مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 05/10/1990

النبي عليه الصلاة والسلام يتحدث عن واقعنا اليوم

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

حديث صحيح معروف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكاد يبارح مخيلتي في هذه الأيام بأي مناسبة من المناسبات، ولا شك أن لذلك لَحكمة، هذا الحديث هو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي من خوارق النبوة التي أكرمه الله عزَّ وجل بها، وجعله يطل من خلالها على غيب مجهول: «تداعى إليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا أمن قلة يا رسول الله يومئذ، قال: بل أنتم كثير، لكنكم غثاء كغثاء السيل، وسيقذفن الله سبحانه وتعالى في قلوبكم الوهن، قالوا: ما الوهن يا رسول الله ؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت»

هذا الحديث كما قلت لكم لا يبارح مخيلتي، أكاد أقول في ليل أو نهار، وأنظر إلى الدنيا التي من حولنا، وإذا بهذا الحديث قد فُصّل كالثوب الذي فصّله خياط ماهر على قدر صاحبه، «تتداعى عليكم الأمم»، ستنهال عليكم من كل جانب، ومن كل حدب وصوب، طامعين فيكم، يسيل لعابهم على ثرواتكم، على أموالكم، على كل ما أكرمكم الله سبحانه وتعالى به، يُحْدِقون بكم كما يُحْدقُ الآكلون الجائعون على قصعة طعام، وهل هنالك تشبيه لواقعنا أدق من هذا التشبيه؟ وهل هنالك تجسيد للمعنى الذي يعيشه المسلمون اليوم أدق وأعجب من هذا التجسيد؟ ولقد عجب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا فرق ما بينهم وبيننا، إنهم ينظرون إلى الدنيا من خلال بشريتهم، ومن خلال تحرك أفكارهم الإنسانية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى مقبلات الأيام من خلال ما يريه الله عزَّ وجل إياه، من خلال ما يقفز فوق التصورات العقلية، ويقفز فوق القوانين البشرية الخاضعة للعادة والنواميس المعروفة، ولذلك قالوا متعجبين: «أمن قلة نحن يا رسول الله يومئذ؟»، لم يكون هذا فيما نعلم من أسباب إلا لأن المسلمين قلة، قال عليه الصلاة والسلام: «بل أنتم كثير»، وهذا الأمر العجيب أنتم كثير، أنتم تزيدون آن ذلك على المليار، والمليار ليس بقليل يا عباد الله، «بل أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، وسينزعنَّ الله الرهبة منكم من قلوب أعدائكم، وسيقذفنَّ في قلوبكم الوهن»، ولما سألوه عن الوهن أجابهم قائلاً: حب الدنيا وكراهية الموت.

هذا هو واقعنا اليوم المسلمون كثيرٌ وكثيرٌ جداً، ولو كانت القوة بالعدد لاكتسح هذا العدد شرق العالم وغربه، ولكن الأمر ليس بالكم، ولكن الأمر خاضعٌ لحقيقةٍ جذريةٍ تتجاوز الكم والكيف المعروفين في مقياس الفكر البشري؛ بل أنتم كثير ولكنكم غثاء، هذا حالنا اليوم، المسلمون غثاء كغثاء السيل وأبحث في ذهني ومخيلتي عن أي مثال آخر أبلغ مما وصف رسول الله فلا أجد، أرأيتم إلى الغثاء، تلك الفقاقيع الرابية المتعالية عندما ينحط السيل في وادٍ كثيرِ الحجارة وكثير التضاريس، أرأيتم إلى هذه الفقاقيع كيف تربو وكيف تصَّاعد حتى إن الناظر إليها يُخيل أنه طوفان جارف، ولكن ما هي إلا لمسة من يد لهذه الفقاقيع حتى تهمد وتنتهي وتذوب، وإذا بهذا الطوفان لا شيء، هكذا وصفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء أسوار الأجيال والقرون، هكذا وصف مليار من المسلمين أو يزيد، بأنهم كغثاء السيل، والمهم الذي يشغل بالي هو التساؤل: لماذا كان المسلمون رغم قلتهم يخيفون أعداء الله عزَّ وجل وتفيض الرهبة منهم في قلوب الآخرين، بينما لا تغني كثرتهم اليوم عنهم، ما الذي جعلهم بالأمس - وهم قلة - أقوياء في قلوب أعدائهم، وما الذي جعلهم اليوم - وهم كثرة - كغثاء السيل كما قال رسول الله؟

