مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 07/09/1990

فتنة الحياة الدنيا .. ودورها فيما وصلنا إليه

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

كلَّما مرّتِ الأزمنة، وتقلّبتِ الأجيال، ازدادَ الإنسانُ العاقلُ وثوقاً بقولِ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم: "لقد تركتُ فيكم ما إن تمسّكتم بهِ لن تضلّوا بعدي: كتابَ اللهِ وسنّتي".

كلّما مرَّتِ الأزمنة، وتقلّبتِ الظّروفُ والأحوال، وتكاثرتِ الفتنُ والمصائب، والتفتَ النّاسُ إلى وصايا رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم، وجدوا أمامهم مزيداً من الأدلّةِ والبراهينِ على أنّهم لو تمسّكوا بوصايا المصطفى عليهِ الصّلاةُ والسّلام: فلسوفَ يظلّونَ في حصنٍ حصينٍ ضدَّ كلِّ فتنة، وضدَّ كلِّ مصيبة، ولن ينالهم زلٌّ بعدَ عز، ولن يقعوا في فقرٍ بعدَ غنى. ولكنَّ الذينَ أعرضوا عنِ اللهِ وعن وصايا رسولِ الله: فوقعوا في مغبّةِ إعراضهم هذا.

لقد قالَ المصطفى عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ فيما اتّفقَ عليهِ الشّيخان، عندما رأى المسلمينَ يوماً وقد ابتهجوا لمرأى بعضِ الأموالِ والغنائمِ التي أكرمهمُ اللهُ عزَّ وجلَّ بها، قالَ لهمُ المصطفى عليهِ الصّلاةُ والسّلام عندما رأى استبشارهم: "أبشِروا وأمِّلوا بما يسرّكم، فو اللهِ ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكنّي أخشى أن تُبسَطَ عليكمُ الدّنيا كما بُسطت على الذينَ من قبلكم فتنافسوها كما تنافسها من قبلكم فتهلككم كما أهلكتهم". هذه وصيّةٌ من وصايا رسولِ الله صلّى اللهُ عليهِ وسلّم التي أشارَ إليها عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ في خطبتهِ يومَ حجّةِ الوداع، ويومَ أهابَ بالمسلمينَ أن يتمسّكوا بسنّته. فإن هم فعلوا ذلك لن يتوهُوا، ولن يضلّوا، ولن تمتدَّ إليهم يدٌ من عدوّ. يقولُ عليهِ الصّلاةُ والسّلام في بعضِ ما ورّثنا إيّاهُ من سنّتهِ الشّريفةِ: "أبشِروا وأمّلنوا بما يسرّكم". أي: ستُفتَحُ عليكمُ الدّنيا، وسيأتيكمُ المالُ من كلِّ حدبٍ وصَوب. فلا تخشوا من الفقر، فما من أمّةٍ سعت إلى مرضاةِ الله وسارت على صراطِه، إلا وأكرمها اللهُ بالغنى. لأنَّ اللهَ تعهّدَ ذلكَ لهم بقولهِ: (ونريدُ أن نمنَّ على الذينَ استُضعِفوا في الأرضِ ونجعلهم أئمّة ونجعلهمُ الوارثين). وأكّدَّ هذا بقوله: (من عملَ صالحاً من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمنٌ فلنحيينّهُ حياةً طيّبة). بل أكّدَ ذلكَ مرّةً ثالثةً فقال: (وعدَ اللهُ الذينَ آمنوا منكم وعملوا الصّالحاتِ ليستخلفنّهم في الأرض كما استخلفَ الذينَ من قبلهِم وليمكّننَّ لهم دينهمُ الذي ارتضى لهم وليبدّلنّهم من بعدِ خوفِهم أمناً). لذا قالَ عليهِ الصّلاةُ والسّلام: أبشروا وأمّلنوا فلسوفَ تفتَحُ عليكمُ الدّنيا. ولكن إذا فُتحتِ الدّنيا عليكم، فإنَّ الخطرَ الذي يحدقُ بكم آنذاك ليسَ فقراً فقط، لستُ أخشى عليكم من الفقر، فلن يهلككم فقرٌ أبداً، وإنّما أخشى عليكم نقيضَ ذلك. أخشى عليكم أن تبسط الدّنيا عليكم كما بسطت على من كانَ قبلكم.

ذلكَ هو بركانُ الفقر، ومنهُ يتفجّرُ الدّمار، وبهِ سيكونُ سببُ الهلاك، لماذا؟ لأنَّ المالَ إذا كَثُرَ بينَ أيدي النّاسِ طغوا وبغوا ما لم يلجموا أنفسهم بلجامٍ محكمٍ من شريعةِ الله. وما لم يرتقوا إلى سدّةٍ عاليةٍ من التّربيةِ الإسلاميّة التي يتلقّونها من كتابِ اللهِ عزَّ وجلّ. فإن هم رُبّوا هذه التّربيةَ الإيمانيّة، وألجموا حياتهم بلجامِ الشّريعة، لم يضرَّهمُ المال، بل كانَ خيرَ مطية لهم إلى عز الدّنيا وسعادةِ الآخرة.

