مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 23/11/1990

الذين يزيدهم كتاب الله تعالى تيهاً وضلالاً

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عبادَ الله:

(نقص في أصل التسجيل) ... الذي يقبل على قراءةِ هذا الكتابِ العظيمِ بدافعٍ من أسبقيات أو دوافع سيّئة، فإنّهُ يجدُ في هذا الكتابِ بل في الآياتِ والنّصوصِ ذاتِها التي اهتدى بها ذلكَ الإنسانُ الأوّل، يجدُ هذا الثّاني في الآياتِ والنّصوصِ ذاتِها ما يزيدهُ تِيهاً، وما يزجّهُ في مزيدٍ من الضّلالِ والغواية، وما يزيدهُ على عماهُ عمىً كما قالَ اللهُ سبحانهُ وتعالى عنهُ وعن أمثالهِ: (وهوَ عليهم عمىً)، أي: والقرآنُ في الوقتِ الذي جعلَهُ اللهُ لأصحابِ الفكر الموضوعيِّ والـمُبَرَّئينَ منَ الأسبقيّاتِ والخلفيّاتِ الباطلة، في الوقتِ الذي جعلهُ اللهُ كتابَ هدايةٍ لهم جعلهُ أداة ليزيدُ عمى هؤلاءِ العُميان، ويزيدهُم إلى ضلالهم ضلالاً.

هذهِ الظّاهرةُ من أغربِ ما يمتازُ بهِ كتابُ اللهِ سبحانهُ وتعالى، ونحنُ نقرأُ هذهِ الحقيقةَ بل هذا المزيّةَ في كتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ ذاته، ألم تقرَؤوا قولهُ سبحانه: ((وننزِّلُ من القرآنِ ما هوَ شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنينَ ولا يزيدُ الظّالمينَ إلا خساراً))؟ وهذا شيءٌ عجيب؛ آياتٌ تزيدُ المؤمنينَ إيماناً، وتزيدهم طمأنينة، وتحيلُ مرضهم إلى شفاء، وتجعلُهم في حصنٍ حصينٍ ضدَّ كلِّ سوء. ولكنَّ هذهِ الآياتِ ذاتَها كما يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ لا تزيدُ الظّالمينَ إلّا خساراً.

أنا عندما أقرأُ بعضاً من آياتِ كتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ وأقفُ عندها بتدبُّرِ العاقل، بل بنظرةِ الإنسانِ الموضوعيّ دونَ انطلاقٍ من إيمانٍ كامل، ودونَ انطلاقٍ من تأثّرٍ أكرمنيَ اللهُ عزَّ وجلَّ بهِ من قبل، أجدُني أمامَ كلامٍ أخّاذ لا يمكنُ إلا أن ينتشلَ الإنسانَ من أوديةِ التّيهِ وضلالهِ مهما كانت سحيقة. وأقفُ وأعجب: كيفَ يمرُّ على هذا الكلامِ أناسٌ لا ينتشلهم من سوءِ حالهم، ولا يخلِّصهم من شُبُهاتهم وريَبهم، كيف؟ كيفَ يمرّونَ على هذهِ الآياتِ دونَ أن تهديَهم إلى سواءِ صراطِ الله؟ بل دونَ أن تملأَ قلوبَهم مخافةً من اللهِ سبحانهُ وتعالى؟ بل العجب: أنّها تفعلُ فيهم نقيضَ ذلك، تزيدُ ضلالهم ضلالاً، وتزيدُ عماهم كما قالَ اللهُ سبحانهُ وتعالى عمىً.

