مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 24/08/1990

القوة من الله .. والنصر من عند الله

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

إنَّ من أهمِّ العقائدِ التي تنهضُ عليها حقيقةُ الإيمانِ باللهِ عزَّ وجلّ: أن يستيقنَ الإنسانُ أنَّ القوّةَ هي قوّةُ الله، وأنَّ النصرَ كلّهُ إنّما هو من عندِ اللهِ سبحانهُ وتعالى. ولا يحتاجُ المؤمنُ بكتابِ اللهِ عزَّ وجلّ إلى برهانٍ على هذهِ الحقيقة بعدَ نصوصٍ واضحةٍ صريحةٍ قاطعةٍ بهذا في كتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ من مثلِ قولهِ سبحانهُ وتعالى: ((إن ينصُرْكُمُ اللهُ فلا غالبَ لكم وإن يخذُلْكُم فمَنْذا الذي ينصُرُكُم من بعدهِ وعلى اللهِ فليتوكّلِ المؤمنون)). ومن مثلِ قولهِ عزَّ وجلّ: ((أمّن هذا الذي هو جندٌ لكم ينصركم من دونِ الرّحمن إنِ الكافرونَ إلا في غرور)).

وأمّا من لم يؤمن بعدُ بكتابِ اللهِ عزَّ وجلّ فنحيلهُ إلى حقائقِ التّاريخِ النّاطقة، ووقائعِ الدّهر التي لا يمكنُ أن يكذّبها إنسانٌ ولا بيان، وأنا لا أحبُّ أيّها الإخوة أن أملأَ هذه الخُطَبَ المنبريّةَ بقَصَصٍ ولا برواياتٍ تاريخيّة، وليسَ من شأني ذلك. ولكن إن اقتضتِ العبرة، وإذا اقتضتِ الحقيقةُ بيانَ برهانٍ عجزت عن التعويض عنهُ براهينُ الإيمانِ باللهِ عزَّ وجلّ، ونصوصُ البيانِ الإلهيِّ النّازلِ وحياً على رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم، فلا بدَّ من الإشارةِ بإصبعِ استشهاد إلى الوقائعِ التّاريخيّةِ التي لا مردَّ لها ولا مجالَ لتكذيبها.

الدّولةُ الإسلاميّةُ التي غرسها اللهُ بيدِ واحدٍ من عبادهِ في الأندلس دولةٌ إسلاميّةٌ راسخة، من ذا الذي كانَ أساسَ بنائها؟ رجلٌ واحد: اسمهُ عبدُ الرّحمنِ الدّاخل. ولو أردنا أن نضعَ مقاييسَ القوّةِ المادّيّةِ أمامنا: لما رأينا المنطق، ولما رأينا العقلَ ولا العلم إذ نصدّقُ أنَّ رجلاً واحداً كسحَ ظلماتِ الكفر فوقَ أرضٍ واسعةٍ شاسعة وبنى في مكانِها دولةً نورانيّةً إيمانيّةً قامت على أساسِ الإيمانِ باللهِ عزَّ وجلّ. ولكن هذا ما وقع. وظلّت هذه الدّولةُ راسخةً قويّةً تتّسع، ولا يستطيعُ عدوٌّ أن يتسرَّبَ إليها، أو أن يكيدَ لها، أو أن يخطِّطَ عدواناً نحوها. حتّى إذا استغنى ملوك أو رؤساءُ هذه الدّولة، وأفاضَ اللهُ عزَّ وجلَّ عليهم من نعمهِ وخيراته، ركنوا إلى المالِ الكثير، واطمأنّوا إلى الدَّعَةِ والمتعةِ والفجور: فتحوّلت مملكتهم الواحدةُ إلى ما يسمّى بملوكِ الطّوائف. كانوا دولةً واحدة، وتحوّلوا إلى دويلاتٍ صغيرة. لأيِّ سبب؟ بسببِ انصرافهم إلى المجون، إلى البذخ، إلى التّرف، إلى التّقلّبِ في النّعيمِ والاتّجاهِ بهِ على نقيضِ الشّرعِ الذي أمرَ اللهُ سبحانهُ وتعالى.

وقامت هذه الدّويلاتُ المتنافسة، وشاعَ فيما بينها الخصام، ثمَّ شاعَ فيما بينها التّهارج. فأخذت هذه الدُّولُ تستعينُ بأعداءِ اللهِ سبحانهُ وتعالى على أبناءِ عمومتهم، وعلى أبناءِ جلدتهم، وعلى من يقفونَ معهم تحتَ مظلّةِ إسلامٍ واحد، تحتَ مظلّةِ دينٍ واحد. أخذوا يستعينونَ بأعداءِ الله الذينَ طردهمُ اللهُ بالأمسِ من ديارهم، عندما كانوا متمسّكينَ بحبلِ الله، ينتصرونَ بدينِ اللهِ عزَّ وجلّ، يلتزمونَ نهجَ الشّريعةِ الإسلاميّة.

