مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 30/11/1990

الإسلام ليس طقوس .. وإنما مسؤوليات تعتريها عقبات

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

إن في الناس من يتصورون أن التمسك بالإسلام ليس أكثر من الارتباط بجملة طقوس وعادات ما أيسر على النفس الإنسانية أن تتعود عليها وتتمرس بها، ويتصورون أن الإنسان إذا ركن إلى هذه العادات وعكف عليها وتعودت نفسه واستأنست نفسه إليها، فقد أصبح مسلماً حقا، وقد أدى ذمة الله سبحانه وتعالى في عنقه، كثيرون هم الذين يتصورون الإسلام بهذا المعنى، وهذا تصورٌ خطيرٌ جداً، هذا التصور يضع في أذهان هؤلاء الناس صورة معاكسة ومناقضة تماماً لدين الله عز وجل، أين هذا من قول الله سبحانه وتعالى: )مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ (، وأين هذا التصور من قوله سبحانه وتعالى: )الم # أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ # وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (، ولو كان الإسلام جملة طقوس وعادات يركن إليها الإنسان فيتعود عليها ويستأنس بها؛ إذاً لما سمى الله ممارسة المسلم لإسلامه جهاداً، ولما قال: )وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ ( ولما قال: )وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ( ولما قال: )تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ # الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا( انظروا إلى كلمة يبلوكم، والابتلاء أشد أنواع الافتتان والزج في سبل الجهاد.

أيها الأخوة إن الإسلام في حقيقته مسؤولية كبرى، مسؤولية يتحملها الإنسان عن نفسه، ومسؤولية يتحملها الإنسان عن خاصته، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن أهله وأولاده، ثم إنه مسؤولية يتحملها الإنسان جهد استطاعته عن مجتمعه، ذلكم باختصار هو الإسلام، ولأمر ما يضع الله عز وجل وهو الحكيم العليم العقبات في طريق من يريد أن يتحمل هذه المسؤوليات، يضع أمامه عقبات تصده عن تحمل مسؤوليات نفسه، ويضع أمامه عقبات شتى تصده عن تحمل مسؤوليات أهله وأولاده، ترى ماذا يصنع؟ أيؤثر الدعة والركون وعدم الالتفات إلى هذه التضاريس والعقبات، ثم يجلس هنالك آمناً مطمئناً يجتر بضع عادات وطقوس وشعاراتٍ وكلمات، ويسجل على نفسه أنه كاذبٌ في إيمانه وإسلامه، أم إنه يخترق هذه التضاريس والعقبات وإن أضرَّ ذلك بدنياه، وإن أضر ذلك بمصالحه التي تبدو أنها مصالح، وإن زجه في بعض ما يتصور أنه خسران! إن هو فعل ذلك فقد برهن على أنه صادق في إسلامه، وهو الذي يسمع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من أصلح دنياه أضرَّ بآخرته، ومن أصلح آخرته أضرَّ بدنياه، فآثروا الباقي على الفاني»، لو كان الإسلام منسجماً مع أهوائنا لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الكلام؛ ولذلك فإن أمامكم أيها الأخوة مقياس تمسكوا به وتعرفوا من خلاله على مدى صدقكم في التمسك بدين الله، كلما رأيتم أن الإسلام لا يُحَمِّلكم ثقلاً ولا يتعارض مع شيء من مصالحكم، وأنكم تمارسون إسلامكم بكل بساطة وبدون أي تبعات وأثقال؛ فاعلموا أنكم من الذين اتخذوا من الإسلام شعاراته وطقوسه وابتعدوا عن مسؤولياته وآصاره، أمَّا إن رأيتم أن تمسككم بالإسلام هذا يزجكم في مصاعب، ويضعكم أمام مشكلات، وأن هذه المشكلات تجعلكم تحارون في كيفية التوفيق، ثم إن هذه المواقف تزجكم إلى الوقوف في باب الله عز وجل متضرعين ومتوسلين؛ فاعلموا أنكم تسيرون في الطريق الإسلامي الصحيح الذي أمرَّ به الله عز وجل.