ولكن إذا تغلّبَ عنفوانُ المال، فبغا النّاسُ بسببِ هذا المالِ الكثير وطغوا، أورثهم هذا الطّغيانُ بذخاً، ولا بدَّ أن يورثهم البذخ بعدَ ذلك شحّاً به وتكالباً عليه. فإذا تكالبوا على المال وشَحّوا به: تنافست الجماعاتُ الإسلاميّةُ على هذا المال، وتزاحموا عليه. ثمَّ إنّهم يتحاقدونَ ويتهارجونَ ويتخاصمونَ بسببه، ثمَّ إنَّ الدمار ينقدح من ذلكَ الخصام، ويتحوّلُ المسلمونَ بل جماعاتُ المسلمينَ إلى أممٍ متقاتلةٍ متهارجة، فَيَهلَكونَ بسببِ هذا المال. وهذا ما قالهُ عليهِ الصّلاةُ والسّلام: "إنّما أخشى عليكم أن تُبسَطَ الدُّنيا عليكُم كما بُسِطَت على من كانَ قبلَكم فتنافسوها - أي تتنافسونَ عليها - كما تنافسَ عليها - أي من كانَ قبلَكم - فتهلككم كما أهلكتهم".

ترى لو أنَّ أجيالَ المسلمينَ كانوا عندَ وصيّةِ رسولِ اللهِ يومَ ودّعهم في أيّامهِ الأخيرةِ قائلاً: "لقد تركتُ فيكم ما إن تمسّكتم بهِ لن تضلّوا بعدي: كتابَ اللهِ وسنّتي". لو أنَّ المسلمينَ كانوا أُمَنَاءَ على سنّةِ رسولِ اللهِ - بعدَ كتابِ اللهِ تعالى - وحافظوا على وضاياه، وطبّقوها خيرَ تطبيق، وجعلوا من تعاليمهِ عليهِ الصّلاةُ والسّلام خيرَ حارسٍ لسعادته ولعزّتهم، وسهروا ليلهم، وراقبوا لياليهم على تطبيقِ شرعِ اللهِ عزَّ وجلّ. أفكانت تتسرّبُ إليهمُ الفِتن؟ أفكانتِ المصائب تدورُ عليهم كما تدورُ الرّحى على الحبِّ فتطحنهُ طحناً؟ أفكانَ المسلمونَ وقد أورثهمُ اللهُ منَ المالِ والغنى ما لم يعطهِ لأممِ الشّرقِ والغربِ أبداً، أفكانوا يتحوّلونَ وهمُ الأغنياءُ إلى أفقرِ الأممِ على وجهِ الأرض؟ أفكانت أموالهمُ التي ملّكهمُ اللهُ عزَّ وجلَّ إيّاها تتبخّرُ وتزولُ من أيديهم ما بينَ عشيّةٍ وضُحاها لتصبحَ ملكاً لأعدائهم بقضها وقضيضها؟ لو أنَّ المسلمينَ من عبادِ اللهِ كانوا أوفياءَ لوصيّةِ رسولِ الله، وكانوا مطبّقينَ لسنّته. أفكانوا يقعونَ في هذهِ الفتنِ التي نراها من حولِنا اليوم؟ أيُّ عاقلٍ هذا الذي لا يدركُ اليومَ دقّةَ ما أوصى بهِ نبينا؟ أيُّ عاقلٍ لا يؤمنُ أنَّ هذا الذي قالهُ رسولُ اللهِ وحيٌ من عندِ الله؟

متى كانَ رسولُ اللهِ عالماً اجتماعيّاً؟ متى كانَ فيلسوفاً؟ متى كانَ مؤرّخاً؟ متى درسَ علمَ الاجتماعِ حتّى يستخرجَ لنا قواعدَ من أدقِّ قوانينِ علمِ الاجتماعِ في الحياة؟ ولكنّهُ وحيُ اللهِ عزَّ وجلّ.

أوصانا رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بهذا، وانتزعَ الأمانةَ من عنقهِ ووضعها في أعناقِنا ورحلَ إلى اللهِ وهوَ قريرُ العين. ولكن ما الذي حصل؟ وصى الرّعيلُ الأوّل بوصاياه، فأعطاهمُ اللهُ ما تعهّدَ به. واقرأوا التّاريخ: الجيلُ الذي جاءَ بعدَ أصحابِ رسولِ الله، والجيلُ الذي جاءَ من بعدهم أيضاً: كانوا أوفياءَ لوصايا رسولِ الله، كانوا يستخدمونَ المال، وكانوا يستثمرون كلَّ قرشٍ منه، ولكنّهم كانوا يتّخذونهُ مطايا إلى مرضاةِ الله، لم يكونوا يهتمّونَ بالمال، ومن ثمَّ فلم يكونوا يشحّونَ به، ومن ثمَّ فقد كانَ المالُ موزعاً عليهم جميعاً، وكانت مائدةُ المالِ مصفوفةً للمسلمينَ جميعاً.