فإلامَ آلَتْ حالُ هذه الملوكِ المتناحرة؟ آلَ حالُهم إلى مزيدٍ من التّهارُج، ثمَّ مزيدٍ من الاضمحلال، ثمَّ إنَّ هذه الدّولة غابت شمسُها بعدَ أن أكرمَ اللهُ سبحانهُ وتعالى المسلمينَ منها بميلادٍ لا يستطيعُ أيُّ منطقٍ أن يفهمَ سرّه، إلا أن يكونَ هو السِّرَّ الرّبّانيَّ القائل: ((إن ينصركمُ اللهُ فلا غالبَ لكم وإن يخذلكم فمنذا الذي ينصركم من بعده)).

الشِّقُّ الأوّلُ من هذا الكلامِ تجسَّدَ في ميلادِ تلكَ الدّولة، والشّقُّ الثّاني ظهرَ وتجسّدَ في غروبِ تلكَ الدّولة..

خذوا العبرةَ يا عبادَ الله. إن لم تريدوا أن تؤمنوا بنصوصِ القرآنِ لأنّها بتصوّرِ البعضِ نظريّة، فانظروا إلى الواقعِ الميدانيّ والتّاريخِ الذي يشهد لهذه الحقيقةِ الرّبّانيّة: (إنَّ الإنسانَ ليطغى*أن رآهُ استغنى).

ولا يوجدُ صمامُ أمانٍ ضدَّ هذا الطّغيان إلا أن تلزم لأمّةُ نفسها بلجامِ العبوديّةِ لله. فإذا لم تلزم نفسها بلجامٍ حقيقيٍّ من معنى العبوديّةِ للهِ عزَّ وجلّ، فلسوفَ يطغيها الغنى. وإذا أطغاها الغنى فلسوفَ يسبِّبُ غناها لها انقساماً على نفسها. يسبّبُ لها المالُ الكثيرُ الوفيرُ أحقاداً تسري فيما بينَها. وتتفرّقُ الأمّةُ الواحدة، وتتحوّلُ إلى دويلاتٍ وشيعٍ وأحزابٍ وفئات. ثمَّ إنَّ كلّاً من هذهِ الفئاتِ تتربّصُ بالأخرى ويذهبُ ريحُها جميعاً. ولا غرابةَ ولا عجبَ بعدَ هذا أن تجدَ فئةً تستنجد، بمن؟ بالعدوِّ المشترك. تستنجدُ بمن؟ بمن قالَ اللهُ سبحانهُ وتعالى للمسلمينَ في حقّهم: ((لا يتّخذِ المؤمنونَ الكافرينَ أولياءَ من دونِ المؤمنين ومن يفعل ذلكَ فليسَ من اللهِ في شيء إلا أن تتّقوا منهم تقاة ويحذّركمُ اللهُ نفسه واللهُ بصيرٌ بالعباد)).

هذا ما حدثَ بالأمس، وتللكَ هي العبرةُ الخالدةُ من ورائها إلى اليوم، بل إلى ما بعدَ اليوم. واسمعوا تلكَ العبرةَ مع هذه الحقيقةِ الرّبّانيّة: ((أمّن هذا الذي هو جندٌ لكم ينصركم من دونِ الرّحمنِ إنِ الكافرونَ إلا في غرور)).

ولا بدَّ أيُّها الإخوة ونحنُ نتكلّمُ عن هذه الحقائقِ التي من شأنِها أن تزيدَ إيمانَ المؤمنِ إن كانَ إيمانهُ ضعيفاً، بل من شأنِها أن توجدَ الإيمانَ في كيانِ الإنسانِ الذي لم يشرق الإيمانُ بينَ جوانحهِ بعد. لا بدَّ أن أضعَ النّقاطَ على الحروفِ في مسألةٍ قد تذكّرنا بحقيقةِ: هل يجوزُ أن يستعينَ المسلمونَ في قتالٍ لهم بعدوٍّ مشترك؟ أي بمشركٍ أو ملحد؟ ها هنا حالتانِ اثنتان:

الحالةُ الأولى: أن يكونَ المسلمينَ مستقرّينَ في دورِهم، مستقرّينَ في أوطانهم في دارِ الإسلام. ويكونَ السّؤالُ هو: هل يجوزُ لنا أن نستقدم أناساً غيرَ مسلمينَ ليحتلّوا دارَ الإسلام باسمِ تقديمِ المعونةِ للمسلمين؟ الجوابُ بإجماعِ العلماءِ قديماً وحديثاً وبنصِّ كتابِ اللهِ عزَّ وجلّ: لا يجوزُ ذلك.

الحالةُ الثّانية: أن يخرجَ المسلمونَ من أرضهم، وأن يتّجهوا إلى دارِ عدوٍّ لهم لقتاله، ويلتقوا هناك مع أناسٍ غيرِ مسلمينَ يقدّمونَ لهم المعونة، ويعرضونَ لهم أن يكونوا شركاءَ لهم في قتالِ هذا العدوّ، والأرضُ التي يجري عليها القتالُ أرضٌ غيرُ إسلاميّة، والمسلمونَ خارجونَ عن دارهم متّجهونَ إلى عدوٍّ لهم. ما الحكمُ في هذه الحالة؟ المسألةُ خاضعةٌ للسّياسةِ الشّرعيّة، فإن رأى الإمامُ المسلمُ المتّقي للهِ والمخلصُ لدينِ اللهِ عزَّ وجلَّ أن لا خطرَ على الإسلامِ والمسلمينَ من هؤلاءِ النّاس، وأنّهم صادقونَ في تقديمِ هذه المعونة، فلا حرج. وإن رأى أنّهم كاذبون، وتصوّرَ ببصيرتهِ السّياسيّةِ أنّهم يكذبون، فعليهِ أن يمتنعَ عن ذلك.