كنتُ أتلو السّاعةَ هذهِ الآياتِ في كتابِ اللهِ عزَّ وجلّ، ولكنّي كدتُ أن أُحبَسَ في هذهِ الآياتِ فلا أتجاوَزَها، كلامٌ عجيبٌ لا بدَّ أن يأخذَ بمجامعِ كلِّ ذي لب، ولا بدَّ أن تهيمنَ على كلِّ عقل، آياتٌ تمخر حجب السّنواتِ والأزمنةِ والشّهورِ وتنقلكم إلى عَرَصَاتِ القيامة وكأنّكَ ترى يومَ القيامةِ أمامكَ وقد أُزلِفَتِ الجنّةُ إليك، وقد زَفِرَتِ النّيرانُ زَفَراتِها، وربُّ العالمينَ بالمرصادِ يأخذُ بالنّواصي والأقدام. انظروا إلى هذهِ الآيات، هل من عاقلٍ لا يتأثّرُ بها؟ (ويومَ نسيِّرُ الجبالَ وترى الأرضَ بارزةً وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً * وعُرِضوا على ربِّكَ صفّاً لقد جئتمونا كما خلقناكم أوَّلَ مرّةٍ بل زعمتم ألَّن نجعلَ لكم موعداً * ووضع الكتاب فترى المجرمينَ مشفقينَ ممّا فيهِ ويقولونَ يا ويلتَنا مال هذا الكتابِ لا يغادرُ صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلمُ رَبُّكَ أحداً).

وانظروا بعدَ ذلكَ إلى هذا الكلامِ الذي يذيبُ الإنسانَ خجلاً منَ الله: (وإذ قلنا للملائكةِ اسجدوا لآدمَ فسجدوا إلا إبليسَ كانَ منَ الجِنِّ ففسقَ عن أمرِ ربّهِ أفتتّخذونهُ وذرّيّتهُ أولياءَ من دوني وهم لكم عدوٌّ بئسَ للظّالمينَ بَدَلاً)).

ما أتصوَّرُ أنَّ إنساناً يملكُ فقط عقلاً واعياً وقلباً إنسانيّاً نابضاً ويمرُّ على هذهِ الآياتِ إلا ويأخذُ بمجامعِ قلبهِ الخوفُ أوّلاً، ثمَّ إنَّ الحياءَ يذيبُ نفسهُ ثانياً، ربُّ العالمينَ سبحانهُ وتعالى يُكَرِّمُكَ يا ابنَ آدمَ ويأمرُ الملائكةَ بمن فيهم إبليسَ أن يسجدوا لكَ في شخصِ أبيكَ آدم، ولكنّهُ أبى واستكبرَ ونظرَ إليكَ نظرةَ عِداءٍ وربُّ العالمينَ يأمرُ هذا المخلوقَ أن ينظرَ إليكَ نظرةَ تقدير، وإذا بكَ أنت يا ابنَ آدم الذي كرَّمَكَ اللهُ هذا التّكريمَ وعاداكَ إبليسُ تلكَ المعاداةَ تتركُ موالاةَ ربِّ العالمينَ الذي كرَّمكَ وتؤثِرُ موالاةَ الشّيطانِ الذي عاداك، ويسألُكَ اللهُ سؤالاً مغموساً بكلِّ معاني اللطف، وبكلِّ معاني الرِّقَةِ النّابعةِ من نقد وعتابٍ رقيقين: ((أفتتّخذونهُ وذرّيتهُ أولياءَ من دوني وهم لكم عدوٌّ بئسَ للظّالمينَ بدلاً)). ولكنَّ في النّاسِ من يقرأُ هذا الكلامَ وغيرَ هذا الكلامِ ممّا يهزُّ الأفئدةَ والقلوب، وممّا يملأُ طوايا العقولِ شعاعاً وإيماناً بالحقيقةِ فلا يزدادُ – ويا للعجبِ - بقراءَتهِ لهذا الكلامِ إلا ريباً، ولا يزدادُ من خلالِ تأمّلهِ في هذهِ الآياتِ إلا تطوُّحاً، لماذا؟ هل كانَ اللهُ عزَّ وجلَّ في لحظةٍ منَ اللحظاتِ ظالماً؟ هل كانَ اللهُ عزَّ وجلَّ في لحظةٍ منَ اللحظاتِ ينظرُ نظرةً متحيّزةً إلى عباده؟ معاذَ الله، اللهُ سبحانهُ وتعالى أعدلُ العادلين، واللهُ سبحانهُ وتعالى هوَ الذي أعلنَ أنّهُ يكرهُ الظُّلمَ ونهانا عن أن نتظالم: "إنّي حرّمتُ الظّلمَ على نفسي وجعلتهُ بينكم محرّماً فلا تَظَالموا"، معاذَ اللهِ أن يكونَ الأمرُ كذلك. إذاً لماذا؟