إن لكل شيء سبباً، ولابد أن لهذه الظاهرة سبباً، وليت أن المسلمين وقفوا من هذا الحديث أمام هذه المفارقة ليعلموا ما هو السبب؟ ما المنعطف الذي فصل المسلمين بين واقعين متناقضين؟

هذا المنعطف أيها السادة إنما هو حقيقة واحدة لا ثاني لها، كان إسلام المسلمين القلة في الأرض قائماً على جذور العبودية الواجبة الصادقة لله عزَّ وجل، كانت أنظمة الإسلام، وكانت تحركات المسلمين، وكانت العلوم الإسلامية، كل ذلك كانت أفكاراً تربوا على جذعٍ من العبودية الواجبة لله عزَّ وجل، وكان جذع هذه العبودية ملئ قلوب أولئك المسلمين، ومن ثمَّ فقد انعكست حقائق هذه العبودية رهبة إلى قلوب أعدائهم، وإذا تجلى الله سبحانه وتعالى على عباده بالصفة التي يشاء انعكست هذه الصفة على الآخرين كما يشاء الله عزَّ وجل ويريد، ولهذا مقياس ينأى عن مقاييس الأغبياء الذين سجنوا أنفسهم في موازين من الحركات المادية التي لا تزيد على حلقة خاتم في بيداء الله الواسعة وفي كونه الفسيح الأرجاء.

أما اليوم فإسلامنا عبارة عن أغصان من العلوم، أجل من العلوم، ومن الأنظمة، ومن الأقاويل، ومن الادعاءات ومن الحركات، ولكن هذه الأغصان لا تتصل بجذور من العبودية قط، القلوب فارغة من حقائق العبودية لله، القلوب خامدة، النار التي كانت تتقد فيها بالأمس نار الهيبة من الله، نار التعظيم لله، نار المخافة من الله، نار التوحيد لله سبحانه وتعالى، هذه النيران خمدت وآلت بالقلوب إلى حفنة رماد، ريح تأتي بها وريح تأخذ، ماذا بقي من إسلامنا اليوم؟ بقي من إسلامنا مظاهر، إن تركت تلك الجذور فإن هذه المظاهر ليست سوى قشور، قشور من الكلمات، قشور من الأحاديث المدبجة المجملة المنسقة، مظاهر من العلوم والكلمات والحركات، والذهاب من هنا إلى هناك، أشياء تخدع، وتصورات تجعل الإنسان الساذج يتصور أن بيننا وبين أن نعود إلى أمجادنا السابقة شروى نقير، ولكن الأمر ليس كذلك، نحن في هذا كمن يراوح في مكانه ؛ بل ليت أننا نراوح في أمكنتنا، نحن نعود القهقرى في الوقت الذي نتمشدق فيه بشعارات الإسلام نتكلم فيه بألفاظ الإسلام، نتحدث عن أحكام الحلال والحرام و حقيقةٌ قدسية بَدَهية لا ريب فيها إذا انبثت حقائق العبودية من علوم الإسلام، آلت هذه العلوم إلى ما يشبه جسداً لا روح فيه، آلت هذه العلوم إلى تمثال لا حراك فيه، فماذا عسى أن تفيدنا هذه العلوم التي تحولت من حياتنا الإسلامية إلى مجرد تماثيل، أين نحن أيها الأخوة من حقائق الإيمان بالله؟ من حقائق اليقين بأن كل شيء بيد الله عزَّ وجل؟ أين نحن من قول الله عزَّ وجل: )وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ(، لا تحدثني عن العلوم التي تزخر بها المكتبات، لكن حدثني عن القلوب التي تحتضن الإيمان الحقيقي بهذا القرار الرباني ،)وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ(، ما من ضر يصيب المسلمين إلا وأصابهم بسوء بدر منهم ،) وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ(، أين هي القلوب التي تحتضن الإيمان بهذه الحقيقة إيمان اصطباغ إيمان نبضات حية حتى تكون تحركاتهم نابعة من يقينهم هذا؟! هل هم فعلاً يؤمنون أن كل حركة تتم في مجتمعاتهم إنما تأتيهم من قبل الله عزَّ وجل الله بتخطيط دقيق مباشر؟ هل هناك من يثق وثوقاً تاماً، بأنه ما من نكبة تنزل بالمسلمين إلا ووراء تلك النكبة سبب اقتضاهم أن يكون أهلاً لاستقبالها؟ من ذا الذي يؤمن اليوم بهذه الحقيقة إيماناً حقيقياً؟ كثيراً ما يقول لي بعض الإخوة إن على سبيل الاستكبار أو سبيل التعجب: (نراك تكرر في كل وقت الحديث عن العبودية لله، وتذكر الناس بالعبودية لله، وتعيد كل أمر إلى العبودية لله، وتعيد كل مشكلة إلى افتقادنا لمعنى العبودية لله)، ولكن ماذا أصنع وتلك هي الحقيقة؟ ماذا أصنع إن كان افتقارنا اليوم افتقاراً إلى شيء واحد هو هذه العبودية الواجبة لله عزَّ وجل، ولكن الشيء الذي يؤسف أكثر من افتقارنا إلى هذه العبودية أننا عندما نتكلم عنها لا ندرك حقيقتها.