والمهمُّ أن نعلمَ الفرقَ المنصوصَ عليهِ في شريعةِ اللهِ عزَّ وجلّ: عندما أكونُ في دارِ الإسلام، مستقرّاً فوقَ أرضيَ الإسلاميّة، لا يجوزُ لي أبداً أن أستقدمَ أناساً غيرَ مسلمينَ يجثمونَ فوقَ هذه الأرض. فضلاً عن أن تكونَ هنالكَ مكيدة، مكيدةٌ تتجلّى باسمِ المعونةِ ثمَّ إنّها تنتهي إلى ما يشبهُ الاحتلال. أمّا الحالةُ الثّانية فهيَ أن نخرجَ من أرضنا هذه لملاقاةِ عدوٍّ فوقَ أرضٍ أخرى غيرِ إسلاميّة، ويأتي من يقدم نفسه للمعونة معنا، ذلكَ شيءٌ آخر. خرجَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ من المدينةِ المنوّرةِ إلى أُحُد، خرجَ من دارِ الإسلام، ووقفَ فوقَ أرضٍ غيرِ إسلاميّة، وجاءَ من يعرضُ نفسهُ لتقديمِ المعونة. المسألةُ داخلةٌ في السّياسةِ الشّرعيّة.

في حُنَين: في مكانٍ بعيد، مكانٍ حياديّ، بعيدٍ عن أرضِ الإسلام، وبعيدٍ عن أيِّ أرضٍ أخرى أي عن أيِّ مملكةٍ أو أرضٍ كافرةٍ أو أرضٍ غيرِ إسلاميّة، وجاءَ من يقدّمُ نفسهُ لمعونةِ المسلمين، شيءٌ آخر. هذه المسألةُ خاضعةٌ لأحكامِ السّياسةِ الشّرعيّة.

أقولُ هذا حتّى نتبيَّنَ أحكامَ الشّريعةِ الإسلاميّةِ بدقّة، وحتّى نعلم ما هيَ الأحكامُ التي تتعلَّقُ بدارِ الإسلام، وكيفَ ينبغي أن نحصِّنَ دارَ الإسلام. ضدَّ أيِّ إصبع تريد أن تتسرب، وضدَّ أيِّ كائدٍ يريدُ أن يتقنّعَ باسمِ الحمايةِ والرّعاية. ينبغي أن نعلمَ هذا.

والأهمُّ من هذا كلّهِ أن ندركَ أنَّ يومنا الذي نحنُ فيهِ أشبهُ ما يكونُ بأمسِنا الدّابر. وأنَّ دولةً إسلاميّةً كدولةِ الأندلس تحملُ على كاهلها عبراً طويلةً ينقضي الدّهرُ ولا تنقضي هذه العبر، تجسد حقيقةَ كتابِ اللهِ عزَّ وجلّ، وتجسد واقعَ السّنّةِ الرّبّانيّة: دولةٌ إسلاميّةٌ واحدة، ما الذي بددها؟ البزخ والترف والمجون، ما الذي جعلَ عتاة ملوكَ الطّوائفِ يتهارجونَ ويتخاصمونَ ويستعينُ كلٌّ بالفرنجةِ من أعداءِ دينِ اللهِ على صاحبه؟ تحوُّلهم عن الانتصارِ لدينِ الله، ووقوفهم عندَ الانتصارِ للذات، عندَ الانتصارِ للنّفس.

هذا الواقع ينبغي أن نعلمه، وهو واقع متكرر، إذا رأيتم أنَّ المسلمينَ أصبحوا دويلاتٍ متهارجةٍ متخاصمة: فاعلموا السّبب، وإن عزَّ أن تعلموه افتحوا أعينكم لتروا السّبب. وإن رأيتم أنَّ هؤلاءِ المسلمين وصلوا من الذّلِّ والهوان إلى درجةِ أنّهم يستعينونَ بأعدائهم التقليدين، فاعلموا السّبب، وتبيّنوا أنَّ دينَ اللهِ سبحانهُ وتعالى لا توجدُ لهُ أيُّ مكانةِ اعتزاز بينَ جوانحنا، إنّما جوانحُنا مستعمرةٌ لأهوائنا، مستعمرةٌ للهونا، مستعمرةٌ لليالينا، مستعمرةٌ لبذخنا وترفنا، تلكَ هي المصيبة. وإذا كانت هذه المصيبةُ جاثمةً مستقرّة: فما أطولَ الليلَ المظلمَ الذي قد نخوضُ فيه. أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيم لي ولكم...

تحميل



تشغيل

صوتي