نحن مسلمون .. ولكن ماذا كلفنا إسلامنا أيها الأخوة؟ لم يكلفنا إسلامنا في أسواقنا شيئاً، إنما نمارس تجاراتنا كما نهوى ونشاء، وما من انحراف وانعطاف تقتضيه مصالحنا إلا ونحن ننعطف معها متأولين ومتناسين حكم الله وأوامره، لم يكلفنا إسلامنا في بيوتنا شيئاً، لم يكلفنا إسلامنا في مجال التربية لأولادنا وبناتنا شيئاً، كلما قامت معضلة، وكلما قام تشاكس وتعاكس بين التربية الإسلامية التي كلفك الله أن تسلك ببناتك في طريقها تأولت، وأطلت النظر، وتناسيت وتصورت أن الإسلام لا يكلفك من هذا شيئاً أو قلت أن الأمر خارج بيدي وليس طوع قدرتي وطاقتي، إن الإسلام لم يكلفنا شيئاً فيما يتعلق بصداقتنا وسهراتنا، وذهابنا وإيابنا، إسلامنا قراءات نقرأها، وركعات نركعها، وكلمات نرددها، وكل ذلك عادات تستمرءها النفس، كل إنسان تعود على شيء استأنس إليه، ليس الإسلام هذا، هذه بوابه الإسلام أما الإسلام فجهاد.

أين أنتم من قول الله عزوجل: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ( لماذا قرن الباري عز وجل أمره إياك تربية أبنائك وبناتك مع هذه الصورة المرعبة لناره التي تحطم الحجارة وتحرقها وتحيلها إلى الهشيم، فماذا تصنع يا ترى بجسم الإنسان؟ لماذا؟ لكي يحملك الله عز وجل خطورة هذه المسؤولية تجاه أولادك وبناتك، ولكنك تنسى جسامة هذا الخطر، وتنسى النهاية التي أنت على موعد معها يقيناً، تنسى ذلك كله، لماذا؟ لأن مشكلات عويصة تقف حاجز بينك وبين تربية بناتك، ما هي هذه المشكلات، ما هي؟ ليس ثمة عقبة ما تصدك عن أمر ربك أبداً، إن كنت عبداً لله فاعلم أن نفعك يأتي منه وأن ضررك إنما يأتي منه، وأن تقلبك إنما يكون في قبضته، وأن مبدأك من لدنه، ونهايتك إليه. فما خوفك من عباد الله بعد هذا، واعلم أن خوفك من الله يجعل الناس كلهم يخافون منك ويهابونك، ولكن خوفك من عباد الله يجعل هؤلاء الناس جميعاً يزدرونك ويحتقرونك، هل جربت؟ هل جربت أن تضع مخافة الله في قلبك بدلاً من مخافة أي كائنٍ سواه؟ ثم هل جربت إذا رأيت التعارض قد قام بين مصالحك الدنيوية وما كلفك الله به من تربية أهلك وبناتك ثم آثرت أمر الله على مصالحك، هل جربت ربك فرأيت أنه تخلى عنك؟ هل جربت ربك فرأيت أنه لم يخلق معجزات الحفاوةِ لك و الرعايةِ لك والانتصارِ لك؟ ولكن المسلم إذا هان على نفسه تركه الله للذل الماحق، وإذا كان الإنسان كريماً على نفسه، خطيراً عليه أمر ربه سبحانه وتعالى مليء القلب تعظيماً لمولاه وخالقه، أودع في قلوب الناس جميعاً تعظيمه وحبه، فليت أني وجدتُ مسلماً مارس دينه على هذه الشاكلة لأريكم كيف أن الكون كله يسجد له إن جاز التعبير.

