مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 14/09/1990

الإمام الشهيد متحدثاً عن مصيبتا اليوم

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

إنَّ مصائبَ المسلمينَ اليومَ كثيرة، وقد تكاثرت النبال على الإسلامِ والمسلمينَ من كلِّ حدبٍ وصوب. ولكنَّ هنالكَ مصيبةً أفدحُ من سائرِ المصائب، وأبعدُ تأثيراً من سائرِ الفتن. هذه المصيبة: هي ما انتهى إليهِ الإسلامُ على ألسنةِ كثيرٍ من المسلمين. لقد انتهى الإسلام على ألسنةِ كثيرٍ من المسلمينَ وعلمائهم ودُعاتهم إلى ما يشبهُ منبراً يستعملهُ صاحبُ كلِّ منهج، وصاحبُ كلِّ رأي. لقد تحوّلَ الإسلامُ بفعلِ كثيرٍ من المسلمين إلى ذيلٍ من الذّيولِ يمكنُ أن يكونَ خادماً لأيِّ اتّجاه، ويمكنُ أن يكونَ خادماً لأيِّ رأيٍ من الآراءِ بل ربّما لأيِّ محنةٍ من المِحن. والمصيبةُ الفادحة، والمصيبةُ الكبرى من وراءِ ذلك: هي أنَّ عوامَّ المسلمين الذينَ لم يُتَح لهم أن يتزوّدوا بزادٍ عميقٍ من الثّقافةِ الإسلاميّة، يلتفتونَ إلى الإسلامِ عن يمينٍ ويلتفتونَ إلى الإسلام الذي يُدَّعى أنّهُ إسلامٌ عن شمائلهم، ويلتفتونَ إلى ما يُعَدُّ أنّهُ طوق الإسلامِ من أمامِهم أو من ورائهم. وإذا بهذا الإسلامِ آراءٌ متناقضة، وإذا بهِ مجموعةُ فتاوى متعارضة. وإذا بالإسلامِ أشبهُ ما يكونُ بوعاء، يَصلُحُ أن يُملَأَ بأيِّ شيء، من أيِّ صنف، ومن أيِّ نوع. هؤلاءِ العوام كيفَ يفهمونَ الإسلام؟ وبأيِّ حصيلةٍ يرجعونَ من هذه الصّورِ المتناقضةِ المتعارضةِ التي تسمّى جميعاً إسلاماً؟

لَئِنِ استخفَّ هؤلاءِ النّاسُ العوامُّ بالإسلامِ فلا عجب، بل لَئِنِ اشمأزُّوا منهُ فلا عجب، إذا تصوّروا أنَّ هذا هو الإسلام. الإسلامُ صوت يمكنُ أن تملأهُ بأيِّ لغة، وهو لغةٌ يمكنُ أن تملئها بأيِّ اتجاه وبأيِّ رأيٍ وبأيِّ مذهبٍ من المذاهب. وهكذا تتبخّرُ حقيقةُ الإسلامِ في أذهانِ كثيرٍ من المسلمين، ويرجعونَ بصورةٍ مزيّفةٍ مشوّهةٍ عن دينِ اللهِ سبحانهُ وتعالى، وإذا آلَ اختلافُ المسلمينَ إلى أن يختلفَ إسلامهم، وإذا آلَ تمزّقُ المسلمينَ إلى أن يمزّقوا فيما بينهم أيضاً إسلامهم، تحدّثْ عن هذه المصيبةِ ولا حرج.

أن يتمزّقَ المسلمون، يمكنُ هذا .. ولكنَّ الإسلامَ يعيدهم في يومٍ ما إلى الوفاقِ والوئام. ولكن إذا أبى المسلمونَ إلا أن ينقلوا تمزّقهم إلى الإسلامِ، فيمزّقوا الإسلامَ أيضاً ويجعلوهُ قطعاً ومزقاً متعارضةً متخاصمة، فأيُّ رأسِ مالٍ بقيَ للمسلمين حتّى يمكنُ أن يعودوا إليهِ فيعيدَهم يوماً ما إلى سابقِ عزهم وإلى سابقِ وحدتهم وتضامنهم.

إنّنا لنذكرُ أنَّ كلمةَ (الفتوى) كانت في يومٍ ما من أرهبِ الكلماتِ التي تطرقُ الآذان، إذا قيلَ: هذهِ الفتوى، أو إذا قيلَ لعالمٍ من العلماءِ: أعطِنا الفتوى في هذا الأمر. ارتعدت فرائصُه، ونظرَ إلى الكلمةِ وماذا تعني الكلمة؟ تعني: أن ينطقَ باسمِ الله، وأن يتكلَّمَ عن الله، وأن يحدّثَ النّاسَ عن حكمِ اللهِ سبحانهُ وتعالى.

إننا لنذكرُ يوماً كانَ المسلمونَ ينظرونَ فيهِ إلى هذهِ الكلمةِ على أنّها أخطرُ ما يمكنُ أن يخرجَ من الفم، وأرهبُ ما يمكنُ أن يدخلَ في القلب، وأخوفُ ما يمكنُ أن يسريَ في النّفسِ والأعضاءِ والجوارح، ذلكَ لأنَّ المفتي إنّما يتكلّمُ كما قلتُ لكم باسمِ اللهِ وعنِ الله.