عاقلانِ يقرأُ كلٌّ منها نصوصاً ذاتيّةً معيّنةً في كتابِ اللهِ عزَّ وجلّ، هذهِ النّصوصُ تزيدُ الأوَّلَ إيماناً وهيَ ذاتُها تزيدُ الثّانيَ فجوراً وضلالاً، السّبب: أنَّ الأوَّلَ عندما أقبلَ إلى هذا الكلامِ أقبلَ ليتدبَّرَه، فقد وضعَ عقلهُ الصّافي عن الخلفيّاتِ والشّوائبِ والأسبقيّاتِ تماماً، إلى أيِّ نهايةٍ أوصلتهُ هذهِ النّهاياتُ وصلَ. وهذا هوَ عربونُ هدايةِ اللهِ عزَّ وجلَّ لهذا الإنسان. أمّا الثّاني فهوَ لم يقبل إلى هذا الكتابِ إلا وملأَ عقلهُ وقلبهُ نيّاتٍ فاسدةً قذرة، لم يعكف على هذا الكتابِ إلا من أجلِ أن يخدِمَ أعداءَ اللهِ سبحانهُ وتعالى بدءاً من إبليسَ الذي استكبرَ على اللهِ عزَّ وجلَّ وأعلنَ عِداءهُ لهذا الإنسانِ إلى جميعِ شياطينِ الأرضِ من مشارقِ الأرضِ ومغاربِها، هذا الإنسانُ عندما يقبِلُ على كتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ يتفحّصُهُ أو يقرَؤهُ أو يكتبُ عنهُ فإنّهُ لم يَضَع نُصبَ عينيهِ أن يعلمَ جليَّ الأمور، وأن يُدرِكَ حقائِقها، ثم يسيرَ وراءَ هذهِ الحقائقِ ليتمسَّكَ بها أيّاً كانت، وإنّما ينطلقُ إلى ذلكَ من معاقدةٍ واتّفاقٍ وفيّينِ بينهُ وبينَ أعداءِ اللهِ سبحانهُ وتعالى، هذا الإنسان لو رأى في كتابِ اللهِ سبحانهُ وتعالى أعظمَ معجزةٍ خارقةٍ تنخرُ الألبابَ وتنخرُ العقولَ لا يمكنُ أن يهديهُ اللهُ عزَّ وجلَّ بها أبداً. وكيفَ يهديهِ ولماذا يهديهِ وإنَّ دافعَ السّوءِ هو الذي حرّكه؟ وإنَّ دافعَ التّدجيلِ هوَ الذي سيّره؟ واللهُ يعلمُ خفيّاتِ القلوبِ ويطّلعُ على طوايا القلوب.

ألم يقلِ اللهُ سبحانهُ وتعالى: ((سأصرفُ عن آياتيَ الذينَ يتكبّرونَ في الأرضِ بغيرِ الحقّ وإن يروا كلَّ آيةٍ لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيلَ الرّشدِ لا يتّخذوهُ سبيلاً وإن يروا سبيلَ الغيِّ يتّخذوهُ سبيلاً ذلك بأنّهم كذّبوا بآياتِنا وكانوا عنها غافلين)). والتّكذيب: أن يعلمَ الإنسانُ حقيقةَ شيءٍ ثمَّ يتغاضى عنهُ ابتعاداً وتكلّفاً. هذا هوَ قرارُ اللهُ عزَّ وجلّ، وهذا هوَ حكمه.