ربَّ إنسان يقول: ولكني ضعيف لا أستطيع اختراق العقبات ولا أستطيع تجاوز التضاريس، أنا إنسان ضعيف شهواتي تتأجج، وأنا أقول: كلنا ذلك الرجل يا أخي، ومن منا ليس ضعيفاً؟ من منا لا تتأجج الشهوات بين جوانحه؟ من منا لا تهفو نفسه إلى الانحراف؟ إن كنت تتحدث عن الضعف، فليس هناك عبد من عباد الله عز وجل لا يتصف بمنتهى هذا الضعف حتى الرسل والأنبياء، ولكن مفتاح القوة هو الالتجاء إلى الله، هل التجأت إلى الله؟ هل شكوت ضعفك إلى ربك؟ هل أحسست بالمشكلة أولاً فشعرت أنك في موقف لا يرضى عنه ربك، فالتجأت إلى الله بذل وصغار وشكوت إليه أنك ضعيف وتشبثت بأذيال رحمته وبكيت على بابه، وقلت له: يا رب إنني أكره أن أعصيك وأحب أن أطيعك، لكني عبدك الضعيف الذي استرقته الشهوات والأهواء، فتداركني يا رب برحمتك، والله لئن فعلت هذا لتجدنَّ أن الله عز وجل قد أبدل ضعفك قوة، ألم يقل الله عز وجل: )وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ( هل في هذا من تناقض؟ لا تناقض، قال لك: )وَاصْبِرْ( ثم أجابك قبل أن تعترض. كيف أصبر يا رب أنا ضعيف أنا عاجز، دنياي هيمنت على كياني، الدعة تمنعني من النظر والمراقبة بشأن أهلي وأولادي، أنا ضعيف لا أستطيع أن أصبر، قبل أن تعترض وتناقش جاء الجواب يقول: )وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ( فإذا لم يكن صبرك إلا بالله فما السبيل لأن ينجدك الله بالصبر؟ التجئ إليه، ولكن المصيبة أننا لم نشعر بالمشكلة حتى نلتجئ إليه.

أرأيت إنساناً خسر تجارته ووقع في أشد المصائب الدنيوية، ودارت عليه ألوان من الشدائد الدنيوية ولم يستطع أن يجد حيلة للتخلص منها ماذا يصنع؟ يطرق أبواب المشايخ أشكالاً وألوانا، ويستجد بهم أن يعلموه دعاءً مستجاباً، ويوطنُ نفسه أن يسهر الليل كله ليسأل ربه أن يزيل عنه ضراءه، وأن يبدل له شدته رخاء، لماذا؟ لأنه شعر بمشكلة؛ ولأن هذه المشكلة أهمه أمرها، إنها الدنيا التي فاتته، فإذا وجدت أن مشكلةً قد أحدقت بديني، وهي توشك أن تبدل رضا الله عني غضبا، وأن لا أستطيع أن أحل أمر هذه المشكلة بيدي، فلماذا لا أستنجد كما استنجدت كما مضى؟ لماذا لا ألتجئ إلى الله لهذه المشكلة كما أتجه إليه لتلك؟ لماذا لا أقوم من الليل فأقول يا رب إنني أريد أن تحيى بناتي حياة إسلامية أينما ذهبن وحيثما وجدن، ولكني ضعيف لا أملك سبيل إلى تحقيق ذلك فاعني يا رب، ولقد قلت : )وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ( لماذا لا تقوم الليل وتستنجد بالله؟ إذاً لاستجاب لك؛ بل لقال لك: لبيك يا عبدي، ولكنا نتصور مشكلاتنا الدنيوية أكبر مما هي أضعافاً مضاعفة، وننقذف يميناً وشمالاً في سبيل من يحلها لنا، فإذا رأينا مشكلات دنيوية تطوف بنا، وإذا وجدنا أن الإسلام غريب في ديارنا، وإذا وجدنا أن مظهر الإسلام ممزقٌ مزدراً في أهلينا وأولادنا، لم نحرك ساكناً ولم نتألم حتى نلجأ إلى الله سبحانه وتعالى كما التجأنا إليه من قبل، تلك هي مصيبتنا التي أبدلت رخاءنا شدة، وتلك هي مصيبتنا التي جعلت سماءنا في هذا الشتاء مجدبة، وأرضنا قاحلة، ولا ندري ما الذي سيأتي به الغد .

تحميل



تشغيل

صوتي