لم يَضقِ المالُ بأمّةٍ دونَ أمّة. ولذلكَ عاشوا سعداء، عاشوا أغنياء، عاشوا متّحدين، عاشوا أعزّة، عاشوا متآلفين. فما الذي حصلَ بعدَ ذلك؟ خلفَ من بعدهم نسوا بل تناسوا وصيّةَ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم، أهملوا الكلامَ الذي قاله، بل ناشد به رسول الله أمته أن تتمسك به حتى لا تزّل بعد عز وحتى لا تتشتت بعد وحدة ، تكالبوا عليه .. سكروا به وكما قلنا مراراً: البذخ بالمال لا بد أن يولد الشحّ؛ لأن أبواب البزخ إذا فتحت فإن المال مهما كان كثيراً لا يمكن أن يغطي حاجات البذخ التي لا تنتهي، ولذلك فإن الباذخ يشح بالمال ويضن به، ويضيق ذرعاً بمن جاء يطلب شيء منه سواءً أكان جاره الأيمن أو جاره الأيسر.

بزخ المسلمين بالمال وشحوا به فضلوا به، فجاء من يطلب ولكن لم يلقى طلبه موافقةً أو قبولاً، وتنافسوا على المال كما قال رسول الله، وتحولت المنافسة على المال الى تهارج ففتك بعضهم دماء بعض، واستحلوا المحارم التي حرمها الله تعالى، ووقعنا في المغبة، مغبة ماذا؟ مغبة الإعراض عن وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم.

نحن اليوم أفقر الفقراء والمال كله بين أيدينا والكنوز تحت أقدمنا، وأمم الغرب والشرق أغنى الأغنياء وهم الفقراء بالحقيقة؛ ذلك لأن أموالنا بين أيديهم وأن ثرواتنا ملك بنوكهم، ولأن كل ما ورثنا الله عز وجل إياه لم نكن أمناء على تحصليه، فتسرب المال من هنا إلى هناك. ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإنه أهلك من كان قبلكم). ألم يقل رسول الله صلى اله عليه وسلم هذا، ألم يحذرنا رسول الله. والله إنني لأتخيل أن المصطفى عليه الصلاة والسلام يرمق بعينه الحزينتين المعذبتين الدامعتين يرمق بعينه أمته اليوم وقد ضيعت أمانة المصطفى، ضيعت أغلى ما تركه بين يديها في آخر أيامه وهو يودع الأجيال الإسلامية من أمته بل وإخوانه وأصحابه، فيخيل إليّ أن المصطفى عليه الصلاة والسلام يطلق زفرات الحسرة زفرة إثر زفرة من هذه الأمة التي نسيت أمر الله، نسيت شرع الله، نسيت وصايا رسول الله. فوقعت في شر المصائب التي حذر منها. ماذا كان يضرنا وقد أعطانا الله المال الكثير الذي يمتلئ به باطن الأرض، ويفور به ظاهره. ماذا كان يضرنا لو كنا كرماء بالمال؟ ماذا كان يضرنا لو أنا استخدمنا المال في الطريق الشرعي الذي رسمه الله؟ ماذا كان يضرنا لو أنا جعلنا قلوبنا وقفاً على حب الله وأيدينا وقفاً على التمتع بمال الله. ماذا كان يضرنا؟ المال كله كان يبقى لنا والعز كله كان يبقى لنا. وأخوتنا لا يمكن أن تتفكك ووحدتنا لا يمكن أن تنفصل .

ولكن أثرنا أن نجر الهلاك على أنفسنا بأيدينا، لما ملئنا أفئدتنا بحب المال بدلاً من حب الله، ولمّا اتخذنا المال أداة بزخ وترف، اقتضانا ذلك أن نشح بالمال، وأن نضن به وأن نبخل به. وجاءت الفئات الإسلامية التي انطبعت بهذا الطابع ذاته، فتخاصموا وتنافروا وتهارجوا على مال بال.

ثم إن الله عز وجل فجر من مغبة هذا الضلال الذي آثروه على عرش السعادة والعزة التي أكرمهم الله عز وجل.

هل من عاقل يسمع كلام رسول الله ويرى في الكون مصداق ما قاله عليه الصلاة والسلام، ويرى بعينيه ثمرات وصايا رسول الله بالأمس، كما يرى بعينيه ثمرات الإعراض عن وصية رسول الله اليوم، هل من عاقل لا يدعوه عقله إلى أن يرعوي فيصطلح مع رسول الله بعد أن يصطلح مع الله.

هل من عاقل يغشّي عقله الإلحاد لا يخرج إلحاده من عقله ليعود إلى ربه ليقول لبيك اللهم لبيك، هل من إنسان يعي حركة الكون كيف يتحرك ويعود إلى سنن الله في قرآنه كيف ينطق، ثم لا يسجد لله عز وجل وسلطانه ولا يعلم أن الحاكمية لله وأن السلطان سلطان الله. وأن المنهج المنقذ هو منهج الله عز وجل.

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المستغفرين

تحميل



تشغيل

صوتي