عجبتُ لإنسانٍ يقرأُ كتابَ اللهِ سبحانهُ وتعالى وقدِ امتلأَ ذهنهُ يقيناً بأنَّ الإنسانَ تطوَّرَ كما قالَ مثلاً داروين أو من قبله أو من بعده، وقد امتلأَ عقلهُ ويقينهُ بأنَّ الإنسانَ خُلِقَ وتطوَّرَ بشكلِ كذا، وعلى النّحوِ الفلانيّ، وبدافعٍ من كذا، كأنّهُ كانَ يشهدُ عصورَ التّطوُّرِ الإنسانيِّ حِقبةً إثر حِقبةٍ إِثرَ حِقبة، عجبتُ لهذا الإنسانِ الذي ملأ عقلهُ بهذهِ العفونات، ثمَّ وقفَ أمامَ قولِ اللهِ عزَّ وجلّ: ((ما أشهدتهم خلقَ السّماواتِ والأرضِ ولا خلقَ أنفسهم وما كنتُ متّخذَ المضلّينَ عضُداً)). كيفَ يقرأُ هذا الكلامَ العجيبَ ثمَّ لا يهتزُّ العقلُ منهُ لتتساقطَ هذهِ العفوناتُ كلُّها؟ وليعانقَ هذا الكلام؟ وليعقِدَ الصُّلحَ معَ اللهِ عزَّ وجلّ؟ وليقولَ: نعم، لقد بَرِئتُ يا ربِّ من كلِّ هذهِ التّقوُّلاتِ الكاذبةِ الفاجرةِ وآمنتُ بالحقِّ الذي لا يأتيهِ الباطلُ من بينِ يديهِ ولا من خلفه. مَن هذا الذي رحلَ إلى أقصى الدّنيا قديماً فرأى كيفَ خُلِقَ الإنسانُ ورأى في أيِّ مصنعٍ تمَّ تصنيعُه؟ مَن هذا الذي استوفدَهُ اللهُ ليأتيَ شريكاً معَ اللهِ في خلقه؟ هل رأيتم أعجبَ من هذا الكلامِ الذي يردُّ على هؤلاءِ المفتَئِتينَ على اللهِ: ((ما أشهدتهم خلقَ السّماواتِ والأرضِ ولا خلقَ أنفسهم وما كنتُ متَّخِذَ المضلّينَ عضُداً)).

لكن ها هم أولاءِ يقرؤونَ هذا الكلامَ أو يسمعونه، تمرُّ هذهِ الآياتُ على عقولهم مرَّ الغاشيةِ على العقلِ فلا يزيدُ العقلَ إلا الخَدَر، ولا يزيدهم إلا تطوُّحاً وخبالاً كما قالَ اللهُ سبحانهُ وتعالى.

تلكَ أعجوبةٌ من أبرزِ أعاجيبِ هذا الكتابِ العظيم، كلُّ ما نبغيهِ بعدَ العبرةِ التي ينبغي أن نأخذَها أن نلتَجِئَ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ أن يجعلَنا من الفريقِ الأوّلِ لا منَ الفريقِ الثّاني، أن يجعلَنا ممّن يتدبّرُ كتابَ اللهِ ليعلمَ من وراءِ ذلكَ الحقيقةَ فيتمسّكَ بها ولا يتركها. أسألُ اللهَ عزَّ وجلَّ أن يجعلَنا جميعاً ممّن يتدبّرونَ كتابَ اللهِ ثمَّ يصلونَ إلى القصود العاليةِ من هذا الكتاب.

أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيم...

ملاحظة: نعتذر لوجود نقص في بداية الخطبة كما وردنا في الأصل.

تحميل



تشغيل

صوتي