الموت، وهم في حالةٍ لا يعلمونَ مآلهم بعدَ أيّامٍ أو بعدَ ساعات. أينَ الالتجاءُ إلى اللهِ عندَ الشّدّة؟ أليسَ صواباً أن أقول: التجؤوا إلى أميركا قبلَ أن يلتجؤوا إلى الله؟

عدما نلتجئُ إلى اللهِ حقّاً، وعندما نكونُ ممّن قالَ اللهُ عنهم: (ذلكَ لمن خافَ مقامي وخافَ وعيد)، انظروا عندئذٍ إلى معجزاتِ النصر، انظروا إلى معجزاتِ التأييد، انظروا إلى الحضاراتِ السائدة كيفَ تنتهي وتذوبُ وتضمحلّ. وانظروا إلى سلطانِ اللهِ في عبادهِ المسلمينَ كيفَ ينتشرُ ويسود.

ولكن إذا كانَ جنودُ اللهِ قد خانوا اللهَ عزَّ وجلّ، إذا كانَ جنودُ اللهِ بالأمسِ قد أصبحوا جنودَ شياطينِ الإنسِ والجنِّ اليوم. من همُ الذينَ ينصرُهمُ اللهُ؟ عندئذٍ لا بدَّ أن يحيقَ بهم قولُ الله: (ولولا دفع اللهِ النّاسَ بعضُهم ببعضٍ لفسدتِ الأرض). لكلِّ حالٍ قانون، لكلِّ وضعٍ مبدأٌ وشِرعة.

أقولُ قولي هذا وأسألُ اللهَ سبحانهُ وتعالى أن يهديَنا سواءَ صراطهِ المستقيم، فاستغفروهُ يغفر لكم...

تحميل



تشغيل

صوتي