ولقد عرفَ التّاريخُ هذا النوع من سائرِ أئمّتِنا الأعلام، ولقد جاءَ رجلٌ من أقصى المغربِ في يومٍ ما يحملُ رسالةً إلى إمامِ دارِ الهجرةِ، إلى الإمامِ مالكٍ رحمهُ اللهُ تعالى ورضيَ اللهُ عنه. ونثرَ رسالتهُ بينَ يديه، وإذا فيها ما يقاربُ أربعينَ سؤالاً أجابَ على النّذرِ اليسيرِ منها، ثمَّ قالَ في حقِّ سائرِ الأجوبةِ الأخرى -وهي تزيدُ على الثّلاثين-، قالَ لهُ: لا أدري. قالَ صاحبُ الرّسالة: لقد أُرسِلتُ إليكَ من أقصى المغرب، وجئت إليكَ خلالَ أشهر، فماذا أقولُ لمن أرسلوني إذا عدت؟ قالَ لهُ الإمامُ مالك: قل لهم: يقولُ لكم مالك: إنّهُ لا يدري. هذا دين، مالكٌ عندما يريدُ أن يفتي إنّما ينطقُ باسمِ الله، إنّما يتكلّمُ عن الله. وأيُّ أرضٍ تقله؟ وأيُّ سماءٍ تظله إن هو لغا في دين الله؟ وإن هو تكلَّمَ بما لا يرضي اللهَ سبحانهُ وتعالى؟

وكما قلتُ لكم، فإنَّ مردَّ هذهِ المصيبةِ إلى ماذا؟ إلى صورةِ الإسلامِ في أذهانِ عامّةِ المسلمين، بل إلى صورةِ الإسلامِ في أذهانِ كثيرٍ من الفسقة والضالين والتّائهين. مطلوبٌ منّي أن أفتحَ السُّبُلَ أمامَ التّائهينَ والضالين والفسقة لكي يتفهّموا الإسلامَ ولكي ينجذبوا حبّاً إلى دينِ اللهِ سبحانهُ وتعالى. ولكنَّ اتّخاذَ الإسلامِ لغةً لكلِّ صاحبِ رأي، وأداةً لكلَّ من يريدُ أن يحصِّنَ رأيَهُ بحجّة، يجعلُ الإسلامَ بعيداً عن هؤلاءِ النّاس، يجعلُني أحجبُ هؤلاءِ النّاسَ عن الإسلام. وكم من هؤلاءِ الإخوةُ الفسقة الضّالّونَ التّائهونَ عن الإسلامِ والذينَ لم يُتَح لهم أن يفهموه، عندما يفتحونَ آذانَهم ليسمعوا فتوىً إسلاميّةً من هنا، وفتوىً إسلاميّةً من هناك، وفتوىً إسلاميّةً من هناك، كلُّها متعارضة، والكلُّ يتعلّقُ بموضوعٍ واحد. هذا الإنسانُ الضّائعُ التّائهُ الذي يُطلبُ منّي أن أهديهُ إلى صراطِ اللهِ وأن أحبِّبَ إليهِ الإسلام، إلامَ آلَ حالهُ؟ لقد انصرفَ عن الإسلامِ انصرافاً كلياً، وأدارَ إليهِ ظهرهُ فقد اشمأزَّ منه، وتصوَّرَ أنَّ الإسلامَ مجموعةُ آراءٍ ابتدعَها شيوخ الإسلام، ابتدعوها كما شاؤوا، أو ابتدعوا كما شاءها لهم رؤساؤُهم وكبراؤهم.

ولكن هل وقفتم عندَ قولهِ سبحانهُ وتعالى وهوَ يصوّرُ وقفةَ هؤلاءِ الذينَ يمزّقونَ الإسلامَ بألسنتهم أيّما تمزيق، عندما يقفونَ بينَ يديِ اللهِ ويحاسبُهُمُ اللهُ على هذا العمل، ماذا يقولون؟ (ربّنا إنّنا أطعنا سادتنا وكُبَرَاءَنا فأضلّونا السّبيلَ ربّنا آتهم ضعفينِ من العذابِ والعنهم لعناً كبيراً). هكذا يقولون، ولكنَّ لعنةَ اللهِ تحيقُ بالتّابعِ والمتبوعِ معاً. ولكنَّ لعنةَ اللهِ تحيقُ بالطّرفينِ معاً. ذلكَ لأنَّ أولئك، لن يهمّهم من الإسلامِ إلا أن يتّخذوهُ مطية لأهوائهم، وهؤلاءِ لن يهمّهم من الإسلامِ إلا أن يتقرّبوا بواسطتهِ إلى رؤسائهم وكبرائهم. أمّا سلطانُ اللهِ سبحانهُ وتعالى فلم يلتفت إليهِ لا هؤلاءِ ولا أولئك.