كثيرون هم الذين يتصورون أن العبودية أن يطأطئ الإنسان رأسه، وأن يتحلى بمظهر من الذل في طريقه وهو يمشي، أو أن يحمل سُبحة يجلس معها إلى القبلة يذكر الله سبحانه وتعالى متبذلاً، ليست هذه هي العبودية، العبودية مكانها في القلب، ولا مكان لها على الظواهر والجسد أبداً، العبودية إشعار الفؤاد أن صاحب هذا الفؤاد مملوك من فرقه إلى قدمه لله، العبودية استشعار الإنسان أن هذا الكون كله بيد خالقه، ولئن رأى أنه يتحرك بيد أناسيّ، فهو يعلم علماً يقينياً أن كل هؤلاء الذين يتحركون أو يحركون جنود لله عزَّ وجل )وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (، العبودية لله عزَّ وجل أن يرى الإنسان إلى أحداث الدنيا بعينه وعقله منصرفٌ إلى من يحرك هذه الأحداث بمقدار ما تريه عيناه أحداث الدنيا والأشخاص الذاهبين والآيبين بها، يرى قلبُه رب العالمين سبحانه وتعالى وهو يحرك هؤلاء وهؤلاء، العبودية لله عزَّ وجل أن يتحرك الإنسان تحت سلطان يقينه، لا يأتيه ريب من بين يديه ولا من خلفه، أن الضار هو الله، وأن النافع هو الله، وأن المحيي هو الله، وأن المميت هو الله، أن المعزَّ بعد ذل هو الله، وأن المذلَّ بعد عز هو الله، من ثم فهو إذا سمع نداء الله عزَّ وجل يقول )فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ( هرع قائلاً: (لبيك اللهم لبيك)، أين هم الذين يصطبغون بهذه العبودية ممن يتكلمون في الإسلام؟ ممن يتحدثون عن أحكام الإسلام؟ ممن يذهبون ويعودون ويحركون نشاطاً تحت مظلة الإسلام، كل هذا لا يجدي، إنما الذي يجدي ينبوعٌ ثرٌ ينبغي أن يتفجر من سويداء القلب، هذا الينبوع هو ما نبتغيه، ومن ثم آلت كثرتنا إلى قلة، وآل غنانا إلى فقر، وآل عزنا إلى ذل، وحق فينا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل أنتم كثير، لكنكم غثاء كغثاء السيل .. وسينزعن الله الرهبة منكم من قلوب أعدائكم، - وقد نزعت - وسيقذفن الله سبحانه وتعالى في قلوبكم الوهن – وقد قذف-، ولما سئل عن الوهن قال: حب الدنيا وكراهية الموت»

اللهم اجعل مصيبتنا هذه عبرة حتى تتحول النِقمة إلى نعمة، ورُبَّ إنسان أمكنه أن يقلب النِقمة إلى نعمة إن هو استفاد منها، وإن هو أخذ العبرة، وإن هو أخذ الدرس واصطلح من وراء ذلك مع الله .

تحميل



تشغيل

صوتي