إنّها مصيبةٌ كبرى أيّها الإخوة، أن نلقيَ بآذاننا إلى من كانَ إلى الأمسِ القريبِ يحاربُ دينَ الله، ويغلقُ مساجدَ الله، ويكمّمُ أفواهَ من يتكلَّمُ باسمِ الله. إذا بهِ اليومَ يتكلَّمُ باسمِ الإسلام، ويبرّرُ أعمالهُ باسمِ الإسلام، ويستنصح المسلمين ليسبّحوا بحمدهِ لأنّهُ يسيرُ على صراطِ الإسلامِ.

إنّها لمصيبةٌ فادحةٌ أن نلتفتَ إلى الشّرق، ونلتفتَ إلى الغرب، وإلى ما بينهما وإلى جنوبٍ وشمالٍ لنصغيَ إلى حقيقةِ الإسلام، فنجدَ الإسلامَ ممزّقاً بينَ الآراءِ المختلفة، ممزّقاً بينَ المذاهبِ المتقارعةِ المتعارضة. تُرى: هل يمكنُ للإنسانِ أن يخادعَ حتّى ربَّ العالمين؟ بوسعي أن أخادعَ أخي وزميلي بل بوسعي أن أخادعَ رئيسي. لكن أَفَيُخدَعُ اللهُ سبحانهُ وتعالى؟ المحامونَ كثيراً ما يخادعونَ القوانين، ومن السّهلِ جدّاً أن يعمدَ الإنسانُ إلى جملةِ ألفاظ كُتِبت على ورقة فيتلاعبَ بها ويتأولها، وتلكَ هيَ سرُّ صنعةِ المحامينَ الذينَ لا يتّقونَ اللهَ ولا يلتزمونَ مبدأً أخلاقيّاً في حياتهم. الأمرُ يسير، والقانونُ يمكنُ أن يُخدَع، بل إنَّ واضعينَ القوانينَ ربّما يمكنُ أن يُخدَعوا.

لكن عندما يكونُ القانونُ قانونَ الله، وعندما تكونُ الشّريعةُ شريعةَ الله، وعندما أعلمُ أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ مطَّلِعٌ عَلَيّ، لا تخفى عليهِ منّي خافية: ((ولقد خلقنا الإنسانَ ونعلمُ ما توسوسُ بهِ نفسهُ ونحنُ أقربُ إليهِ من حبلِ الوريد)). كيفَ يمكنُ أن أتصوَّرَ أنّني نجحتُ في هذا الخداع؟ أو أنّني نجحتُ في هذا التّضليل؟ ولقد قالَ الشّاطبيُّ رحمهُ اللهُ تعالى في كتابهِ الموافقات في بابِ النّصوصِ وتأويلِها، قال: (إنَّ صناعةَ التّلاعبِ في النّصوصِ صناعةٌ قديمة، أتقنها بنو إسرائيلَ ذاتَ يومٍ، وهم الذينَ قالَ اللهُ عنهم: ((فويلٌ للذينَ يكتبونَ الكتابَ بأيديهم ثمَّ يقولونَ هذا من عندِ اللهِ ليشتروا بهِ ثمناً قليلاً فويلٌ لهم ممّا كتبت أيديهم وويلٌ لهم ممّا يكسبون)) هذا كلامُ الله. يقولُ الشّاطبيّ: (صناعةُ التّلاعبِ بالنّصوصِ صناعةٌ قديمةٌ سهلةٌ أتقنها بنو إسرائيل)، ويتقنُها اليومَ من يسيرونَ على نهجهم ويتّبعونَ دربهم، من هم؟ هم الذين استهانوا بحُرُماتِ الله، هم الذينَ لم يروا للإسلامِ قداسة، همُ الذينَ كانَ إيمانُهُم إيماناً ظاهريّاً اصطبغت بهِ ألسنتهم، أمّا قلوبهم ففارغةٌ عن مهابةِ الله، فارغةٌ عن الخوفِ من الله، فارغةٌ عن تصوّرِ يومٍ سيقفونَ فيهِ عراةً حفاةً غرلاً بينَ يديِ اللهِ سبحانهُ وتعالى، ولذلكَ هانَ عليهم أن يتلاعبوا بالنّصوص، هانَ عليهم أن يتلاعبوا بكلامِ اللهٍ سبحانهُ وتعالى.

والعوامُّ المساكينُ من المسلمين، من الذي سيحملُ أوزارهم؟ هؤلاءِ العوامُّ الذين انتظروا أن يفهموا الإسلامَ من علماءِ الإسلامِ أو من رؤساءِ الإسلام. ولكنّهم تاهوا بينَ هذه الفتاوى الضّالّةِ المضلّةِ، تاهوا بينَ هذهِ الفتاوى المتناقضةِ المتصارعةِ العجيبة، فعادوا وقد اشمأزّوا من هذا الإسلام، عادوا وقد استخفّوا بهذا الإسلام. منذا الذي سيحملُ أوزارَ هؤلاءِ النّاسِ غداً؟ تلكَ هي المصيبةُ الفادحةُ الكبرى، وهي المصيبةُ التي تقفُ في أُولى درجاتِ قائمة المصائب. أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيم، فاستغفروهُ يغفر لكم...

تحميل



تشغيل

صوتي